- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
هل نسينا نساء اليمن؟
27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017
غالباً ما يتم تنحية حقوق النّساء جانبًا خلال النزاعات، هذا إلى جانب الحرّيّات والحقوق المدنية التي ايضاً تسقط من الحسبان. وإذا حدث وأن تم التحدث عن النساء في أوضاعٍ مضطربة تشبه أوضاع اليمن حالياً، فغالباً ما يُنظر إليهنّ كضحايا وليس كأطراف معنيّة بالعملية السياسية ولها تأثيرها. كيف وصل الحال بنساء اليمن الى هذا الوضع المأساوي في حين كانت السعادة تغمرهن قبل عدة شهور وبالأخص في تاريخ 18 آذار/ مارس 2013.
كان ذاك اليوم الأخير من "مؤتمر الحوار الوطني" الذي دام لحوالي عشرة أشهر والذي شكّلت النّساء فيه حوالى 30 في المئة من أصل 565 عضوًا. وهدف ذلك المؤتمر إلى وضع الأساس القانوني ليمن جديد تسوده العدالة الاجتماعية وبالذات بالنسبةلحقوق النساء و في اطار القانون. راسماً النهاية للمرحلة الانتقالية السياسية في بلدٍ عاش حالة من الاضطراب منذ سنة 2011. وبعد نقاشات عديدة انتج مؤتمر الحوار الوطني وثيقة تحي المئات من الخرجات تم بناء مسودة الدستور الجديد عليها ، وفعلاً تمت صياغة الدستور الجديد، على عكس الدستور السابق، بشكلٍ يعترف بمواطنة المرأة الكاملة وبشخصيتها الاعتبارية المستقلة. كما حصلن بموجب هذا الدستور على حصّة تبلغ 30% من مناصب صنع القرار، ما كان سيجعل اليمن في المرتبة الثانية بعد تونس حيث التمثيل القانوني للنساء في مناصب السلطة بين البلدان العربية.
كان النصر التالي الذي حققته المرأة اليمنية بعد مؤتمر الحوار الوطني، تعيين أربع نساء– من بينهنّ أنا– في مجلس الوزراء سنة 2014، ومشاركة أربع نساء في لجنة مؤلّفة من سبعة عشر عضوًا ومسؤولة عن وضع مسودّة الدستور الجديد. وقد شكّل الإنجازان سابقة بكل ما للكلمة من معنى.
انا شخصياً كنت حاضرة وشاهدة على هذه العملية السياسية للمرحلة الانتقالية، وعلى العمليات المتعددة التي أدّت إلى هذه النقطة من تاريخنا السياسي. ورأيت كم كان هذا النصر مهمًّا بالنسبة إلى الحركة النسوية اليمنية، وكنت قد بدأت أتخيل الكتب التي ستؤلّف حول اليمن ونجاح عمليتها الانتقالية واتخيل نساء اليمن اللاتي سوف يسافرن حول العالم يحكين لباقي الأمم عن تجربتهن بل ويعطينهن النصائح.
ثم حدث الانقلاب وتدهور كل شيء.
الحقيقة أنه لم تكن النساء ولا تمكين النساء يومًا من بين الأولويات الحقيقية بالنسبة لصناع القرار في اليمن حتى في أوقات السلم، فما بالنا بأوقات الحرب. وغنيٌّ عن القول إنّ معظم النساء اليمنيات محرومات من كثير من حقوقهن إلى حد كبير في هذا المجتمع المحافظ الذكوري حيث تعتبر المرأة كيان قاصر عن الرجل. والأحصائيات تؤكد هذه الحقيقة فمنذ سنة 2006، يحتلّ اليمن دائمًا المرتبة الأخيرة في "مؤشّر الفجوة بين الجنسين" الخاص بـ"المنتدى الاقتصادي العالمي". هذا المؤشّر هو ناتج عن عملية حسابية تقارن واقع حقوق النساء بحقوق الرجال في مجالات التعليم والرعاية الصحية والمشاركة الاقتصادية والتمكين السياسي. والحقيقة ان وضع المرأة اليمنية حتى قبل الانقلاب في 2014 كان فعلاً سيء مقارنة بالرجل. فعلى سبيل المثال، امرأة واحدة فقط من أصل اثنَين، تستطيع القراءة والكتابة من بين النساء من سن 15 سنة فما فوق. أمّا بالنسبة إلى الرعاية الصحية، فتفتقر نسبة 65 بالمئة من النساء إلى خدمات الرعاية الصحية الإنجابية. وكل يوم كانت تموت ثماني نساء بسبب مضاعفات الولادة. وبالنسبة للقطاع الاقتصادي فتشكّل النساء أقل من 7 بالمئة من القوة العاملة، ويعمل معظمهنّ في قطاعيْ التعليم والرعاية الصحية– ويتقاضيْن رواتب أدنى من رواتب الرجال مقابل الوظيفة نفسها. وهناك العديد من الامثلة الأخرى تعكس وضع المرأة اليمنية المتردي.
ولكن في نفس الوقت وعلى الأقل حتى سنة 2014، كانت هناك حركة مجتمع مدني مزدهرة وحركة نسوية قوية وإن لم تكن متحدة في اليمن. كما برزت النساء في الميادين العامة مطالبات بالمساواة وكاسرات الأفكار النمطية السائدة. وأعلم ذلك لأنني كنت واحدة منهنّ وكنت حاضرة لأسجّل الحركة النسائية وأوثّقها كصحافية وناشطة. ومنذ سنة 2011، اتّخذت النساء خطوات ملحوظة في كفاحهنّ الرامي إلى أخذهن على محمل الجد كقائدات وصانعات قرار مساويات للرجال.
بل أن الفضل في الإنجازات التي حققتها النساء اليمنيات بين 2011 و2014 يعود إلى تلك النساء القويات والشجاعات اللواتي شققن الطريق لمن أتت خلفهن ولم يكنّ ليقبلن بالواقع كما هو. وما ساعد على ذلك هو أنّ اليمن كان محط أنظار العالَم وأنّ إدارة الشؤون السياسية في الأمم المتحدة التي كانت تشرف على المرحلةالانتقالية السياسية والمجتمع الدولي ككل كانا يدعمان حقوق النساء وقاموا بالضغط على السياسيين اليمنيين لإشراك المرأة في العملية الانتقالية ومراحلها المختلفة. وبالفعل، حققت النساء المشاركات في العملية السياسية منذ 2011 نجاحاً ملحوظاً وتركن بصماتهن على الرغم من السيطرة الذكورية على عمليات اتخاذ القرار في المشهد السياسي اليمني .
كنا ندرك ونحن نشارك في العمليات السياسية المختلفة سواء مؤتمر الحوار الوطني أو غيره ، أنه إذا أردنا أن تعكس الحقيقة الإنجازات المكتوبة، لا بدّ من ترسيخ هذه الحقوق في الدستور وتفصيلها في القانون. ولهذا السبب مثلاً كان الإصرار الشديد أن يعكس الدستور الجديد روح المواطنة المتساوية بين الجنسين ومكتسبات المرأة التي حققناها في مؤتمر الحوار الوطني.
ولكن لسوء الحظ، وكالعادة، عندما اقتحم الرجال المدججون بالأسلحة مؤسسات الدولة، تم فرض أمر واقع جديد وتم القذف بانجازات ومطالب المرأة اليمنية من النافذة كأنها لم تكن. والأمر غير مقتصر على الانقلابيين المتحكمين في شمال اليمن بل أنني كنت عندما أتحدّث إلى سياسيين رفيعي المستوى من كافة الجهات في اليمن وحتى عندما كنت اتحدث إلى مَن يمثّلون البعثات الدبلوماسية التابعة للدول الديمقراطية– ومعظمهم تقريبًا من الرجال– حول الحاجة إلى إشراك النساء في مفاوضات السلام وعملية المصالحة، يقولون: الوقت غير مناسب الآن للنساء. وكأن مشاركة المرأة هي ترفٌ لا يمكن التطرق إليه في أوقات النزاع– نزاع بدأ به الرجال وصعّده الرجال في سبيل رجال آخرين.
أن يتم تهميش المرأة كصانعة سلام وقيادية في العمليات السياسية ليس فقط مجحف للمرأة نفسها ولكن أيضاً لتاريخ اليمن وإرثه التقليدي اللذان يضمّان أمثلة عدّة عن نساءٍ أدّيْن أدوارًا فعّالة في عملية صنع السلام. ففي بعض المناطق القبَلية مثلاً، إذا قصّت المرأة خصلة من شعرها ووضعتها أمام شيخ القبيلة، يُلزم التقليد الشيخ والقبيلة كلّها بالاستجابة لطلبها– طالما كان شرعياً– واستخدمت النساء الذكيات هذا التقليد في الماضي لإيقاف الحروب أو إنهاء نزاعٍ مسلّح بين القبائل. كذلك، يُحدث إحراق النقاب الأثر نفسه وبإمكانه رفع الظلم. وحتى في المدن، غالباً ما أدّت النساء دور صانعات السلام في المجتمعات المحلية، فجمعن شمل العائلات وصالحن الأقرباء المتخاصمين بعد سنوات من العلاقات السيئة. وأصلاً النساء بفطرتهن هنّ المربّيات والحاضنات ومعطيات الحياة. ليس فقط المرأة اليمنية أو العربية بل المرأة بشكل عام... فمثلاً بعد مضيّ أكثر من نصف قرنٍ على النزاع المسلّح في كولومبيا، تم الإقرار أخيرًا بأهمية دورالنساء هناك في تحقيق السلام المستدام، ومن هنا تأتي مشاركتهنّ اليوم بأعلى مستويات في عملية المصالحة. فلماذا لا تستطيع النساء اليمنيات أيضًا أن تشكّلنّ جزءًا من عملية إعادة بناء السلام؟ ولماذا لا يمكن أن تشكّل النساء من أي مكان من العالم جزءًا من العمليات السياسية في بلدانهنّ، لا سيّما في ما يتعلّق بحل النزاعات؟
والأسوأ هو أنّ نظام الأمر الواقع الذي يمارس السلطة في شمال اليمن يتألّف من رجالٍ تقليديين جدًّا وغير مثقفين بل وأغلبهم أُميين ويؤمنون بالعنف والقمع. بل أنه في ظل الحكم الحوثي، تشكّل الديمقراطية والحرية والحقوق المدنية العدوّ. فيختفي الصحافيون والناشطون إما داخل مقابر مجهولة وإما خلف قضبان السجون من دون فتح قضية أو المباشرة بأي محاكمة قانونية.
والوضع أسوأ بالنسبة إلى النساء الناشطات، لأنهنّ يعانين من تمييز مضاعف يمارسه تجاههنّ الحوثيون بما أنّهنّ نساء وناشطات في الوقت نفسه. أنا أذكر كيف كان الوضع في نهاية العام 2014، عندما كنتُ لا أزال وزيرة الإعلام، وكنت قلقة بشأن الصحافيين والموظفين في وسائل الإعلام الحكومية، لا سيّما بشأن النساء العاملات في وسائل الإعلام. وكان خوفي في مكانه. فلحظة سيطر الحوثيون على التلفزيون اليمني، وبّخوا النساء العاملات هناك وأمروهنّ بالذهاب إلى منازلهنّ والتصرّف كزوجات صالحات والخضوع لواجباتهنّ الزوجية. قائلين أن وسائل الإعلام ليست المكان المناسب للنساء.
ويستمر هذا التهديد للمرأة الناشطة في أي مكان خارج المنزل. تحكي لي إحدى صديقاتي عن تجربتها في بداية هذا العام حيث كانت تقود سيارتها في صنعاء حين أوقفها على أحد حواجز الحوثيين شابّ صغير يحمل سلاح كلاشنكوف. وسألها بتعجرف عن من أعطاها حق قيادة السيارة؛ فبصفتها امرأة، عليها أن تعرف مكانتها، ثمّ طلب منها العودة إلى منزلها. تقول صديقتي: "في البداية، شعرت بالغضب وأرادت أن أسأله من الذي منحه هو حق إعطاء أمرٍ كهذا لي؟" فهي امرأة أثبتت قدرتها ومكانتها في المجتمع وقطعت شوطاً كبيراً في المال العملي يحسب لها. لكنّها كانت تدرك أن مثل هذا الجدال مع هذا الشخص لن يجدي، وقررت أن لا تناقش رجل يحمل سلاحًا.
في نهاية المطاف تكمن المشكلة مع الانقلابات العنيفة التي تقودها مجموعات عقائدية غير متسامحة كتلك الموجودة في اليمن، هي أنه لا مكان للمنطق أو التخاطب. النزاع المسلح الحالي في اليمن دمر سنوات من العمل التقدمي في سبيل حقوق النساء والحريات المدنية بشكلٍ عام. والمصيبة الأكبر أنه لا يجري تدمير الحضارة فحسب على يد رجال جاهلين يقومون بدوريات في الشوارع لمحو كل علامات الديمقراطية والحضارة التقدمية، إنما يجري أيضًا التدمير المنهجي للأجيال المستقبلية من خلال تغيير المناهج التعليمية وزرع ثقافة الخوف في كافة وسائل الاتصالات العامة. إن ما يحدث الآن لا يمكن تغييره بسهولة. وستستغرق إعادة الحريات المدنية الأساسية– لا سيّما حرّيات النساء– إلى حيث كنّا منذ ثلاث سنوات عديدة من الزمن.
ما يعزّيني على الأقل هو أن نضالي مع أخواتي المدافعات عن حقوق المرأة موثّق لمن يشاء أن يطّلع عليه. واخترت شخصيًّا أن تتمحور أطروحة الدكتوراه التي أعمل عليها حول سياسة تمكين المرأة في اليمن، كما كتب وسيكتب كثيرون آخرون عن إنجازاتنا كنساء يمنيات حتى لا ننساها أثناء ما يتمّ دفع اليمن باتجاه العصور المظلمة. وسنواصل نضالنا في سبيل حقوق المرأة اليمنية وتمكينها بطريقة أو بأخرى.