- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
هلا تنتظر روج آڤا سوريا الجديدة
24 يناير/كانون الثاني 2018
ينذر الهجوم التركي على عفرين، الجيب الذي تسيطر عليه الفصائل الكردية في الشمال الغربي السوري، بالدخول في فصل مأساوي جديد من الحرب السورية الطويلة. وفيما على واشنطن السعي الفوري إلى تطويق هذه المواجهة غير المجدية، فإنه يستحسن لها التطرق إلى الأسباب العميقة للتوتر في العلاقات بين حلفائها وشركائها المحليين، المتحققين والممكنين، في هذا الجزء من سوريا، وذلك للاحتفاظ بالحد الأدنى من التأثير في الشأن السوري وعدم إتاحة المجال لروسيا وإيران لاختطاف القضية. والمسألة الأساسية المطروحة هنا هي هل أنه ثمة كردستان جديدة تستحق أن تبصر النور في سوريا.
لا بد من التسليم أن وجهة النظر الداعية إلى إقامة منطقة كردية ذات حكم ذاتي في الشمال الشرقي السوري لها ما يؤيدها، سواءاً من حيث المبدأ أو من حيث الواقع العملي. فالسكان الأكراد في العديد من نواحي الشمال الشرقي السوري هم إما الأكثرية المطلقة أو الفئة الأكبر عدداً حيث تغلب التعددية. فلو أن التسويات التي تمّت بعد الحرب العالمية الأولى قبل قرن قد تضمّنت إنشاء دولة كردية، كما كان الوعد والتوقع، لكانت هذه النواحي جزءاً منها. وقد طال إهمال الآمال القومية الكردية، فيما أنه من حق الشعوب أن تختار الإطار المنسجم مع ثقافتها وقيمها. والقراءة القومية الكردية للمستجدات هي أن كردستان الجنوبية (أي كردستان العراق)، رغم الانتكاسة الأخيرة، قد حققت أشواطاً كبيرة باتجاه الانعتاق، وجاء دور روج آڤا كردستان في سوريا، أي كردستان الغربية، للسير على هذا الدرب، على أن تتبعها كل من كردستان الشمالية في تركيا وكردستان الشرقية في إيران. فالنزاع في سوريا كان وحسب فرصة التحقيق للطموح القومي، دون أن يتحول هذا التحقيق إلى عصبية عدائية بحق الآخرين، بل إنه سار باتجاه «ديمقراطية الشعوب» والتي تشدد على ضرورة المشاركة والمساواة. وعليه، يبرز الحضور النسائي وانخراط غير الأكراد في هذه البنية الجديدة القائمة على التمكين من انطلاقاً من القاعدة الشعبية إلى الأعلى. ومن خلال هذا التمكين، وبناءاً على التفويض الذي تشكله الانتخابات المحلية، فإنه قد تمّت إقامة «فدرالية»، أي ولاية اتحادية، في الشمال السوري بقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو الفصيل القومي الكردي الأبرز في المنطقة. وإذا كان التحالف مع الولايات المتحدة قد بدا انتفاعياً أو انتهازياً في المرحلة الأولى، ومن الجانبين، مع حاجة الكيان السياسي المتشكّل إلى الدعم المادي، ومع البحث الحثيث من جانب الولايات المتحدة لإيجاد القوى البرية في مجهودها الحربي بمواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية»، فإن ترقية العلاقة من الآني إلى الطويل الأمد ومن الميداني إلى السياسي كانت متوقعة، انطلاقاً من التوافق في المصالح والقيم. واليوم بعد أن قدّمت روج آڤا التضحيات الجسام في الأرواح والأموال، فإنها قد استحقت استمرار الدعم من الولايات المتحدة وتعزيزه في المرحلة المقبلة. والحاجة إلى هذا الدعم ماسة، سواءاً إزاء روسيا وإيران في سعيهما لتعويم النظام وإعادة طغيانه على كامل التراب السوري، أو إزاء تركيا في نهجها المعمّى والمشبوه والذي يُظهر محاربة تنظيم الدولة فيما هو يُبطن السعي إلى حرمان الشعب الكردي من حقوقه المشروعة، في سوريا كما في تركيا نفسها.
هي بالتأكيد حجج تنضوي على قدر من الحقيقة. إلا أنه مقابل كل حجة مطروحة هنا يمكن استدعاء حجة مضادة قائمة كذلك على الوقائع والحقائق. بل إن الإطار العام للطرح القومي الكردي اليوم، بما يحفل به من دعوات الضم القسري لفئات تُنسب إليها الهوية القومية شاءت أم أبت، وبما يرد فيه من تصورات فوقية للذات (وصولاً إلى إحياء مادة بائدة من القرن التاسع عشر حول الفوارق بين «الآرية» الكردية و «السامية» العربية في بعض مواقع التواصل الاجتماعي)، يتماهى بالكامل مع الأطر القومية التي سادت ثم فشلت في الأوساط العربية والتركية والإيرانية. ولا شك أن تجربة روج آڤا قد حظيت بالإعجاب في تقارير صحفية غربية تغنّت بها، ولا سيما لاعتناقها «ديمقراطية الشعوب»، وإن جاءت هذه ليس كما الصورة المثالية كوسيلة تمكين من القاعدة إلى الأعلى، إنما كنظرية للتطبيق من القيادة إلى الأسفل، بعد أن تحوّل عبدالله أوجلان عقائدياً من الشيوعية اللينينة الستالينية إلى الفوضوية الاشتراكية. بل أن تطبيقها يترافق مع اتجاه متصاعد لحصر السلطة ومركزتها على مستوى قيادة «الفدرالية». فالانتخابات المحلية للعامين ٢٠١٥ و٢٠١٧ قد أرست نظاماً سياسياً قائماً على درجات في المواطنة، بدلاً من تحقيق التمكين الشعبي الصادق، حين قرّرت أن بعض العشائر العربية والتي نزلت «مؤخراً» في المنطقة (أي التي دفعتها الدولة السورية إلى الانتقال من البداوة إلى الاستقرار الحضري قبل زهاء نصف قرن أو أكثر) تنال بعض حقوق التصويت لا كلّها. وقد يكون ما جرى تداوله من طرد للسكان العرب من قراهم بعد دخول الفصائل الكردية إليها مبالغ فيه، رغم أن توثيق العديد من الحالات المقلقة تم بالشكل الرصين، إلا أن «الفدرالية» تنضح بالطابع الكردي، في رموزها وقراراتها اللغوية وأوجهها السياسية، رغم أن معظم أراضيها، والتي تم ضمّها في إطار حرب التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة على تنظيم الدولة، لم تكن يوماً ضمن التصور القومي، في أقصى سخائه، لكردستان الغربية. أما الزعم بأن العشائر العربية المحلية وغيرها من التجمعات السكانية قد أعلنت تأييدها للكيان الاتحادي، فيفقد من صدقيته عندما يلاحظ أن العديد من هذه الأطراف كانت مضطرة أن تعلن الولاء لتنظيم الدولة. أي أن الدافع لمواقفها هو الحاجة إلى البقاء، وليس الإرادة الحرة واعتبار المصالح. ولا شك أن المنطقة، بعيون غربية، أجمل مما كانت تسيطر عليه «الدولة الإسلامية»، أو ما يزال إلى اليوم بأيادي المعارضة: فالنساء بملابس الجنود أو في مواقع السلطة هنا بالتأكيد أكثر بهاءاً من الملتحفات بالعباءات والمنقبات والمحجبات في سائر سوريا. ولكن الاختلاف بالأشكال المرئية لا يفيد الخلاف في القيم. بل إن المجتمع السوري الكردي يقترب في قيمه وعاداته وتقاليده من بقية أهل البلاد، ولا يمكن اختزال هؤلاء بالقيود التي يفرضها عليهم رجالاً ونساءاً الجهاديون وسائر الإسلاميين في صفوف المعارضة. لا شك أن الدفع الذي يقوم به حزب الاتحاد الديمقراطي باتجاه القيم التقدمية هو فعل إيجابي، ولكنه لا يحوي اعتناقاً لذهنية الانفتاح السياسي والتسامح العقائدي، فهذه الذهنية منحسرة في أفعال حزب الاتحاد كما في سياساته ومواقفه.
إلا أن هذه المواقف والسياسات تبقى قابلة للتبديل الإيجابي نتيجة التفاعل الميداني مع الولايات المتحدة، وإن لم تكن النوايا صافية في مطلع المسعى إلى التعاون، بعد أن كان الحزب قد اعتاد على الطعن بالإمپريالية الأميركية وسعيها إلى فرض نفوذها. وتصور الولايات المتحدة نفسها لعلاقتها بحزب الاتحاد قد تبدلت، إذ أنها تقترب، على المستوى الميداني على الأقل، من تجاوز الصيغة التعاقدية التي كانت قد اختارتها له باتجاه علاقة أكثر ديمومة. فالمطلوب لاستكمال رؤية سياسية أميركية في سوريا المزيد من الحزم والوضوح في إدارة مخاوف تركيا وتوقعاتها، وهي الحليف الثابت ضمن حلف شمال الأطلسي، كما أنها القوة القادرة على مستوى الشرق الأوسط. ولكن جوهر المسألة هو أن الولايات المتحدة، إذ هي وراء تمكين حزب الاتحاد من السيطرة على معظم الشمال الشرقي السوري، تقع على عاتقها مسؤولية منع التوتر في هذا الجزء من سوريا من أن يرتفع إلى حد الانفجار العتيد.
ففي معظم الأوساط العربية في سوريا، لا ينظر إلى «الفدرالية» المعلنة في الشمال الشرقي على أنها تجربة صادقة باتجاه تعزيز الحكم المحلي داخل الوطن السوري الواحد، بل على أنها محاولة تقترب من مطلق السفور للانفصال بدوافع قومية كردية. وإذ أن حزب الاتحاد قد اشتكى من عدم دعوته إلى مختلف المفاوضات لحل الأزمة برعاية دولية، فإن العديد من المعارضين السوريين، فصائل وشخصيات، يتهمون الحزب بالتموضع على مسافة واحدة من النظام والثورة، بل الكثير منهم يرى أنه لو كان لحزب الاتحاد موقف وطني في المرحلة الأولى من الانتفاضة على النظام، والتي اتسمت بالخطاب الجامع العابر للفئويات، فإن التطورات لكانت تحققت باتجاه غلبة التحول الديمقراطي في سوريا. فنأي حزب الاتحاد نفسه عن المشاركة الوطنية قد ساهم ولو جزئياً في تسريع الدائرة المقفلة من الاهتراء في الثورة من خلال تغليب الخطاب الفئوي ليمسي الحراك انتفاضة عربية سنية، قبل أن يستولي عليه الإسلاميون والجهاديون. فعلى ما يراه العديدون في صفوف الثورة، ما أقدم عليه حزب الاتحاد يبلغ مبلغ النفاق والخداع والخيانة. والولايات المتحدة الداعمة لحزب الاتحاد، والتي يعتبر معظم المعارضين أنها أخلفت عن وعودها حول دعم قضيتهم، هي بالتالي في موقع شاهد الزور لمسعى انفصالي تقسيمي.
فلا يمكن بالتالي اعتبار تجربة «الفدرالية» في الشمال الشرقي السوري، والتي قدم عليها طرف مطعون بصدقيته ونواياه تدعمه قوة عظمى لا يثق معظم السوريين بأقوالها وأفعالها تجربة ناجعة رائدة لتوجيه سوريا نحو الصيغة الاتحادية المستدامة. بل إن واشنطن، من خلال تزكية الخطوة، أو حتى من خلال تمكينها لها دون تزكية، تتيح المجال لخصميها المعلنين، أي روسيا وإيران، كما لحليفتها المحتارة تركيا، للشروع بحملة إدانة صارخة تتهم الولايات المتحدة بالسعي إلى تفتيت المنطقة وتقسيمها. وهذه الإدانة تلقى قبولاً واسع النطاق لدى الجمهور السوري خاصة والعربي عامة، وتدعمها للأسف بعض الأقوال غير المحسوبة الصادرة من داخل الولايات المتحدة نفسها (مثل تأكيد المرشح للرئاسة آنذاك دونالد ترامپ أن الولايات المتحدة هي التي أطلقت تنظيم الدولة الإسلامية).
وثمة طرفان يستفيدان من الحديث عن شراكة بين الولايات المتحدة والمسعى الانفصالي في الشمال الشرقي السوري: النظام والتنظيم. فنظام دمشق في رفضه للخطوات الانفصالية يبرئ ذمته وإن شكلياً في أوساط شعبية عدة أنهكتها الحرب وراحت تلتمس الأعذار للعودة إلى أحضان الوطن، أي الرضوخ للنظام، في حنين لما حجبته الأزمة من حياة تقارب الطبيعية. هذا فيما العداء الظاهر حيناً، والبالغ حد التعدي أحياناً، من جانب المقاتلين التابعين لحزب الاتحاد بحق المواطنين المتهمين بالتعاون مع تنظيم الدولة، أو حنى المشتبه بأن هويتهم تشكل له الحاضنة، من شأنه أن يعزز قدرة التنظيم المتشدد على كسب المناصرين في صفوفهم، تحضيراً لعودته وإن بأشكال مستحدثة، والتي يعد لها العدة للمرحلة المقبلة.
بل يمكن الجزم بأن حزب الاتحاد كان العدو المفضّل بالنسبة لتنظيم الدولة. فعلى مدى أشهر خمسة طويلة عام ٢٠١٦، استمات التنظيم في الدفاع عن معاقله في مدينة الباب، أولى المدن والبلدات التي كان قد خططت تركيا لعملية «درع الفرات» أن تدخلها، ما أخرّ العملية وصد تقدم القوات المدعومة تركياً، تاركاً المجال أمام «قوات سوريا الديمقراطية» والتي تشكل وحدات حماية الشعب التابعة لحزب الاتحاد صلبها وأساسها، لعبور الفرات نحو الغرب وفتح مدينة منبج وسط مقاومة ضئيلة جداً مقارنة بالمقاومة التي أظهرها التنظيم في الباب. ومن خلال انسحابات متواصلة من مواقع عند جنوب الباب، مكّن تنظيم الدولة قوى النظام وقوات سوريا الديمقراطية من الالتقاء في حزام عازل للتقدم التركي قاطعاً الطريق عن أية مشاركة تركية في المعركة الفاصلة التالية في الرقة، وحاسماً التنافس عمّن سوف يخوض معركة الرقّة، لصالح «قوات سوريا الديمقراطية». وفي الرقة نفسها لم يظهر تنظيم الدولة الشراسة والإصرار في التصدي للهجوم مقارنة بما كان أعدّه في الموصل والباب. وقد لا يكفي اعتبار ذلك عائداً إلى استنزاف التنظيم لقواته (والتي تمكن البعض منها من الانسحاب من الرقة سالماً عبر ترتيب مع قوات سوريا الديمقراطية، وفق ما أثبته تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية) بل لا بد من تقييمه على أساس حسابات لدى تنظيم الدولة للعداء والتماهي بين القوة الفاتحة للرقة وسكان محافظتها والذين يبقون في دائرة الاستقطاب في أي جهد مستقبلي للتنظيم. ففي حين أن الموقف الرسمي لحزب الاتحاد هو أن الهدف من تعزيز قوته والاستمرار بالدعم الذي يحصل عليه من الولايات المتحدة هو منع عودة تنظيم الدولة، فإن الخطوات الانفصالية أو الموسومة كذلك لحزب الاتحاد من شأنها تقوية احتمالات عودة هذا التنظيم.
من الممكن المحافظة على المكاسب السياسية والإصلاحات الإدارية التي حققها حزب الاتحاد على المستويات المحلية، ومن الممكن الوصول إلى الحكم الذاتي المحلي ودعوة سوريا الجديدة، المنعتقة من الاستبداد، إلى القبول بنظام اتحادي. إلا أن هذه الإنجازات لا تتم إلا بمعاضدة من كل سوريا، لا رغماً عن كل سوريا. وسكان كردستان السورية، المعرّفة بنواحيها التاريخية وليس على أساس الفتوحات الطارئة، من شأنهم أن يعلنوا روج آڤا إذا كان هذا خيارهم، ككيان سياسي مستقل، با إن شاؤوا على طريق الوحدة لبلوغ كردستان الكبرى، وإن رأى غيرهم في ذلك أحلام عصية عن التحقيق. ولكن السير على هذا الطريق لا يمكن أن يكون عبر ما يرى فيه الآخرون فعل خيانة. وليس صائباً لدعاة كردستان سوريا استدعاء تجربة كردستان العراق. فالشعب السوري برمّته، بعربه وأكراده وغيرهم، رزح تحت استبداد النظام القاتل، ولم يشهد السوريون الأكراد حالة من القسوة الفاصلة تقترب مما عاشه الأكراد في العراق من فعل إبادة في إطار عمليات الأنفال الذي شنّها النظام العراقي البائد في ثمانينات القرن الفائت. والإشارة إلى المأساة الكردية في العراق من جانب أنصار حزب الاتحاد لتبرير أية خطوات يتخذها الحزب تشكل تجاوزاً معنوياً يؤدي وحسب إلى اتساع الهوة في الثقة الغائبة بين الأكراد والعرب في سوريا.
والتطورات تسير اليوم باتجاه شكل جديد للأزمة السورية، يعاد فيه رسم خطوط التماس، ويعاد فيه خلط التحالفات. والولايات المتحدة هي في موقع فريد لمنع الانحدار إلى صدام جديد، من خلال التواصل الحازم الصادق مع شريكها حزب الاتحاد. فمصلحة الولايات المتحدة نفسها، كما مصلحة الحالة الكردية في سوريا، بالإضافة إلى المصلحة السورية العامة، تقتضي أن ينتظر قيام روج آڤا تحقق سوريا جديدة وحرة.