- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
هجمات المسيرات التركية ومخاوف الإدارة الذاتية السورية بشأن واشنطن
قد يتسبب التصعيد التركي في كل من سوريا وكردستان في حدوث مشكلات للحلفاء المهمين للولايات المتحدة في المنطقة.
بين الفينة والأخرى يتعرض التحالف بين قسد والتحالف الدولي بقيادة واشنطن في سوريا وبين حكومة إقليم كردستان وواشنطن في العراق لضغوط نتيجة العمليات العسكرية التي تقوم بها تركيا المجاورة. ومع ذلك، تشير الدلائل المتزايدة إلى أن التقارب التركي مع نظام الأسد والتلميحات المستمرة عن القيام بغزو بري في شمال سوريا - جنبًا إلى جنب مع الهجمات الجوية المتصاعدة بالطائرات العسكرية والمُسيّرات القاتلة على شمال وشرق سوريا – قد أدى إلى بروز مرحلة جديدة من الصراع. ومن ثم، فإن الصمت الأمريكي تجاه تلك الاحداث قد يتسبب في حدوث تصدع العلاقات بين الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية، وقد يكون سببا في دفع الطرف الشريك مع واشنطن في سوريا على التفكير في البحث عن بدائل لمواجهة أنقرة.
في حين تستمر تركيا في استهداف قادة عسكريين ومسؤولين محليين في شمال شرق سوريا من خلال المُسيّرات، لم يتم رصد أي رد أمريكي من أي نوع تجاه تلك العمليات. ورغم زعم انقرة أنها فقط تستهدف قادة من حزب العمال الكردستاني، ودائما ما تبرر حملتها الاخيرة بأنها رد فعل للهجوم المميت الذي وقع في منتصف تشرين الثاني / نوفمبر في إسطنبول ،إلا ان تركيا استهدفت مسؤولين محليين مدنيين، وقامت باغتيال قادة في قسد كانوا قد حاربوا مع الجيش الأمريكي ضد تنظيم " داعش" لأكثر من عام
تدرك الإدارة الذاتية ان الهجمات التركية تهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية لصالح حزبي العدالة والتنمية التابع لاردوغان والحركة القومية قبل الانتخابات المقرر عقدها في صيف 2023، كما ترتبط تلك الهجمات أيضا برغبات تركية تاريخية في تحقيق احتلالات وتمددات جديدة في الخريطة، والتوسع بهدف الوصول إلى الموارد، والتلاعب بالهويات الديمغرافية لمنطقة تعتبرها تركيا خطر عليها. تركز أنقرة بشكل خاص على حزب الاتحاد الديمقراطي (سوريا) - وهو جماعة سياسية رئيسية تتبع قوات سوريا الديمقراطية، وتراها تركيا انها لا تختلف عن حزب العمال الكردستاني – وتخشى تركيا أن تنجح في إلهام الشباب الأكراد داخل تركيا للانحياز لهويتهم الكردية ،ما دفعها إلى معاداتها بشدة.
وعلى ارض الواقع، بدأ القلق يتنامى بشأن الموقف الأمريكي تجاه هذه الإجراءات منذ شهور، ففي 21 نوفمبر صُدم سكان شمال شرق سوريا من بيان القنصلية الأمريكية في أربيل الذي كان عبارة عن انذار للمواطنين الأمريكيين على ضرورة تفادي المناطق الحدودية المُتاخمة لتركيا في إقليم كردستان وشمال سوريا لاحتمال حدوث هجمات عسكرية من الطرف التركي على تلك المناطق بعد "رصد مؤشرات موثوقة."
تسبب بيان القنصلية بالكثير من الذعر في شمال شرق سوريا، لكنه كان انذار في محله، حيث شنت تركيا بعد يومين أقوى الهجمات على مناطق الإدارة الذاتية، وتسببت بدمار جزئي للعديد من مرافق البنية التحتية كنقاط توزيع وانتاج الغاز والكهرباء. وقد اعتبر السكان في شرق الفرات أن هذا الإنذار دليل على وجود "تنسيق ما" بين واشنطن وأنقرة، ما أدى إلى بروز حالة من الغضب والخوف بين السكان الذين فقدوا الثقة في علاقاتهم مع واشنطن.
تكررت الحوارات حول موقف قسد ودورها قبل حدوث هجوم ليلة 23 نوفمبر المدوي. وكان السؤال السائد هو: هل كانت قسد على علم ولم تحذر سكانها أم أن واشنطن لم تمرر أي رسائل لقسد عن الهجوم التركي، وبالتالي لم تستطع قسد أن تستعد له أو تحذر السكان منه؟! كل هذه التساؤلات تزيد من احتمالية التباعد بين الطرفين التي تُوجت شركاتهم بالنجاح في محاربة الإرهاب. كذلك يزيد من غموض طبيعة الموقع الأمريكي من الهجمات التركية في العراق.
إن أسباب الحساسية التي تبديها واشنطن تجاه تركيا واضحة، فتركيا عضو بارز في حلف الناتو، وحليف مقرب لواشنطن، كما دورها ووزنها بالنسبة للغرب يزداد مع اشتداد الصراعات الدولية، وحروب الطاقة والموارد، وخاصة بعد الصراع في أوكرانيا، والدور الروسي المشبوه في عموم المناطق الممتدة من سوريا إلى حوض الدونباس، وتطور العلاقات بين الخليج، وإيران والصين.
مع ذلك، فإن استمرار واشنطن في اتباع لسياستها الحالية تجاه تلك الاحداث سيقوى من موقف المعسكر المشكك في الدور الأمريكي والذى يدعوا إلى الانفكاك عن واشنطن وقد يشجعهم على السير أكثر باتجاه العودة إلى دمشق، وطهران، وموسكو. هذا الرؤية تعزّزت مع توسيع تركيا لخارطة أهدافها، ومع تأكيد الحكومة التركية على أن هدفها هو الحصول على كامل الشريط الحدودي لشمال سوريا، وبعمق ثلاثين كيلومتر. ويأتي ذلك في وقت تبرر فيه تركيا تدخلها المناطق الشمالية من محافظتي دهوك وأربيل في إقليم كردستان العراق كجزء من حربها ضد حزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه وواشنطن ضمن قائمة الإرهاب.
إن عدم الفعل الأمريكي أو حتى الفعل الخجول كالعزاء لمقتل سلوى يوسوك ، القيادية في قسد عن طريق مسيرة تركية في 23 تموز 2022، دون ذكر تركيا، قد يعطي مؤشر خاطئ للمراقبين عن أن هناك موافقة ضمنية على تلك العمليات، أو أقله هناك اطمئنان تركي على أنه لا يوجد أي رد فعل سلبي من واشنطن.
يستند القياس المتعلق بفهم سلوك واشنطن "المُتسامح" مع تركيا على الطبيعة الصارمة لردّ فعل القوات الأمريكية تجاه المُسيّرات القاتلة والضربات المدفعية والصاروخية التي تنفذها جماعات مرتبطة بالمليشيات الشيعية وإيران سواء في سوريا والعراق. علاوة على ذلك، تظهر المراجعة الدورية لطبيعة العمليات تلك أن الجيش الأمريكي كان حازم الرد على أي خطر قد يستهدفه أو يستهدف قسد في الخط الجنوبي الشرقي من مناطق ما تسمى "الإدارة الذاتية"، حتى ولو لم يكن هناك خسائر في الأرواح. ويدعم ذلك أيضا الردات الصارمة والرسمية الصادرة عن الممثلية الأمريكية في العراق تجاه الهجمات الصاروخية وبالمسيرات الإيرانية على المعارضة الكردية الإيرانية في إقليم كردستان.
ان الرد الأمريكي غير المتماثل في كلا الحالتين كان مثيرا للدهشة على الأرض، حيث دعا وزير الدفاع الأمريكي لويد ج. أوستن في 30 نوفمبر / تشرين الثاني إلى "وقف التصعيد" وأعرب عن معارضته لأي عملية عسكرية جديدة في سوريا. ان هذا النوع من المواقف الأمريكية الواضحة ضد التهديدات التركية إيجابي لكن الصمت الامريكي الطويل الذي تبع الهجوم التركي، والتعتيم الإعلامي الروسي في المنطقة، منع وصول الرسائل الامريكية للسكان وللقادة المحليين في شمال شرق سوريا.
وبشكل عام، حين تقوم تركيا بعمليات محدودة في شمال شرق سوريا، يكون تعليق الولايات المتحدة في أفضل الأحوال عبارة عن رسالة عزاء وتخوف ودعوات عامة للحفاظ على الاستقرار عن كونه تنديد مباشر كما في الحالة الإيرانية. وغالبا ما تستخدم واشنطن لغة الإدانة في بياناتها ضد أي عدوان إيراني في مقابل لغة دبلوماسية لا تشمل الإدانة المباشرة ضد تركيا ونقصد هنا العمليات الإيرانية التي لا تشمل الهجمات البرية والتي تشبه العمليات التركية في سوريا والعراق والتي تعتمد على المسيرات الجوية في جلها. لاحظ أنه حتى بعد الضربة المباشرة للجيش التركي على منتجع سياحي في مدينة زاخو، والتي تسببت في مقتل مدنيين، كان خطاب السفارة الأمريكية يحمل في طياته تنديد عام، وغير موجه لطرف معين، ولم يتم ذكر الطرف المهاجم كمسبب مباشر في بيان السفيرة "آلينا رومانوسكي" بتاريخ 21-07-2022، ولم يكن هناك أي مؤشرات على احتمالية توجيه أي عقاب لتركيا. هذا في حين تركز واشنطن كثيراً على إدانات مباشرة على التصرفات الإيرانية، حتى لو كانت أقل دموية عن ما حدث في زاخو.
في غضون ذلك، تتذرع كلا من تركيا وإيران اللتين تهاجمان الإقليم وشمال شرق سوريا بذات الذرائع، والتي تشمل (محاربة الإرهابيين، والانفصاليين، وعملاء الغرب)، ويستهدفون بتلك الهجمات إضعاف حلفاء واشنطن في المنطقة، ويتسببون في خسارة الثقة بين المتحالفين، وتدهور في الاقتصاد المحلي، وزعزعة الاستقرار الأمني، وخسارة في الأرواح. ومن ثم، قد تدفع هذه الاستراتيجية حلفاء واشنطن، وخاصة قسد، إلى الشعور بالوحدة، وبالضعف أمام تركيا.
من خلال ما سبق يمكن القول بأن السلوك الأمريكي السلبي تجاه العدوان التركي على شمال سوريا سيكون له تداعيات سيئة وكارثية على المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. لا يمكن القبول بوجود تهديد مستمر لقسد على طول الحدود الشمالية في الوقت الذي تكون مُنغمسة في محاربة داعش وحماية ما يزيد عن الأربع مليون نسمة في شرق الفرات. ان الميل نحو البدائل والتي قد تكون روسيا أو إيران يعني أن الاستراتيجية الأمريكية في سوريا ستتعرض للخطر، وأن أهداف الوجود الأمريكي سيكون موضع تساؤل، وهذا الوضع سيعطى الثقة للتنظيمات الإرهابية للانبعاث من جديد، وسيدفع روسيا وإيران ودمشق إلى تشديد مواقفها وتوسيع ملف المناورة والمطالب لديها في الملف السوري
لذلك، يجب وضع استراتيجية جديدة تتناسب مع مفهوم الدفاع المشترك مع الحلفاء، وليس مفهوم الانتقائية في الدفاع. وعلى واشنطن إدراك أن سلوكها هذا بدأ يُظهر أصوات تدفع شركائها في سوريا إلى البحث عن بدائل. لذلك، على واشنطن قبل البدء في اتخاذ عملية لفتح قنوات تواصل مباشر مع القادة المحليين، وتقديم توضيحات رسمية حول المشتركات، ومدى التحالف بينهما، ليكون كل فريق على بيّنة من المسؤوليات تجاه الآخر. أيضاً، لا بد من العمل على لجم عدوانية تركية التي لا تستند سوى على مصالحها الانتخابية، وأهدافها التوسعية التي لا تنتهي. لجم تركيا يبدأ من خلال استخدام لغة مباشرة تظهر الجدية في الوقوف الأمريكي مع شريكها في سوريا ومع حكومة أربيل الشريك الأساسي في العراق.
هناك ضرورة أيضا لفتح قنوات تواصل بين الأطراف المتعددة لحل القضايا العالقة بطرق عقلانية. ومع ذلك، يجب أن تتسم تلك الترتيبات بالجدية في حماية الشريك المحلي ودفعه لتعزيز الحوكمة الرشيدة، والاهتمام بقضايا التنمية، وفتح الباب بصورة حقيقية للحريات، والابتعاد عن الاجندات والارتباطات الإقليمية التي تزيد من الشبهات حوله، والدفع ببدء عملية سياسية محلية، ومن ثم الدفع بانخراط القوى السياسية الناجمة عن تلك العملية في شرق الفرات بالعملية السياسية السورية ككل. ودفعه للتعاون مع إقليم كردستان.
مع استمرار الصراع ودخوله في عقده الثاني، تم التغاضي عن الأزمة السورية بشكل متزايد. ومن ثم، فمن الضروري بمكان العودة إلى فرض المزيد من الضغوطات على القوى المؤثرة في هذا الصراع ودفعها للجلوس على طاولة المفاوضات للتوصل لحل دائم لهذه الحرب العبثية التي استمرت بالفعل لمدة عقد من الزمن.