- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
في ظل انقطاع الإنترنت في السودان، المعرفة قوة
بعد يومين من وقوع مجزرة 3 /يونيو 2019 التي قتل فيها ما يقرب من 118 شخص وفقا لآخر احصائيات، عمد المجلس العسكري الانتقالي الحاكم في السودان(المجلس العسكري) الذي ينظر إليه عمومًا استمرارا لنظام الرئيس المخلوع عمر البشير، إلى "قطع الإنترنت بشكل شبه كامل" عن البلاد متذرعا بحماية الأمن القومي والحد من الأخبار المزيفة. ولكن يرى العديد من المحللين السياسيين أن المجلس العسكري يحاول التعتيم على قمع الثورة باستعمال العنف المفرط في مواجهة المظاهرات والوقفات السلمية و كبح المد الثوري المتصاعد
أما في الجانب الاقتصادي فقد تجاوزت خسائر الافراد والشركات جراء انقطاع الإنترنت لمدة أسبوعين أكثر من 900 مليون دولار، وهو مبلغ لا يستطيع النظام تحمل خسارته في ظل الأزمة الاقتصادية التي أسهمت في تأجيج التظاهرات الأولية في كانون الأول/ديسمبر 2018 والخسائر مرشحة للزيادة. يبدو أن المجلس العسكري عند اتخاذه هذه الخطوة ركز استراتيجيا على الاعتبارات السياسية مغفلا التبعات الاجتماعية والقانونية والاقتصادية والأخلاقية لهذا القرار. صحيح أن نسبة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في السودان في حدود %7 ولكن يتداخل مستخدموها الأكثر نشاطًا بشكل كبير مع المتظاهرين وتتشارك العديد من الأسر والمجموعات في المدن والمناطق الريفية جهاز واحد لمتابعة الأخبار علاوة على النقل الشفاهي او عبر الرسائل للأخبار المتداولة في وسائط التواصل الاجتماعي وعليه فإن الإحصائيات الرسمية لا تعكس الأثر الفعلي للإنترنت. فمنذ بداية الثورة لعب واتساب وتويتر وفيسبوك دورًا أساسيًا في تداول معلومات تفضح النظام وتم نشرها على المستويين الداخلي والخارجي وهي حقيقة يعيها المجلس العسكري تماما.
وقد عايشت وقع الازمة عندما اضطررتُ شخصيًا، بالاتصال من واشنطن،لتحذير عائلتي المقيمة في السودان، من أن قوات الدعم السريع، وهي الميليشيات المتهمة في ارتكاب مجزرة 3 حزيران/يونيو، قد وصلت إلى حيّها, وفي ظل تعذر الاتصال عبر الانترنت اجريت اتصال عبر الهاتف استغرق وقتا طويلا أجهض محاولاتي لدرء الخطر الماحق.
ففي الوقت الراهن، من غير الممكن إجراء اتصالات محلية ودولية إلا من خلال خطوط الهاتف وحتى هذه يتعذر التواصل عبرها بسبب زيادة الضغط على الشبكة بسبب انقطاع الانترنت. داخل السودان، يعتمد المواطنون حاليًا في تواصلهم الخارجي على المكالمات الهاتفية باهظة الكلفة والرسائل النصية القصيرة. فكما أخبرني أحد الأقارب في السودان لديه مصادر موثوقة: "لن تعيد قوات الدعم السريع (وهو مسمى أطلق مؤخرا على مليشيا الجنجويد) الإنترنت لأن ذلك سيؤدي إلى انتشار فضائح مرتبطة بها وبالمجلس العسكري الانتقالي ".
يندرج انقطاع الإنترنت الحالي في السودان ضمن السياق الأوسع لمحاولات المجلس العسكري الانتقالي لتقييد الوصول إلى المعلومات. ويسلط هذا النمط الضوء على الحاجة لنشر التوعية والمعرفة بشأن السودان، خصوصًا لصانعي السياسات الأمريكيين، تيسيرًا للمناقشات المستنيرة الجوهرية لتطوير حلول للتحديات الراهنة التي يواجهها السودان.
وفيما حال انقطاع الإنترنت دون وصول المعارضة السودانية إلى جمهور أوسع، تدخلت الجاليات السودانية ولعبت دورًا أساسيًا في نشر التوعية حول التطورات الراهنة. وكسبت مجهوداتهم زخما أكبر من خلال مشاهير من الصف الأول عبروا عن تضامنهم أيضًا مع الحركة.
وهكذا، اجتاحت هاشتاغات مثل #انتفاضة السودان (#SudanUprising) و#ثورة أنا السودان (#IAmTheSudanRevolution) تويتر وإنستغرام. ودفع هاشتاغ #الأزرق من أجل السودان (#BlueForSudan) الكثير من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، السودانيين وغير السودانيين، إلى تغيير صور ملفاتهم الشخصية إلى لون أزرق كان محبوبًا من قبل المتظاهر السوداني الشهيد الذائع الصيت محمد هاشم مطر، الذي قُتل خلال عمليات القمع في حزيران/يونيو.
لقد رحب السودانيون داخل البلاد بالوعي الأوسع الذي قدمه هذا الدعم لصراعهم. ولكن التعاطف والإدانة عبر الإنترنت لن يجديا نفعًا إذا لم يترافقا مع معرفة وفهم أوسع للسياق السياسي في السودان، لاسيما من قبل صانعي السياسات الأمريكيين. فغياب الفهم العميق لطبيعة تكوين المجلس العسكري وخلفيته السياسية والأيديولوجية وزراعه العسكري قوات الدعم السريع، يجعل انقطاع الإنترنت مخاطرة محسوبة بنجاح بالنسبة إلى المجلس العسكري الانتقالي المستعد للقيام بها.
حاليًا، أنتجت الحرب التي يشنها النظام على الوصول إلى المعلومات، على الجبهتين المحلية والدولية، فتورًا وقلة وعي نسبيين، معززة بذلك استمرارية المجلس. فغياب المناقشات المستنيرة حول السياق السياسي في السودان، على الإنترنت أثر سلبيا على مساعي التوصل إلى أي خارطة طريق من شأنها تحقيق السلام والعدالة في السودان.
واستجابةً لهذه المسألة، نشأت منظمة جديدة في المجتمع المدني تحت تسمية Sudan In The News ("السودان في الأخبار"). تسعى هذه المنظمة إلى نشر الوعي المستنير حول السودان وتشجيع المناقشات المستنيرة بين المراقبين السياسيين التي تسمح بإيجاد حلول عملية.
تم إطلاق مشروع Sudan In The News من قبل مستشارين في الاتصالات، يدركون تمامًا كيف تستخدم الحكومات المستبدة الرقابة على المعلومات كأداة لتحقيق أهدافها السياسية. انطلاقًا من هنا، يستخدم هذا المشروع طرقًا مماثلة لدعم الحركة الديمقراطية في السودان، عبر تقديم معلومات مفيدة لصحفيين يمكنهم تعميم أصوات الناشطين ومراقبين سياسيين يمكنهم العمل لصالحهم.
تُعتبر هذه الجهود أساسية نظرًا لتركيز المجلس العسكري الحاكم على التأثير على وسائل الإعلام الغربية الرئيسية. فبحسب أحد مصادر Sudan In The News ذات الصلات الواسعة، يستهدف قسم الاتصالات في المجلس العسكري الحاكم في السودان الصحف الغربية من أجل تعزيز صورته في الغرب على أنه الخيار الأكثر قدرة على تأمين "الاستقرار" في السودان، ويطرح نفسه على أنه البديل العملي الوحيد لـ "للحركات المسلحة" و"الإسلاميين". تبلورت هذه الجهود الرامية إلى تلبية احتياجات مصادر الأخبار الغربية في مقابلة مع صحيفة "فاينانشال تايمز" (Financial Times)، زعم خلالها عضو المجلس العسكري الفريق أول صلاح عبد الخالق أن الجيش "يحرص على عدم استعادة النظام الإسلامي لزمام السلطة لأنه تسبب لنا... بالكثير من المشاكل مع العالم الحر".
يقوم المجلس العسكري الحاكم في السودان باستنساخ الدليل الدعائي للنظام المصري، ويستغل الميل إلى إغفال الاختلافات السياقية عند تعميم المشاكل التي تواجهها الدول المجاورة. ولسخرية القدر، إن “الإسلاميين" والحركات المسلحة الذين يزعم الجيش بأنه سيبقيهم بعيدين هم فعليًا إما متحالفين مع المجلس العسكري بذاته أو ابدو استعدادا للتعاون معه وبناء شراكة استراتيجية.
إن الطريقة الأكثر فعالية لمناهضة خطوة المجلس تتمثل في تيسير الوصول إلى المعلومات بشكل أفضل ونشر التوعية حول الواقع السياسي في السودان. فضمان توفر معلومات موثوقة لصانعي السياسات الأمريكيين يُعتبر أساسيًا بشكل خاص ليفهموا العيوب الكامنة في حجة "الأمن والاستقرار" التي يتذرع بها المجلس العسكري الحاكم. كما أن الفهم الموضوعي لوضع السودان، غير المكوّن من قبل المجلس العسكري الحاكم، سيسمح للولايات المتحدة بصياغة حل دبلوماسي على أفضل نحو، يلبي المصالح الأمريكية ويرسى الاستقرار الفعلي في السودان.
في الواقع، يدحض فرية "الاستقرار" التي يطلقها المجلس العسكري الطبيعة غير المستقرة والمؤدلجة للمؤسسة العسكرية التي ينتمي إليها. فهذه المؤسسة تعد ارثا مستمرا لمحاولات الرئيس المخلوع للحد من مخاطر حصول انقلاب من خلال بناء جهاز أمني متضخم ومجزأ في آن. فالسودان يعوز البنية العسكرية المتماسكة لتوفير الاستقرار على خلاف الحال في مصر.
تجلت هذه التجزئة خلال مجزرة 3 حزيران/يونيو. فميليشيا قوات الدعم السريع، التي يقودها نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي في السودان الملقب بـ "حميدتي"، هي الملامة بشكل واسع على هذه المجزرة التي حصدت تعاطفًا عالميًا. وتجدر الإشارة إلى أن البشير قد عزز قوات الدعم السريع لخلق ثقل موازن في وجه العناصر المنافسة من الجهاز الأمني في السودان، وهي الجيش وجهاز الأمن والمخابرات الوطني.
قدمت Sudan In The News أدلة على توقع حصول المجزرة وحرب أهلية محتملة من قبل مراقبين سياسيين، قبل وقت طويل من مجزرة 3 حزيران/يونيو. فالمقالات التي نُشرت بين 11 نيسان/إبريل و24 أيار/مايو حذرت من نشوب نزاع ضمن الجهاز الأمني المفكك في السودان بالرغم من ادعاءات المجلس العسكري بالتماسك وسلطت بشكل خاص الضوء على الخطر المتمثل بمحاولة قوات الدعم السريع توجيه رسالة إلى خصومها عبر ارتكاب مجزرة في الخرطوم.
ولكن المقالات لم تجمع ما بين طروحات المراقبين المختلفين لتشكل رؤية منسجمة وواضحة عن انعدام الاستقرار العسكري، وبالتالي، لم يلاحظ مراقبون خارجيون كثر الاتجاه نحو التجزئة العسكرية في وجه رسائل الوحدة التي ينشرها المجلس العسكري الحاكم. لو وصل هذا التحليل بوضوح إلى صانعي السياسات الأمريكيين، كان من الممكن ربما تفادي المجزرة. ولربما استطاعت الولايات المتحدة أن تحث الداعمين السعوديين-الإماراتيين لقوات الدعم السريع على استخدام نفوذهم المالي للسماح للعملية الانتقالية بقيادة المدنيين بإنهاء الأزمة من دون سفك دماء لو أدرك المعنيون بأن مجزرة كانت تلوح في الأفق.
بالمقابل، يتزايد احتمال اندلاع حرب أهلية في السودان، وقد تسمح أي نقاط ضعف داخلية للمجموعات الإرهابية الدولية بالازدهار. فتنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (تنظيم "داعش") سبق أن أعلن عن نيته باستغلال أي مذبحة محتملة داخل البلاد. ولكن الوصول بشكل أفضل إلى المعلومات يمكن أن يشكل أساسًا لحل يمنع بشكل استباقي مثل هذه العواقب المكلفة، التي لن تصب في مصلحة الولايات المتحدة، ولا مصالح حلفائها السعوديين والإماراتيين والمصريين.
في نهاية المطاف، إن الفهم المتعمق للسياق السياسي في السودان وتكثيف المناقشات المستنيرة بين الوكالات الأمريكية، سيساعدان الولايات المتحدة على أن تشرح لحلفائها العرب فكرة أن الانتقال الديمقراطي في السودان بقيادة المدنيين هو الأساس، وليس العقبة، للاستقرار الإقليمي.
لا يمكن لصانعي السياسات الأمريكيين الاعتماد على التفكير المنطقي الأخلاقي لإقناع حلفائهم العرب بأن يسمحوا بحصول انتقال بقيادة المدنيين في السودان، بما أن هذه الدول لا تنظر إلى مكانة الولايات المتحدة كبطل ديمقراطي عالمي إلا كعائق أمام الاستقرار الإقليمي. ولكن مصر لا تريد أن يصل تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (تنظيم "داعش") إلى عتبة دارها، فيما لا تستطيع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أن تتحمل تكاليف الاستثمار في حروب في كل من اليمن والسودان، في ظل إصلاحات اقتصادية محلية مكلِفة.
لقد ساهمت المناقشات المستنيرة في ما سبق في إيجاد حلول عملية. فكاميرون هدسون من المجلس الأطلسي شدد بشكل مستمر على الحاجة لإرسال مبعوث أمريكي خاص إلى السودان، وكرر ذلك بلهجة شديدة في مقالة بمجلة "فورين بوليسي" (Foreign Policy) رد فيها مباشرةً على المجزرة. وبعد أسبوع من نشر هذه المقالة، تم إرسال الدبلوماسي المخضرم دونالد بوث كمبعوث خاص إلى السودان.
يشكل إرسال بوث خطوة أولى هامة لتكوين فكرة أوضح عن الواقع والمعلومات الصادرة من جهات غير تابعة للمؤسسات المرتبطة بالحكم. واليوم، يجب على صانعي السياسات الأمريكيين أن يعترفوا بانقطاع الإنترنت في السودان على أنه فعل نظام يائس يهدف إلى شراء الوقت وإظهار قدرة النظام على ضمان الأمن أمام مموليه السعوديين-الإماراتيين. ويجب ألا يقع صانعي السياسات في فخ المعلومات الخاضعة لسيطرة المجلس العسكري الحاكم، إذ ينبغي أن يفهموا بشكل أوضح السياق السياسي في السودان عن طريق مصادر مستقلة من أجل تنظيم ثروة المعرفة والخبرة التي ما زالت متاحة بالرغم من جهود المجلس العسكري الحاكم.
على ضوء هذه المعرفة، يُفترض بصانعي السياسات الأمريكيين بالتالي أن يقنعوا حلفائهم العرب على أن المجلس العسكري ليس جديرًا بالدعم وأن يدحضوا أي حجج مفادها ان بإمكانه تعزيز الاستقرار من خلال منع الوصول إلى المعلومات، بل على العكس تماما سيكشف الوصول للمعلومات ان المجلس العسكري هو من يشكل حاليًا أكبر تحدٍّ أمام الاستقرار في السودان.
يسرا خليل محللة سياسات واتصالات، تتمتع بخبرة واسعة في منظمات المجتمع المدني المتخصصة في السياسات وبناء السلام والتنمية.