- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
هل هي الثقافة حقاً؟
ترى السيدة هيام نواس ـ المحللة السياسية المقيمة في واشنطن العاصمة ـ أن المصدر الأساسي للأزمة الحالية في العالم العربي هو "الثقافة"، وهذا ما يعزز ادعاء "جيمس كلابر" بأن الولايات المتحدة "لا يمكنها إصلاح" منطقة الشرق الأوسط. ورغم هذا التحليل، فإن حل المشكلات الأساسية للمنطقة يتطلب تشخيصاً سليماً يحيط بكل الجوانب، لا أن يلقي اللوم كله على "الثقافة"، إذ أنها لا تمثل سوى جزء صغير من معادلة شديدة التعقيد. ومثلها مثل أي قضية معقدة، لا يوجد فقط مصدر واحد يمكن أن نعزي إليه تلك الاضطرابات الحالية في الشرق الأوسط، بل هناك عوامل أخرى عديدة ومتشعبة.
تُعرّف الثقافة بشكل عام، على أنها المظاهر المتعددة للإنجاز الفكري الجماعي والبشري. ووفقاً لقاموس "ميريام وبستر"، إن الثقافة هي: "مجموعة من المعتقدات والعادات والفنون وغيرها، التي تميز مجموعة من الناس أو شعب من الشعوب، يعيشون مع بعضهم في مكان أو وقت ما...". لكن على الرغم من قوة فكرة العروبة التي دائماً ما تؤثر على الكثير من النقاشات الحالية في العالم العربي، إلا أن الجدل ما زال دائراً عما إذا كان هناك ثقافة عربية واحدة ومجتمع عربي واحد.
وفي واقع الأمر، فإن الأفراد يمارسون معتقداتهم وسلوكياتهم، ويتبعون سبل حياتهم على المستوى الإقليمي والوطني، وحتى خارج الوطن، في إطار ما يسمى بالعالم العربي. ورغم ذلك، فهناك اختلافات عديدة، فحتى اللغة العربية التي هي عنصر ائتلاف، تختلف من منطقة إلى أخرى، حيث تتعدد اللهجات العربية على نطاق واسع، مما يؤدي إلى صعوبة فهمها من طرف الجميع.
من جهة أخرى، لا يمكن الادعاء بأن التفسير الموحد "للإسلام" هو المسؤول عن حالة الضيق المتفشية في العالم العربي، إذ حتى إذا ما تجاهلنا شريحة كبيرة من العرب الذين يعتنقون ديانات أخرى، فإنه سيتكشَّف لنا أن العرب يمارسون الإسلام بطرق كثيرة ومتعددة، هذا إلى جانب مسألة تعدد الفصائل الفكرية السنية والشيعية، والتي يبدو الاختلاف بينها واضحاً للعيان.
ومن الناحية النظرية، فإن عالم العلوم السياسية سيشخص ما تعانيه المنطقة على أنه محصلة من محصلات الأنظمة السياسية المتسلطة؛ أما عالم الاجتماع، فسيرجع ذلك إلى التقاليد القبلية القديمة، في حين سيبني المعلم تشخيصه على ضعف المؤسسات التعليمية، وعلى نحو آخر، سيشخص الخبير الاقتصادي الوضع طبقاً للظروف الاقتصادية الصعبة، أما الطبيب النفسي فقد يغوص عميقاً في الحالة النفسية للمجتمع التي تتأثر بجميع تلك العوامل.
إن الفوضى الحالية في الشرق الأوسط لها عدة جذور متشعبة، تحمل في طياتها العديد من التحديات الهيكلية التي يجب أن يجابهها سكان المنطقة. ومن ثم، فإن الإشارة إلى "الثقافة" على أنها كبش الفداء، هو أسلوب شديد التجرد، وشديد التبسيط، ولا يمكن الاعتماد عليه لشرح تلك القضايا بشكل أوسع وأعمق.
وفى واقع الأمر، فإن عقود الخيارات السياسية المدمرة التي مر بها العالم العربي، قد نُسِبَتْ إليها الكثير من الإخفاقات الثقافية التي مرت بها المنطقة. ومن ناحية أخرى، يواجه العرب بعض الانتقادات الخارجية التي تتهمهم بنقص التعاطف، ويبرز ذلك الانتقاد كرد فعل ضد الإنكار المستمر أو الجهل بوجود المحرقة في بعض المجتمعات العربية. ومع ذلك، فهذا الإنكار أو الجهل لا يعدو كونه مجرد أداة سياسية مشوهة أو إخفاق تربوي، عوضاً عن كونه فشلاً ثقافياً. فليس هناك أي عذر للقوى الاستبدادية التي تروج لفكرة إنكار المحرقة، حتى تصرف شعوبها عن الصراعات الداخلية. وقد أظهر "الربيع العربي" القوى الثورية الحقيقية لتلك الصراعات.
وبالمثل، فإن وسائل الإعلام الغربية غالباً ما تنتقد رفض العرب الاستجابة لمحنة اللاجئين السوريين، مع تجاهل مجهودات بلدان صغيرة وفقيرة نسبياً، مثل: الأردن، ولبنان، والتي فتحت أبوابها لأكثر من مليون لاجئ، بينما لم تستقبل بعض الدول الصناعية القوية والأكثر ثراء، سوى عدداً قليلاً من اللاجئين.
لقد أدى فشل النظم التعليمية العربية إلى قيام العديد من الفئات ذات التعليم المحدود بالبحث عن حلول صفرية، في الوقت الذي ترى فيه النخب أن التعاون والتسوية مع دول أخرى هو خيار أفضل، بل وأكثر استدامة على المدى الطويل، حتى ولو كان هذا الخيار مؤلماً. فالمجتمع العربي مثله مثل كثير من المجتمعات، يتحتم عليه القيام بنقد ذاتي لمراجعة تقاليده وعاداته العتيقة؛ بغية تحسين حالة الجمود الحالية. وهذا لا يعني بالضرورة إن التقاليد هي جوهر الأزمات العربية، بما فيها حمام الدم الذي يجرى حالياً في الشرق الأوسط. إذ أن جذور العنف المتفشي في المنطقة تعود إلى التاريخ السياسي المؤسف والفريد الذي مرت به المنطقة، مثلما هو الحال في سوريا، حيث الوحشية المستمرة لنظام الأسد البعثي الديكتاتوري، الذي يتلقى دعماً مستمراً من قبل شركائه الدوليين، لكي ينجح في مواجهة السخط الشعبي. وهذه الصورة ليست إلا مثالاً عن واقع الحال في باقي الدول العربية الأخرى.
وهناك أيضاً، مسألة الأخلاق، حيث يعتبر عدم فهم مفهوم الأخلاق، المسؤول عن الوضع الحالي في المنطقة؛ ذلك لأن العالم العربي يتميز بخصوصيته التقليدية، إذ هناك بعض القيم العربية العتيقة مثل جرائم الشرف، التي لا يستسيغها العالم الإنساني. ولا يوجد مجتمع حضاري يفضل الانتقام على التسوية، والرجال على النساء، والجماعات على الأفراد، والتي يصعب العثور عليها في مجتمعات أخرى. لكن، وبالمقابل هناك أفراد من كلا الجنسين من العرب يتسمون بالشجاعة، ويقاتلون من أجل حقوق المرأة ـ سواء الحقوق القانونية والمجتمعية، ويناهضون الأفعال الانتقامية التي تتم خارج نطاق النظام العام، ويدعمون الحرية الشخصية في كثير من الأحيان، وغالباً ما يشنون معاركهم ضد الدولة.
وهناك أيضاً ما يتعلق بالتمثل الشعبي غير الدقيق للثقافة العربية بشكلها القبائلي، فحتى لو صح واختلفت بنية المجتمع القبلي، فإنه يختلف بعض الشيء عن الفهم الغربي للروابط العائلية، فمن المبالغة أن نسلم بأن جميع العرب لديهم انتماءات قبلية مثل تلك التي كانت سائدة خلال العصر الجاهلي.
وبشكل أكثر دقة، فالخضوع لسلطة ما، يمكن أن يعزى إلى رغبة أصحاب هذه السلطة سواء داخل المجتمع أو البيت في استمرارية هيمنتهم والحفاظ على الوضع القائم؛ ومن ثم، فإن غياب الاستقلال الشخصي السياسي لعامة الشعب، يساهم في تحقيق تلك الغاية لدى الكثير من الزعماء السياسيين والدينيين والاجتماعيين في المجتمع. وهكذا فحينما نجد دعاة السلطة يؤكدون على أن ولاء الشعب هو من "الضرورات الثقافية"، ندرك أن ذلك الولاء ليس إلا محصلة من محصلات الحكم المتسلط على المستوى الفردي للدولة.
وينبغي على المرء أن يفرق ما بين التأمل الذاتي، والنقد الموضوعي البناء، باعتباره جزءاً لا يتجزأ من أي ثقافة. فممارسة هذا النوع من النقد البناء الذي يعتبر سلوكاً مكتسباً لا يمكن أن يزدهر إلا في المجتمعات التي لا تحكمها أنظمة استبدادية وهي موجودة كجزء لا يتجزأ من المناهج التعليمية من سن مبكر. ومن ثم، فإن توفير التعليم الملائم من شأنه أن ينأى بالشباب العربي عن تبني خطاب المظلومية وإلقاء اللوم على الآخر.
ومن جهة أخرى، يواجه العديد من المواطنين في الدول العربية في إطار نظام الدولة الاستبدادية تحديات كبرى من أجل الحصول على تعليم جيد وحر، وحتى من أجل حق التعبير عن الحرية الفردية. إلا أنه غالباً ما تنسب أسباب الفشل للعرب الذين لا يختلفون الكثير عن بقية العالم. وحتى لا نكون متحاملين على العرب، فإن هذه السمة ليست سمة عربية فحسب، ولكنها في الأساس سمة عامة في البشرية. فحتى العالم الغربي أصبح يعاني منها حالياً، وذلك في ظل انتشار حركات واسعة، تدعو إلى استئصال "الآخر"، من أجل حل أزمة العجز والفشل الداخلي. وهذا دليل على أن المحاولات الغربية لا تبدو أكثر استنارة من المحاولات العربية التي تعمل على مقاومة ومنع "التغريب"، باعتباره مفسدة "لتقاليدهم."
وأخيراً، يجب على جميع المثقفين من العرب والغربيين على حد سواء أن يشاركوا بجدية في نقد الذات بصورة موضوعية، لكن الواقع السياسي في العالم العربي يستدعي التدقيق والمتابعة الجادة من قبل هؤلاء الذين يرغبون في فهم التحديات الراهنة التي تمر بها المنطقة.