- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
هل يعيد ممر "فيلادلفيا" إشعال التوترات بين مصر وإسرائيل؟
قد يتحول الوجود العسكري الإسرائيلي المستمر في ممر" فيلادلفيا" إلى نقطة توتر حادة في العلاقات المصرية الإسرائيلية، وذلك نتيجة الضغوط والمخاوف الداخلية التي تواجهها القاهرة.
بعد أكثر من أربعة عقود على توقيع اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، تظل هذه المعاهدة حجر الزاوية في الاستقرار الإقليمي. إلا أن الديناميكيات السياسية والأمنية شهدت تطورات متسارعة مؤخرا، ومع تصاعد الصراع في غزة وتزايد الضغوط الداخلية على مصر، يشكل ممر فيلادلفيا - الشريان الحدودي الفاصل بين غزة وسيناء - تحديًا معقدًا للعلاقات المصرية الإسرائيلية. استولت إسرائيل على معبر رفح الحدودي في 7 أيار/مايو، مما دفع مصر إلى إغلاق المعبر من جانبها. ومنذ ذلك الحين، تطالب مصر بانسحاب إسرائيل من المعبر ومن ممر فيلادلفيا.
وبينما يصر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على أهمية السيطرة على هذا الممر لضمان أمن إسرائيل، ترى مصر أن إحياء السيطرة الإسرائيلية على الممر يُعد إجراءً استفزازيًا لن يؤدي إلى وضع أمني مستقر في غزة. هذا التوتر المتزايد يهدد الأسس التي بُنيت عليها اتفاقية السلام بين البلدين، ما يضع مستقبل الشراكة بين القاهرة وتل أبيب على المحك.
سلام بارد لكنه مثمر
على الرغم من الطبيعة الباردة لهذا السلام - والتي تنعكس غالباً في الافتقار إلى الدعم الشعبي لإسرائيل داخل مصر - فقد أثبتت الشراكة أنها عملية وفعالة. قبل الهجمات الإرهابية المروعة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت مصر وإسرائيل تعملان بحذر على تعميق تعاونهما الثنائي، وخاصة في مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب. وعلى مر السنين، تعلمت الدولتان العمل معًا، على الرغم من اختلاف أيديولوجياتهما السياسية والتوتر التاريخي بينهما. وركزت هذه الشراكة البراغماتية على التحديات الأمنية المشتركة، وخاصة في شبه جزيرة سيناء، حيث واجهت الدولتان تهديد المتشددين التابعين لتنظيم "الدولة الإسلامية داعش". وبعد أن تعاملت مصر مع التمرد في سيناء لسنوات، وجدت أرضية مشتركة مع إسرائيل في جهودهما المشتركة لمكافحة هذا التطرف عبر الحدود. كان هذا التعاون البراغماتي، وخاصة في مكافحة الإرهاب، حاسماً للحفاظ على توازن هش للسلام، وإن كان سلاماً متجذراً في الضرورة أكثر من دفء الصداقة.
لقد أثمرت الشراكة مع إسرائيل أيضًا عن مجموعة من الفوائد الاقتصادية الملموسة، حيث سمحت مبادرة المناطق الصناعية المؤهلة للمنتجات المصرية "الكويز" التي تتضمن مكونات إسرائيلية، بدخول الأسواق الأمريكية معفاة من الرسوم الجمركية، ونمت السياحة الإسرائيلية في منتجعات البحر الأحمر في مصر بشكل مطرد خلال السنوات الأخيرة قبل اندلاع الصراع في غزة. وقد أكد التوسع في تجارة الغاز الطبيعي، وخاصة من خلال مشاركة مصر في منتدى غاز شرق المتوسط، على الترابط الاقتصادي المتزايد بين البلدين. وكان هذا التعاون الإقليمي في مجال الطاقة محوريًا، حيث عمل على توحيد المصالح المصرية والإسرائيلية بطريقة تتجاوز الخلافات السياسية، مع التركيز بدلاً من ذلك على الأمن الاقتصادي والطاقة المشترك.
ولكن مع اندلاع الحرب في غزة، انهار التعاون بين الطرفين. على سبيل المثال، أبطأت مصانع (الكويز) إنتاجها بنسبة 20% مقارنة بمستويات عام 2022. وتفاقم الوضع مع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة وانضمام الحوثيين للحرب وتهديد طرق الشحن في البحر الأحمر، والتي هددت عائدات قناة السويس الحيوية لمصر بدورها، وهي شريان حياة حيوي للاقتصاد الوطني.
مع استمرار التوغل العسكري الإسرائيلي في غزة دون وجود حل سياسي في الأفق، وتصعيد إسرائيل لعملياتها في جنوب لبنان، يشعر المواطنون المصريون العاديون بتأثير الصراعات الإقليمية على معيشتهم، مما يزيد من الاستياء في الشارع
ضغوط داخلية متصاعدة
على الصعيد الداخلي، أشعل الصراع الدائر في غزة اضطرابات كبيرة داخل مصر. وهناك شعور متزايد بين المصريين بأن العلاقة الدبلوماسية الطويلة الأمد بين الحكومة وإسرائيل تحتاج إلى إعادة النظر، واندلعت الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد، وربما يكون هذا الغضب العام ليس ظاهرة جديدة، ولكنه أعيد إشعاله بشدة أكبر مع استمرار الصراع في غزة، حيث تظهر مشاهد الأطفال الذين قُتلوا جراء القصف الإسرائيلي على شاشات التلفزيون في مختلف أنحاء البلاد.
وانطلقت عدة دعوات وطنية لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية والأمريكية، واكتسبت الحملات زخما كبيرا لاسيما على منصات وسائل التواصل الاجتماعي. وأبلغت الشركات المتعددة الجنسيات الكبرى، مثل ماكدونالدز، عن انخفاض حاد في المبيعات، وامتدت موجة الغضب الشعبي إلى البرلمان المصري، حيث دعا بعض المشرعين إلى إعادة تقييم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية لعام 1979، كما ذهب أحد النواب إلى تمزيق المعاهدة خلال جلسة برلمانية، كما صرح نائبا أخر، بانه لا سبيل لحماية أهالي غزة سوى بالحرب، مما يشير إلى تصاعد مستوى السخط داخل الطبقة السياسية في مصر. وبالرغم من أن مثل هذه الإجراءات قد لا تُترجم على أنها تخلٍّ رسمي عن المعاهدة، فإنها تسلط الضوء على الضغوط المتزايدة على الحكومة المصرية لإعادة النظر على الأقل في شروط علاقتها بإسرائيل.
أن أحد أكثر المخاوف المصرية إلحاحاً في ما يتصل بنهج إسرائيل هو اعتمادها على التكتيكات العسكرية قصيرة الأجل على حساب الحلول الاستراتيجية طويلة الأجل. وعلى مر السنين، أدت السياسات الإسرائيلية إلى إضعاف السلطة الفلسطينية، مما سمح لحماس، الكيان الأكثر تطرفاً وعنفاً، بتعزيز سلطتها في غزة. وتنظر مصر إلى هذا باعتباره سوء تقدير استراتيجي، معتقدة أن تمكين حماس لم يؤد إلى زعزعة استقرار غزة فحسب، بل وفرض أيضاً مخاطر أوسع نطاقاً على الأمن الإقليمي. ولم يؤد الرد العسكري الإسرائيلي القاسي اللاحق في غزة إلا إلى توسيع الخلاف، حيث شعرت القاهرة بأن جهودها لتحذير إسرائيل من المخاطر الأوسع نطاقًا لمثل هذه الأعمال لم تلق آذانًا صاغية.
أدت الحرب المستمرة في غزة أيضًا إلى استنفاد صبر مصر الدبلوماسي، حيث أفضى الإخفاق في تهدئة الأوضاع إلى تعميق إحباط القاهرة التي ترى أن الإجراءات الإسرائيلية تتجاهل التداعيات الإقليمية الأوسع نطاقًا، وهو ما دفعها لاتخاذ سلسلة من الإجراءات التصعيدية التي ربما لن تتوقف مثل الانضمام إلى جنوب إفريقيا في قضية الإبادة الجماعية بمحكمة العدل الدولية، أو حتى عدم التعاون مع الإسرائيليين في تدفق شاحنات المساعدات من خلال معبر رفح، وذلك حتى يتم التوافق على وقف إطلاق للنار في غزة.
بالنسبة لحماس، يخدم الصراع المستمر أيضًا غرضًا استراتيجيًا أعمق، حيث تستخدم المجموعة الاشتباكات العسكرية ليس فقط لحشد الدعم داخل غزة، ولكن أيضًا لحشد العالم الفلسطيني والعربي الأوسع لقضيتها. كل مواجهة، مهما كانت مدمرة، تعمل كتذكير برواية حماس بأن المقاومة هي المسار الوحيد القابل للتطبيق إلى الأمام. تضمن هذه الدورة أنه حتى عندما تعاني المجموعة من الخسائر، تظل مركزية للنضال الفلسطيني، وتتغذى على الجمود السياسي والعسكري، لتبرير وجودها وعملياتها.
وفي هذا المناخ، تجد الحكومة المصرية نفسها تحت ضغوط متزايدة، من ناحية، يجب عليها الحفاظ على اتفاقيات السلام مع إسرائيل وتعاونها الاقتصادي مع الولايات المتحدة، والتي تشكل أهمية حيوية لأمن مصر واستقرارها الاقتصادي. ومن ناحية أخرى، يتعين على الحكومة أن تعالج موجة السخط العام المتصاعدة والدعوات المتزايدة إلى اتخاذ موقف أكثر حزماً تجاه دعم الأبرياء في غزة. فقد أدى الضغط الاقتصادي، إلى جانب الضغوط السياسية، إلى وضع الحكومة في موقف حرج.
تأكل الثقة واستنفاذ الصبر
وفي حين تظل القنوات الدبلوماسية الرسمية مفتوحة، فإن الثقة التي تم بناؤها من خلال عقود من التعاون تتأكل مع مرور الوقت. ترى القاهرة أن تركيز إسرائيل على الانتصارات التكتيكية، مثل الاغتيالات المستهدفة لقادة حماس أو الضربات العسكرية، لا يفعل الكثير لمعالجة القضايا الأساسية التي تحرك الصراع. وفي حين قد توفر هذه التكتيكات مكاسب أمنية مؤقتة، فإنها تفشل في توفير حل مستدام. لطالما حذرت مصر من أن العمليات العسكرية الإسرائيلية تغذي التطرف في جميع أنحاء العالم العربي، مما يخلق أرضًا خصبة للأيديولوجيات المتطرفة. إن المعركة التي تخوضها القاهرة ضد الإرهاب، خاصة في سيناء حيث تكافح لقمع الجماعات الإرهابية، تجعل هذه القضية أكثر بروزًا. وقد دفعت هذه الظروف إلى تفاهم القاهرة وتل أبيب حول نشر قوات عسكرية تتجاوز ما تم الاتفاق عليه في اتفاقيات كامب ديفيد لهذا الغرض. لطالما دعت مصر باستمرار إلى حل الدولتين باعتباره المسار الوحيد القابل للتطبيق نحو السلام الدائم. ومع ذلك، فإن رفض إسرائيل المتكرر لهذا النهج - ولا سيما مع رفض الكنيست لحل الدولتين - لم يؤد إلا إلى تعميق الموقف. وهناك قلق حقيقي لدى القاهرة من أن تؤدي سياسات حكومة نتنياهو إلى زعزعة استقرار المنطقة بأسرها.
وبذلك، قد يصبح ممر فيلادلفيا نقطة اشتعال في العلاقات المصرية الإسرائيلية، حيث ترى القاهرة أن مزاعم نتنياهو حول وجود أنفاق وظيفية تربط غزة بسيناء امر مبالغ فيها إلى حد كبير، لاتزال تؤكد الحكومة المصرية بأنه لا توجد أنفاق نشطة تمتد إلى مصر وأنها بذلت جهودًا كبيرة لتدمير الأنفاق على طول حدودها. كما أكدت القاهرة أنها ملتزمة بأمن الحدود حيث انعكس ذلك في العدد الكبير من الأنفاق التي فككتها، لكن حكومة نتنياهو مستمرة في التركيز على ممر فيلادلفيا كوسيلة لتحويل عبء عدم استقرار غزة إلى مصر. وفى حين قادت الولايات المتحدة المفاوضات بين مصر وإسرائيل للتوصل إلى اتفاق حول من يتحكم في الحدود، ترى القاهرة أن تركيز نتنياهو على ممر فيلادلفيا هو تشتيت متعمد، وأنها محاولة لعرقلة المفاوضات الجارية لوقف إطلاق النار وإطلاق سراح الرهائن، مما يسمح لنتنياهو بشراء المزيد من الوقت لبقائه السياسي.
إذا استمرت حكومة نتنياهو في السعي للسيطرة على محور فيلادلفيا وإطالة أمد العملية العسكرية في غزة، فإن هذه الاستراتيجية قد تلبي احتياجاته الآنية، لا سيما في الحفاظ على دعم شركائه في الائتلاف اليميني المتطرف، إلا أنها تخاطر بإلحاق أضرار طويلة المدى بعلاقات إسرائيل مع الجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية مثل مصر. ومن ثم، ترى القاهرة أن هذا القرار يشكل أولوية للمكاسب السياسية على حساب السلام، وسيصبح من الصعب بشكل متزايد تجاهل الغضب الشعبي في مصر.
وفي حين أنه من غير المرجح أن تقوم مصر بأي تحركات مفاجئة لقطع علاقتها بإسرائيل، فإن التوتر واضح، وقد تكون عواقب الصراع المستمر وخيمة على المنطقة الأوسع. إن أمن مصر يتعرض بالفعل لضغوط من جبهات متعددة - ليبيا إلى الغرب، والسودان إلى الجنوب، وغزة إلى الشرق - وقد يؤدي استمرار عدم الاستقرار في غزة إلى دفع موارد الأمن المصرية – المحدودة أساسا- إلى نقطة الانهيار، وعلى الجانب الأخر تشتعل كافة الجبهات على الحدود الإسرائيلية بالفعل لكن تظل الحدود الجنوبية المتاخمة لمصر، هي الحدود الوحيدة المستقرة نسبيا، ومن المؤكد انه لا أحد هنا أو هناك يريد إشعال جبهة جديدة للصراع وعدم الاستقرار.