- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
هدوء تام على الجبهة الجهادية في شمال أفريقيا
Also published in "كارافان"
يتناقض تضاؤل النشاط الإرهابي في المنطقة تناقضًا حادًا مع حال أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ولكن تغير الديناميات المحلية وعوامل أخرى يمكن أن تعيد إحياء التهديد بسرعة.
في أعقاب الانتفاضات العربية في عام 2011، أصبح شمال أفريقيا (ليبيا وتونس على وجه الخصوص) بؤرة للتعبئة الجهادية على نطاق واسع. ومع ذلك، بعد مرور أكثر من عقد، ساد هدوء نسبي في كل من البلدين والمنطقة بشكل عام، على الأقل في ما يتعلق بالجهادية، وذلك خلافًا للقوة المتنامية للحركة الجهادية في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. يساعد استشفاف تطور الحركة ووضعها الحالي في شمال أفريقيا على تقديم نظرة ثاقبة تسبر آفاقها المستقبلية.
الجهادية في ذروتها في شمال أفريقيا بين عامَي 2011 و2016
بعد الإطاحة بزين العابدين بن علي، الرئيس التونسي السابق، ومقتل معمر القذافي، الزعيم الليبي، تأسس في تونس وليبيا عدد من جماعات "أنصار الشريعة"، التي كانت واجهات لتنظيم القاعدة، كما بُذِلت جهود مماثلة، ولكن غير ناجحة في المغرب. وعلى نحو مماثل، حاول تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" المتمركز في الجزائر الاستفادة من البيئة الإقليمية المتغيرة، لكن الدولة الجزائرية استمرت في إضعاف قدراته. وبدلًا من ذلك، انتهى الأمر بالتنظيم بأن يصبح أكثر صلة بالتمرد في مالي في العقد التالي.
وفي السنوات التي أعقبت الانتفاضات، ركزت جماعة "أنصار الشريعة" في ليبيا وتونس في المقام الأول على نهج الدعوة أولًا، وشددت على التوعية والخدمات الاجتماعية والحوكمة البدائية. وبعد أن وجدت جماعة "أنصار الشريعة" في ليبيا نفسها في خضم بيئة حرب أهلية، شاركت أيضًا في نشاط المتمردين ضد أعدائها. كما وفرت القدرة على التجنيد العلني (والتدريب في الحالة الليبية) فرصًا جديدة للجهادية للتوسع في المنطقة. في سوريا، حيث سيطرت "جبهة النصرة"، التابعة لتنظيم "القاعدة" ولاحقًا لتنظيم "الدولة الإسلامية" ("داعش")، وفرت الجهادية تعبئة واسعة النطاق للمقاتلين الأجانب. ولهذا السبب، شهدت تونس، على وجه الخصوص، تعبئة غير مسبوقة وواسعة النطاق إلى سوريا بين عامي 2012 و2017.
شاركت المجموعتان في هجمات ضد المصالح الأمريكية، وأدت الطبيعة العنيفة لأيديولوجياتهما ورغبتهما في زرع الخوف والاضطرابات، كوسيلة لتحقيق نموذجهما الخاص للدولة الإسلامية، إلى مواجهة حتمية مع الولايات المتحدة. وشكل الهجوم السافر على القنصلية الأمريكية في بنغازي والهجوم الأقل شهرة على السفارة الأمريكية في تونس في أيلول/ سبتمبر 2012 مثالين بارزين على ذلك وأفضيا إلى زيادة الجهود للقضاء على المنظمتين. ونتيجة للضغوط المحلية، شهدت المنطقة ارتفاعًا في عدد المقاتلين الذين توجهوا إلى سوريا.
في هذا الوقت تقريبًا، بدأ تنظيم "داعش" في حشد الدعم من الحركة الجهادية العالمية. فتم استدعاء المقاتلين الليبيين والتونسيين الذين أُرسلوا إلى سوريا لإقامة الخلافة في ليبيا، حيث سيطر تنظيم "داعش" في نهاية المطاف على رقعة من الأراضي في شمال وسط ليبيا لمدة عامين تقريبًا. كما وفرت هذه الرقعة منصة للتونسيين لتخطيط وتنفيذ عمليات واسعة النطاق من الخارج في بلدهم، أبرزها الهجوم على متحف باردو في آذار/مارس 2015، والهجوم على شاطئ سوسة في حزيران/يونيو 2015. وردًا على نمو تنظيم "داعش" محليًا في ليبيا وحملته الإرهابية في تونس المجاورة، استهدفت الولايات المتحدة وحلفائها التنظيم في ليبيا وطردوه من أراضيها بحلول كانون الأول/ديسمبر 2016. ومنذ ذلك الحين، لم يتعاف بعد التنظيم، على الرغم من أن مجموعة من الأفراد لا تزال في وسط ليبيا في منطقة سبها، ولكن مع عدم وجود تأثيرًا يُذكَر لهم في الحياة اليومية. وعلى نحو مماثل، بدأ مستوى العنف في تونس بالانخفاض بفضل الجهود المتضافرة لمكافحة الإرهاب ومكافحة التمرد، إلى درجة أن تنظيم "داعش" ما عاد يشكل مصدر قلق للمواطن التونسي العادي بحلول عام 2019.
خلال هذه الفترة الزمنية، حاول تنظيم "داعش" أيضًا التوسع في الجزائر، وأسس فرعًا رسميًا سُمي "ولاية الجزائر". وكانت أولى عملياته هي اختطاف سائح فرنسي وقطع رأسه. وتمكنت الإجراءات اللاحقة التي اتخذتها قوات الأمن الجزائرية من إحباط تنظيم "داعش" وأفقدته نفوذه محليًا. ومع ذلك، أعلن التنظيم مسؤوليته عن 13 هجومًا في الجزائر بين عامي 2014 و2020 يعود آخرها إلى منتصف شباط/فبراير 2020. أما المغرب، على عكس جيرانه، فلم يتعرض لغاية الآن لأي هجوم ناجح لتنظيم "داعش".
وضع الجهاديين اليوم
إن وضع الجهادية في شمال أفريقيا عام 2023 صعب جدًا مقارنة بالحركة الأوسع. في هذه المرحلة، لم يعد لتنظيم "القاعدة" وجودًا نشطًا في المنطقة. صحيح أن قادة الجماعة يواصلون إطلاق الدعاية، ولا سيما في محاولة للاستفادة من الحراك في الجزائر في السنوات الأخيرة، لكن تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" لم يعلن مسؤوليته عن أي هجوم في الجزائر منذ شباط/فبراير 2018. وعلى نحو مماثل، لم تعلن "كتيبة عقبة بن نافع" التابعة لفرع تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي" في تونس مسؤوليتها عن أي هجوم منذ نيسان/أبريل 2019، كما تعثرت أنشطة الدولة الإسلامية في المنطقة ككل. وبصرف النظر عن الهجمات القليلة البارزة والحملة الإرهابية المنخفضة المستوى في الجزائر بين عامَي 2014 و2020، فإن الصورة قاتمة أيضًا في ليبيا وتونس اللتين كانتا ذات يوم معقلين موثوقين للحركة.
وفي أعقاب التفكك الإقليمي لتنظيم "الدولة الإسلامية في ليبيا" في كانون الأول/ديسمبر 2016، لجأ التنظيم إلى العمل السري، وبقي خامدًا نسبيًا في عام 2017، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الضربات الجوية الأمريكية التي استهدفت معسكراته خارج سرت. ففي ذلك العام أعلن تنظيم "الدولة الإسلامية في ليبيا" مسؤوليته عن أربع هجمات فقط: اثنان في سرت، وواحد في كل من مصراتة وأجدابيا. وكانت على الأرجح هذه الهجمات مرتجلة ولم تندرج ضمن حملة منسقة. ولكن وتيرة الهجمات بدأت تزداد في شباط/فبراير 2018، عندما قرر التنظيم، على ما يبدو، أن الوقت قد حان للخروج من الظل وتجديد تمرده. وفي كانون الأول/ديسمبر من ذلك العام نفذت الجماعة هجمات في كثير من المناطق: أربعة في أجدابيا، وثلاثة في طرابلس، واثنان في الجفرة، وهجوم واحد في كل من سرت وأوجلة والعقيلة والفقهاء ووادي كعام وتازيربو. بعد ذلك، أصبح تنظيم "الدولة الإسلامية في ليبيا" واثقًا جدًا من نفسه لدرجة أنه بدأ في آب/أغسطس 2018 بإقامة نقاط التفتيش على الطريق بين أجدابيا وجالو. وبعد شهرين، زعم التنظيم أنه استولى على بلدة الفقهاء لبضع ساعات.
وتوقف هذا الزخم في كانون الأول/ديسمبر 2018، عندما اكتشف "الجيش الوطني الليبي" قاعدة لتنظيم "الدولة الإسلامية في ليبيا" بالقرب من واحة غدوه. بعدئذ، انتقل التنظيم إلى حقل الهروج البركاني وبدأ العمل مرة أخرى في نيسان/أبريل 2019، ونفذ 11 هجومًا في الأسابيع التالية: اثنان في سبها، واثنان في تمسة، وواحد في كل من الفقهاء، وهي بلدة زعم التنظيم مرة أخرى أنه سيطر عليها لفترة وجيزة، وغدوه، وزيلة، ودرنة، وسامنو، والهروج، ونقطة التفتيش 400 الواقعة بين سبها والجفرة. لكن هذه الهجمات انتهت عندما عثر "الجيش الوطني الليبي" على أحدث قاعدة لعمليات تنظيم "الدولة الإسلامية في ليبيا" في منتصف حزيران/يونيو 2019. ومنذ ذلك الحين، أصبح نشاط التنظيم محدودًا للغاية واقتصر على ترويج الحياة الصحراوية في الدعاية فضلًا عن الكثير من عهود البيعة. لكن العمليات العسكرية الفعلية بين عامي 2020 و2022 كانت ضئيلة وعديمة الأهمية. وكانت جميع هذه الهجمات ذات تأثير منخفض نسبيًا، ولم تندرج ضمن حملة أوسع، بل شكلت محاولات متفرقة لإثبات وجود التنظيم. لقد مرَّ الآن أكثر من عام على الهجوم الأخير لتنظيم "الدولة الإسلامية في ليبيا".
أما بالنسبة إلى تونس، فقد فككت الحكومة التونسية ببطء قدرات الجماعة في أعقاب محاولة تنظيم "داعش" الفاشلة للاستيلاء على مدينة بنقردان بالقرب من الحدود مع ليبيا في آذار/مارس 2016. ولم يتبنَّ تنظيم "داعش" أي هجوم في تونس منذ شباط/فبراير 2021. وبشكل عام، بلغ عدد الهجمات الإرهابية، سواء تلك التي شنتها "كتيبة عقبة بن نافع" أو تنظيم "داعش" أو جهات فاعلة منفردة، ذروته في تونس في عام 2017 مع 47 هجومًا قبل أن ينخفض إلى أربع هجمات في عام 2022. ولم تُنسَب أي من هذه الهجمات الأربعة إلى أي جماعة، ويدل ذلك على مدى ضآلة المشكلة التي أصبحت عليها الحملة الجهادية اليوم، مقارنة بالحملة الأكثر حدة في فترة 2012-2019. ومع ذلك، فإن بروز قيس سعيد، كديكتاتور جديد في تونس، إلى جانب استمرار المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والصحية والمناخية وغيرها، يمكن أن يبشّر بجهد متجدد من قبل العناصر الجهادية داخل تونس لتصبح أكثر فعالية.
الاعتبارات المستقبلية
على الرغم من أن حدّة الجهادية قد تراجعت بشكل علني، فقد تعود في ظل الظروف المناسبة. وبما أن حكومات الجزائر والمغرب وتونس تعلن عادة عن أي اعتقالات تتعلق بالإرهاب أو الجهادية، فمن الممكن تتبع النطاق الأوسع لمجموعة المشاكل التي تتجاوز الهجمات الفردية. ويوضح التحليل الكمي للبيانات أن الأفراد ما زالوا مهتمين بالتخطيط لهجمات محلية ومحاولة الانضمام إلى منظمات إرهابية أجنبية في الخارج، حتى لو كانت هذه الجهود لا تشكل نوعًا من الحملة المنسقة التي شوهدت في الأعوام السابقة. على سبيل المثال، ابتداءً من 22 أيار/مايو 2023، نفذت الجزائر 25 حالة اعتقال تتعلق بالإرهاب حتى الآن، بينما نفذ المغرب 7 اعتقالات وتونس 56 اعتقالًا. وتطغى أيضًا القضية المستمرة المتعلقة بالمحتجزين بسبب ارتباطهم بتنظيم "الدولة الإسلامية"، إذ يُحتجَز حاليًا مئات من الرجال والنساء والأطفال من دول شمال أفريقيا من الذين انتموا سابقًا إلى التنظيم، طوعًا أو قسريًا، سواء في السجون أو مخيمات النازحين داخليًا في شمال شرق سوريا. ومن دون آليات مناسبة لإعادتهم إلى أوطانهم وإعادة تأهيلهم وإعادة إدماجهم في المجتمع في المستقبل، يمكن أن يشكل هؤلاء المحتجزين معضلات أمنية جديدة وتهديدات لدول شمال أفريقيا. لذلك، حتى لو كانت الجهادية في شمال أفريقيا قد وصلت على الأرجح إلى أدنى مستوى لها من النشاط منذ بعض الوقت، من الضروري إبقاء التركيز على هذه القضية لأن أي ديناميات متغيرة يمكن أن تغير مستوى التهديد الذي تشكله على المنطقة ككل وعلى السكان المحليين أيضًا.
آرون زيلين هو زميل ريتشارد بورو في معهد واشنطن ومؤسس Jihadology.net. نشرِت هذه المقالة في الأصل على موقع مؤسسة هوفر (https://www.hoover.org/research/all-quiet-north-african-jihadi-front)