- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
في غياب تنوّع اقتصاد إقليم كردستان الريعي سيزداد تشاؤم شبابه
تمثّل إرث الحكم الذاتي الكردي خلال السنوات الثماني والعشرين الماضية لغاية الآن بإقليم سياسي واقتصادي متعثّر حيث يُحرم الشباب الكردي من حب الوطن. وقد دفع الاقتصاد الريعي الذي يتميز به إقليم كردستان بصنّاع السياسة فيه إلى التفكير في المكاسب السياسية القصيرة الأمد، وغذى نظامًا قائمًا على علاقة الزبون-العميل مترسخًا أساسًا في النظام الاجتماعي-السياسي الكردي، ما ساهم في بناء تصوّر سائد عن فساد غير مسبوق في الإقليم.
وخلال زيارة قمتُ بها مؤخرًا إلى كردستان العراق، بدت المؤشرات في الظاهر إيجابية بالنسبة لاقتصاد الإقليم. فقد رأيت طرقات مكتظة وسوبرماركات ومطاعم ومقاهيَ مزدحمة ومناطق سياحية تعجّ بالسياح. وقد أفاد مالك أحد المقاهي أنه تمّ افتتاح نحو 124 مقهىً جديدًا في السليمانية منذ العام 2018، كما انتشر عدد من المطاعم في أجزاء مختلفة من السليمانية وإربيل.
وفي الظاهر، يمكن تفسير هذه المؤشرات على الاستهلاك المتزايد بأنها دليل على تحسّن الاقتصاد منذ 2015، حين أقفلت العديد من المطاعم أبوابها وقلّ المارة على الطرقات، ولا سيما في ظل عدم تقاضي موظفي القطاع العام أجورهم. لكن حتى هذا النجاح الاقتصادي الظاهري الجديد يبيّن المشاكل الشاملة التي تواجه اقتصاد كردستان العراق. فنجاح الإقليم الاقتصادي يعتمد بشكل خطير حاليًا على النفط، وهو وضع أثبت أنه كارثي بالنسبة لإقليم كردستان في الماضي.
فإقليم كردستان العراق لا يزال مثالًا نموذجيًا على اقتصاد ريعي حيث توفّر الدفعات الكبيرة من الميزانية الوطنية العراقية والنفط الذي يصدّره الإقليم بنفسه مداخيل يتمّ ضخها في اقتصاده الهش. لكن لهذه التدفقات النقدية الوجيزة أثر سلبي على إجمالي النمو حيث تشهد الأسواق وقطاعا العقارات والخدمات ارتفاعًا في الأسعار في وقت تُقفل فيه المصانع أبوابها ويتراجع أداء قطاع الزراعة. ووفق عضو البرلمان الكردستاني دابان محمد، خسر أكثر من 25 ألف شخص وظائفهم في محافظة السليمانية بسبب إقفال نحو 1350 مصنعًا من أصل 1550. وعزا سبب هذا الإقفال إلى خفض حكومة إقليم كردستان للإعانات وارتفاع أسعار الوقود وزيادة الضرائب وأخذ المسؤولين المحليين الأموال من المصانع بطريقة قسرية.
هذا ويقدّم القطاع الزراعي في الإقليم أداءً أسوأ حتى؛ فلم يعد المزارعون قادرين على المنافسة في وجه أسعار المنتجات المنخفضة المستوردة من الدول المجاورة. وقد أظهر مقطع فيديو يتمّ تداوله عبر وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام الكردية هذا الاستياء حيث عرض إقدام مزارعيْن كردييْن على رمي محصولهما من الطماطم معربين عن استيائهما من الأسعار المتدنية للغاية ومحتجيْن على سماح الحكومة باستيراد منتجات أرخص ثمنًا من دول مجاورة.
أما في القطاع العام، فقد أسس الاقتصاد الريعي أرضية خصبة لانتشار الفساد. فقد أُبقيت إيرادات النفط مخفية عن الشعب حيث أن عددًا قليلًا فقط من كبار المسؤولين في الحكومة على علم بالإيرادات الفعلية التي تحصل عليها حكومة إقليم كردستان من مبيعات النفط ومشتقاته. وتذمّر العديد ممن أُجريت معهم مقابلات من واقع أن مسؤولي الأحزاب يملكون حصصًا كبيرة في قطاع النفط من خلال شبكاتهم الشخصية، وأشاروا إلى أن هؤلاء المسؤولين يسيطرون على حقول النفط بشكل قانوني عبر إبرام عقود مع شركات نفط أجنبية بموجب آليات مشاريع مشتركة.
وبالتالي، فإن التوزيع غير العادل للثروات في إقليم كردستان واضح للعيان حيث أن بعض النخب تسرف في الاستهلاك بشكل فاضح في حين أن الكثيرين بالكاد يتدبرون حاجاتهم الأساسية. بعبارة أخرى، يعود انقسام إقليم كردستان المتنامي إلى تفاوت الثروات أكثر منه إلى السياسة عندما يتعلق الأمر بالطبقة الحاكمة والمجتمع. غير أن الفوائد التي قد تجنيها النخبة من السيطرة على الاقتصاد الريعي تساعد على الحفاظ على الوضع القائم.
وقد ترك مزيج تفاوت الثروات والفساد المستشري في إقليم كردستان أثرًا سلبيًا فادحًا على شباب الإقليم. فقد أعرب الذين أُجريت معهم مقابلات عن فقدان ثقتهم بمؤسسات الإقليم سواء بنظام الحكم أو الانتخابات أو الاقتصاد أو حتى التعليم. وفي الحالة الأخيرة، أشار الكثيرون إلى المتخرجين في السنوات العديدة الأخيرة الذين لا يزالون عاطلين عن العمل أو عملوا في قطاعات لا تتناسب ومجالات اختصاصهم أو تطلعاتهم. وأصبح الاعتقاد الشائع في أوساطهم بأن تحقيق أحلامهم لن يكون سوى من خلال الهجرة إلى أوروبا أو أمريكا الشمالية. كما عزا عدد كبير من الذين أُجريت معهم مقابلات سبب الركود واليأس إلى النظام السياسي في الإقليم.
أضف إلى هذا حالة الفوضى الكاملة على المستوى السياسي، إذ لم يتمكن حتى الآن أي زعيم بعد الاستفتاء على الاستقلال في 2017 من وضع رؤية جديدة وبديلة لمستقبل شباب الإقليم. ويؤثر غياب مفهوم شامل لمستقبل الإقليم سلبًا بشكل خاص على حس الشباب الكردي بالارتباط بالإقليم، وقد أدّى إلى اندلاع أزمة هوية معقدة ومليئة بالتحديات في أوساط الجيل الجديد. وبدأ الأكراد العراقيون الشباب يشككون حتى بحب وطنهم الذي كان في ما مضى مكونًا أساسيًا ميّز الإقليم.
إن التشاؤم الذي رأيته في أعين الشباب الكردي غير مسبوق ويجب اعتباه ردًا على فشل القادة الأكراد في تحقيق نتائج ملموسة تتماشى مع المسار الاقتصادي والقومي الذي روّجوا له. فالاستياء المزدوج إزاء الاقتصاد الراكد والرؤية السياسية القاتمة يقوّض آمال الأكراد اليافعين ويشير إلى ضرورة أن تبحث حكومة إقليم كردستان بشكل فوري عن بدائل لتحسين علاقتها بهذه الشريحة الحيوية من السكان.
كيف يمكن لحكومة إقليم كردستان المساعدة
بحسب موقع حكومة إقليم كردستان الإلكتروني الجديد، تتمثل إحدى أهم أولويات الحكومة الجديدة في تنويع اقتصاد الإقليم بعيدًا عن النفط والعمل على استحداث فرص في قطاعات الصناعة والزراعة والسياحة. لكن في الأشهر العديدة السابقة التي تولت خلالها الحكومة الجديدة مهامها، عجزت عن وضع خطة عمل متينة تُظهر المسار الذي ستتبناه باتجاه تنوّع الاقتصاد. فحكومة إقليم كردستان تفتقر إلى الخبرة والمؤشرات العامة على أنها تمكّنت من تحديد العوائق أمام التنوّع، ما يقوّض الثقة بقدرتها على تخطي التحديات الحالية في قطاعي الزراعة والصناعة.
وربما يكون السبيل الأفضل أمام تشكيل مجلس استشاري حول التنوّع الاقتصادي يكون بمثابة مؤسسة مستقلة ترتبط مباشرة بمجلس الوزارات في الحكومة. ويجب أن يضمّ هذا المجلس خبراء من حقول متعددة الاختصاصات بما فيها الاقتصاد والسياسة والحوكمة والموارد الطبيعية. ويتعيّن أن تبدأ استراتيجيتهم بالتواصل مع العمال الأكراد العاديين – أي الاجتماع مع رواد الأعمال والتصنيع المحليين، والمزارعين والخبراء المحليين ومنظمات المجتمع المدني لتحديد الحواجز التي تعيق نجاح الشركات والمصانع والمزارعين الصغار في الإقليم. واستنادًا إلى مدخلاتهم، يمكن للمجلس تقديم توصيات إلى الحكومة لمباشرة خطة التنوّع على أساس تدريجي.
كما يتعيّن على حكومة إقليم كردستان اتخاذ خطوات كبيرة لمواجهة ممارسات الفساد الفادحة في قطاع النفط وضمان النفاذ العادل لشركات محلية غير حزبية وشركات أجنبية من أجل الاستثمار في البناء والزراعة والسياحة والتصنيع. وفي ظل تنامي التصوّر ببروز فرص متساوية، من المرجح أن تؤدي منافسة أكبر إلى استحداث وظائف على نطاق واسع.
هذا ولا بدّ من التركيز أيضًا على أن تطال الإصلاحات الاقتصادية كامل إقليم كردستان وألا تقتصر على مناطق قليلة. فتركُّز الاستثمارات حاليًا في إربيل أثّر سلبًا على باقي الإقليم ليس فقط من الناحية الاقتصادية بل السياسية والاجتماعية أيضًا.
أما على الصعيد الأمني، فعلى حكومة إقليم كردستان فرض سيادة القانون من خلال دعم الشرطة والنظام القضائي. وعليها العمل على الحدّ من تدخل "الحزب الديمقراطي الكردستاني" و"الاتحاد الوطني الكردستاني" السياسي في هذين الجهازين، وإلا ستتعثر جهود الإصلاح والتنوّع الاقتصادي ولن تكون مجدية في نهاية المطاف.
أخيرًا، من المهم أن تُعدّ حكومة إقليم كردستان برامج تعليمية وتنظّم مؤتمرات وندوات للمساعدة على تغيير طريقة تفكير الشباب في ما يتعلق بفرص العمل. فقطاع النفط في إقليم كردستان رسّخ ذهنية أنه يحق للمتخرجين استلام وظائف في القطاع العام مباشرة بعد تخرجهم. فهذه الذهنية تطرح معضلة كبيرة تعاني منها معظم الدول المنتجة للنفط. غير أن تغيير هذه الذهنية هو عنصر أساسي آخر لتنشيط وتنويع اقتصاد الإقليم.
فرصة للدعم الخارجي
يمكن للولايات المتحدة والحكومات الغربية المساعدة أيضًا في توجيه الإقليم نحو اقتصاد أقوى من خلال جعل المساعدات المقدمة إلى إقليم كردستان مشروطة بتقديم أدلة ملموسة على إصلاحات اقتصادية وسياسية. وقد تساهم اجتماعات منتظمة بين سياسيين أكراد ودبلوماسيين ومسؤولين عسكريين أمريكيين فعليًا في إعاقة التغيير، إذ تضخّم وسائل الإعلام الحزبية مثل هذه الاجتماعات وتقدّم تصورًا خاطئًا إلى الشعب الكردي عن اعتراف ودعم دوليين وغير مشروطين للوضع القائم. وبغض النظر عن الواقع، فسكان إقليم كردستان لا يعتقدون أن التغيير الداخلي ممكن من دون مساعدة ودعم واشنطن.
لهذا السبب، من المهم للبعثات الدبلوماسية الأمريكية والغربية في العراق وإقليم كردستان أن تصيغ بوضوح موقفها إزاء الحوكمة والديمقراطية وحرية التعبير في إقليم كردستان العراق. ويجب أن تأخذ هذه البعثات في الحسبان أيضًا عدم إضفاء الشرعية على مسؤولي الأحزاب غير المنتخبين من خلال الالتقاء بهم في العلن. وفي حين قد تكون الاجتماعات مع هؤلاء المسؤولين ضرورية في إطار الدبلوماسية، تسمح الاجتماعات الخاصة لدبلوماسيين أجانب بتحقيق أهدافهم من دون تقويض الديمقراطية الناشئة في إقليم كردستان.
وبهدف إحياء شعور إحراز تقدم في أوساط الأكراد – لا سيما الأجيال الشابة – يمكن لحكومة إقليم كردستان والمسؤولين الدوليين على السواء اتخاذ خطوات ملموسة واضحة للمساعدة على تخطي بعض التحديات السياسة والاقتصادية التي يواجهها الإقليم. وفي نهاية المطاف، إلى حين تحقيق ذلك، وإلى حين نجاح حكومة الإقليم في الابتعاد عن اقتصاد ريعي، سيتنامى استياء الشعب من حكومته.