- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
هل ستصبح ليبيا أفغانستان أفريقيا؟
في حين تتنافس الشخصيات السياسية على النفوذ في ليبيا، تم تمكين الجماعات الإسلامية من قمع الحريات الدينية والنساء والأقليات في جميع أنحاء البلاد.
شهدت الأعوام الأخيرة تراجعا دراميا في البيئة الاجتماعية والدينية بشكل كبير في ظل اضطهاد المرأة لأسباب دينية إضافة إلى الاعتقال المتزايد لمن يوصفون بالملحدين، كما تعرض الذين تحولوا إلى المسيحية لمحاكمات بأحكام العصور الوسطى، كما حدث مع المواطن "ضياء الدين بلاعو" الذي حكم عليه بالإعدام لتحوله إلى المسيحية، إضافة إلى تعرض عدد من الشباب الذين ينشطون ضمن منظمات العمل المدني للاعتقال التعسفي بتهمة نشر "الإلحاد".
مؤخرا، تم اعتقال معلم لغة أمريكي بتهمة التبشير بالمسيحية إضافة لمجموعة ليبيين اتهموا كذلك بالتحول إلى المسيحية والتبشير بها. ولم يسلم حتى البلوغرز وصانعي المحتوى الترفيهي، حيث اعتقلت قوة الردع السلفية التي تسيطر على مطار معيتيقة بلوغر عراقية بسبب فيديو تدخن فيه سيجار. وفي نيسان /أبريل اعتُقلت فنانة شعبية في بنغازي بتهمة الإساءة إلى الأخلاق العامة، كما اعتقل عدد من نشطاء التيك توك بتهمة إهانة قيم المجتمع الليبي.
يبدو أن استهداف الإسلاميين في طرابلس وبنغازي لأغلب الفئات من النساء والأمازيغ والعلمانيين ونشطاء العمل المدني كان استهدافا ممنهجا، حيث حظي هؤلاء الإسلاميين بدعم سياسي من السلطات الليبية المتنافسة على السلطة منذ عام 2021، وبتمويل من الخزانة العامة لثلاث جهات بشكل محدد وهي هيئة الأوقاف الإسلامية في بنغازي ودار الإفتاء وهيئة الأوقاف في طرابلس، ونستطيع إضافة الأمن الداخلي كذراع تنفيذي للمؤسستين الأولى والثانية.
لتتبع سلسلة الأحداث لمشروع أسلمة ليبيا علينا أن نسأل السؤال التالي: كيف قادت ثلاث جهات دينية غير منتخبة مشروع الأسلمة المعادي للمرأة وللحريات الدينية وعزل الليبيين عبر سياسات حكومية وأمنية؟
يمكن إرجاع حركة الأسلمة الحثيثة التي تحدث في ليبيا إلى قرار سحب الثقة من رئيس الحكومة الدبيبة في عام 2021، الذى قاد بعد ذلك مظاهرة لإسقاط البرلمان في شرق ليبيا. حينذاك، تابع الزعيم الديني البارز الصادق الغرياني أو خميني ليبيا كما يسمونه البعض، والذى دعا في السابق للجهاد الإسلامي ضد الأمريكيين والفرنسيين، خطوات الدبيبة المناوئة للبرلمان بارتياح شديد. ويذكر أن ذلك البرلمان قد اتخذ قرار بعزل المفتي من منصبه عام 2014 لكن الأخير استمر بسلطة المسلحين في طرابلس.
أثناء محاولة رئيس الحكومة الدبيبة لاحقًا تجديد شرعيته خارج المؤسسات المتنافسة بما في ذلك مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، لجأ الدبيبة إلى الاستعانة بالنفوذ الديني للغرياني كرئيس لدار الإفتاء وحصل على مباركته للاستمرار كرئيس للوزراء - وهي خطوة سمحت له باستعادة بعض نفوذه في طرابلس دون تقديم تنازلات سياسية. كان هذا التحالف غير مسبوق في ليبيا، حيث لم يكن الغرياني صاحب المواقف الدينية المتطرفة قريبا من الحكومات السابقة المتنافسة مثل حكومة الوفاق برئاسة فائز السراج أو الحكومة المؤقتة برئاسة عبدالله الثني المقرب من العسكريين. ومع ذلك فإن تأييد الدبيبة للغرياني كـ "شيخ ومعلم" فتح الباب أمام حملة قمع ثقافية إسلامية واسعة.
ومبدئياً، أعطت حكومة الدبيبة للغرياني الضوء الأخضر الذى كان ينتظره للبدء في تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية، فانطلق المفتي في حملة دينية تحريضية متشددة ضد المرأة الليبية حيث أصدر فتوى دينية تمنع سفر المرأة دون مرافق. استجاب "الأمن الداخلي" لتلك الفتوى المتطرفة وقام بفرض نموذج إذلالي مُهين قائم على التمييز الجنسي يقيد حرية الليبيات في السفر من مطار معيتيقة وأثار بطبيعة الحال جدلا وغضبا بين مناصري حقوق الإنسان ونسويات ليبيا. وبعد إصدار هذه الفتوى، أجبرت النساء اللاتي يسافرن بمفردهن على توفير تفاصيل حول رحلاتهن وأسباب عدم وجود "مرافق ذكر".
حتى قبل ذلك، كان جهاز الأمن الداخلي يقوم بقمع المواطنين تماشيًا مع رؤية الغرياني الإسلامية، ففي الثامن والعشرين من نيسان/ أبريل 2022، نشر الأمن الداخلي مقطع فيديو لاعترافات مواطن ليبي قبضوا عليه بتهمة "الإلحاد" عبر تتبع غرف الملحدين الليبيين في منصة الكلوب هاوس. وأُجبر في اعترافاته لاحقا على ذكر أبرز الأسماء الشابة المعارضة لسيطرة السلفيين الجهاديين، وكانت هذه بداية لسلسلة اعتقالات طالت عددا من الشباب والشابات بتهمة الإلحاد والتجديف والتحوّل إلى المسيحية. في تلك الأثناء، أيدت لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب في طبرق هذه الاعتقالات القمعية.
طلب المفتي الغرياني من حكومة الدبيبة ميزانيات مالية خاصة لمحاربة الذين يغيرون دينهم إلى المسيحية، كما طلب تمكينه من المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية. وفي الواقع كانت دار الإفتاء تتحصل شهريا على تمويل تخصصه وزارة المالية من المصرف المركزي الليبي، ويأتي هذا التمويل متزامنا مع استضافة ذبيح الله مجاهد، المتحدث الرسمي باسم حركة طالبان الأفغانية، لعضو دار الإفتاء الليبية سامي الساعدي في إطار سياسة التطبيع التي ينتهجها الغرياني مع حركة طالبان.
استطاع تيار السلفية الجهادية الذي يمثله الغرياني، والممول من قبل الدولة والمؤثر سياسيًا، إعادة سيطرته على عدد لا بأس به من مساجد طرابلس التي فقدها لصالح التيار السلفي الممثل في هيئة الأوقاف. وبعد فتاوى وهجوم مستمرين من المفتي ضد منظمات العمل المدني الليبية، أصدرت إدارة القانون بالمجلس الأعلى للقضاء في الثامن من أذار/ مارس 2023 فتوى تنص على "عدم شرعية الجمعيات الأهلية ومنظمات المجتمع المدني" التي أنشئت بعد عام 2011 ولا يمكن للصدفة أن تلعب هنا دورها في تطابق الفتوى القانونية مع فتوى دينية سابقة، وهو مؤشر واضح على نفوذ التيار الديني داخل مؤسسة القضاء.
وما زاد الطين بلة، هو تصاعد التنافس الحاد بين التيار السلفي الذي يقوده رئيس هيئة الأوقاف في طرابلس محمد العباني وبين التيار السلفي الجهادي الذي يتزعمه الغرياني. وكان ذلك واضحا في صراع الهيمنة على شرعية إعلان عيد الفطر الذي انتهى بصيام نصف الليبيين وإفطار النصف الآخر.
كما شهدت الشهور الماضية مزايدة بين التيارين لإثبات الأصولية الإسلامية المتشددة، مما أدى إلى تعرض غير المسلمين والنساء والفئات الضعيفة الأخرى للمعاملة القاسية بشكل متزايد، حيث اتجهت أوقاف طرابلس إلى إنشاء جهاز أمني بوليسي تحت اسم "حراس الفضيلة" لتطهير البلاد من العلمانية ومحاربة الملحدين والذين يغيرون دينهم إلى المسيحية والصوفيين والعلمانيين، في نسخة مرعبة مشابهة للباسيج الإيراني. أخذ هذا البوليس الأمني العقائدي سلطات مطلقة لتتبع أفكار المواطنين عبر حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي ومن ثم اعتقال كل مشتبه به ظنيا دون إذن قضائي بحسب أهداف وخطة العمل التي نشرتها الهيئة على حسابها الرسمي.
قبل ذلك التطور بسنوات، تم استهداف الصوفيين على وجه الخصوص في شرق ليبيا حيث اتسعت صلاحيات السلفيين فتمكنوا من قمع أنصار ورموز المذهب الصوفي وسجنوا أتباعهم ومنعوهم من الخطابة في الجوامع وكذلك تمكنوا من مطاردة المثقفين والكتّاب والتضييق على جمعياتهم، مثل الهجوم الشهير على تجمع "تاناروت" في بنغازي وتكفير روّاده واتهامه بنشر المسيحية والإلحاد والماسونية، مما جعل مثقفي التجمع في خطر حقيقي اضطروا بسببه إلى إغلاق تجمع تاناروت الرائد. وفي حادثة أخرى ذات رمزية مهمة قام السلفيون المتشددون المسيطرون على بنغازي بتحويل الكاتدرائية الأثرية الإيطالية العظيمة المهجورة إلى جامع باسم مالك بن أنس رغم اعتراض مثقفي ونشطاء المدينة.
في ظل صمت المؤسسات السياسية الرسمية في البلاد، استهدف التيار السلفي أصحاب المذاهب الدينية الأخرى، ففي يوليو 2017، أصدرت اللجنة العليا للإفتاء في بنغازي فتوى كفرت من خلالها أتباع "المذهب الإباضي" الذي يعتنقه أغلب أمازيغ ليبيا، ما دفع جماعات حقوق الإنسان إلى دق ناقوس الخطر حول ما ستعنيه هذه الفتوى من حيث التمييز ضد الأمازيغ. وفي أيار/مايو 2022 أصدر عضو اللجنة العليا للإفتاء "طارق درمان" المقيم في الزنتان فتوى تعتبر الأمازيغ "كفارا" من الخوارج.
ما يحدث الآن في ليبيا هو بمثابة تراجع اجتماعي وثقافي وديني لم تشهده البلاد من قبل. بينما تتابع الطبقة السياسية الحاكمة في ليبيا شرقا وغربا بارتياح عملية القمع والإلهاء التي يقودها الأمن الداخلي، طالما أنه يدعم قبضتها على السلطة ويصرف الانتباه عن مناوراتهم السياسية.
أصبح الشعب الليبي الآن يعيش حقيقة تجربة الشعب الأفغاني في مواجهة الدولة الدينية مع صعود حركة طالبان في تسعينات القرن الماضي. وفي ظل الوضع السياسي المتشرذم، يرى المحللون أن ليبيا التي عانت من ويلات الحرب الأهلية طوال العقد الماضي، والتي مرت بنزاعات عصفت بجميع جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لا يمكنها المضي قدمًا في الحديث حول ملف الحرية الدينية الذي يعتبره الكثيرون قضية نخبوية ومستوردة. ومن ثم، ستظل قضية تحقيق الحرية الدينية في ليبيا مرهونة بالتوصل إلى تسوية سياسية فعالة بين الأطراف المتحاربة في ليبيا وتشكيل حكومة موحدة تعمل على إنشاء نظام ديمقراطي حقيقي يحترم جميع الحريات ويضمن مبدأ المواطنة والمساواة.