- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
جهود إيران لتقويض التقارب التركي الإسرائيلي تأتي بنتائج عكسية
أدت الجهود الإيرانية لاستهداف المواطنين الإسرائيليين على الأراضي التركية إلى التقارب بين تركيا وإسرائيل.
في 9 آذار/مارس، قام الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتصوغ بزيارة تاريخية إلى أنقرة، هي الأولى من نوعها لرئيس إسرائيلي منذ خمسة عشر عامًا، وكانت حصيلة جهود استمرت عامين لإعادة تفعيل العلاقات بين الجانبين. فالتطورات الهامة الكثيرة، ومن بينها وباء فيروس كورونا (كوفيد-19)، وهزيمة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو في الانتخابات العامة، وتراجع التصعيد النادر في الشرق الأوسط، وأخيرًا حرب روسيا على أوكرانيا، ساهمت جميعها في تحقيق هذا الإنجاز الهام الذي استمر في الظهور خلال الأشهر اللاحقة.
على الرغم من أهمية زيارة هرتصوغ، وُضعت في المقام الأول في إطار مبادرة شخصية وليس مبادرة الفرع التنفيذي في الحكومة الإسرائيلية. ومع ذلك، يُظهر أحد جوانب العلاقات الثنائية نموًا سريعًا وفعالًا. منذ فترة، يشهد التنسيق الميداني على المستوى الاستخباراتي بين جهاز الاستخبارات الوطنية التركية والموساد الإسرائيلي في ما يتعلق بالتهديدات الأمنية التي تواجه البلدين تطورات سريعة.
ومن هذا المنطلق، تشكل إيران أحد العوامل الأكثر خطورة التي تدفع عجلة هذا التعاون المتزايد. فطهران تعتبر أنقرة منافسًا إقليميًا لها يقف في طريق مساعيها للسيطرة على المشرق. كما تنظر إلى إسرائيل نظرة سوداوية، كعدو لدود يقوض قوة إيران وقدرتها على المستوى الوطني، لا سيما من خلال علاقاتها الوثيقة بالولايات المتحدة.
خلال السنوات القليلة الماضية، أصبح انتشار الميليشيات الشيعية المسلحة الإيرانية في المنطقة مصدر قلق متزايد ليس لبعض الحكومات العربية فحسب، بل لتركيا وإسرائيل أيضًا. فقد شكل حشد وكلاء الحرس الثوري الإيراني في الدول المجاورة تهديدًا أمنيًا لكل من أنقرة وتل أبيب. وفي سوريا، ظهر تقارب ضمني في المصالح في ما يخص وجود الميليشيات المسلحة التابعة للحرس الثوري الإيراني.
نفذت إسرائيل في السنوات الخمس الماضية أكثر من ألف غارة جوية ضد أهداف إيرانية في سوريا، إذ ضربت 1200 هدف بأكثر من 5500 صاروخ في أثناء 408 مهمة. لم تنتقد تركيا هذه الضربات قط. وكذلك، عندما نفذت تركيا ضربتها الأولى بطائرة بدون طيار ضد الميليشيات المدعومة من الحرس الثوري الإيراني في سوريا خلال حملتها في عام 2020 ضد نظام الأسد، أبدت إسرائيل اهتمامًا كبيرًا بموقف أنقرة.
فضلًا عن ذلك، أثارت المفاوضات بين إدارة بايدن وإيران بشأن إمكانية إعادة تفعيل خطة العمل الشاملة المشتركة مخاوف في العاصمتين. ومع أن تركيا لم تعترض على الصفقة الأولية، تحمل احتمالات المفاوضات الحالية مخاطر كثيرة لأنقرة وكذلك لتل أبيب. فمن ناحية، تمثل إيران المسلحة نوويًا تطورًا غير مرحب به للدولتين، بما أن ذلك سيؤدي على الأرجح إلى سباق تسلح نووي في الشرق الأوسط. ومن ناحية أخرى، يمكن لصفقة ضعيفة أن تقوي طهران وأجندتها التوسعية من خلال السماح لها بتمويل وكلائها بشكل أفضل وتسريع برامج ترسانة الصواريخ والطائرات بدون طيار الخاصة بها، ما يشكل تهديدًا أكثر خطورة بكثير لأنقرة وتل أبيب.
استخدمت إيران أيضًا بشكل متزايد الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني في العراق ولبنان للضغط على تركيا وإسرائيل واستهدافهما. ومؤخرًا، كثفت طهران جهود الميليشيات الشيعية العراقية لاستهداف المواقع العسكرية التركية التي تقاتل حزب العمال الكردستاني، وهو منظمة مصنفة إرهابية في شمال العراق، باستخدام القذائف والطائرات بدون طيار والصواريخ. وأكد تقرير استخباراتي عسكري أمريكي رُفعت عنه السرية صدر في أيار/مايو الماضي أن الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران في العراق تنسق مع حزب العمال الكردستاني ضد تركيا.
في حزيران/يونيو 2022، أشارت عدة تقارير إلى أن إيران رعت إنشاء غرفة عمليات مشتركة في شمال سوريا بين وحدات حماية الشعب الكردية المسلحة والمليشيات المسلحة الشيعية المدعومة من الحرس الثوري الإيراني للتصدي لعملية عسكرية تركية محتملة هناك. وكذلك، لا تزال سوريا ولبنان يشكلان نقطة انطلاق للهجمات التي ترعاها إيران ضد إسرائيل. وفي الشهر الماضي، شنت إسرائيل هجومًا جويًا كبيرًا شلّ حركة مطار سوريا الرئيسي في محاولة لمنع دخول شحنات الأسلحة الإيرانية إلى البلاد.
بالإضافة إلى ذلك، نجحت إسرائيل في 2 حزيران/يونيو في اعتراض ثلاث طائرات بدون طيار أطلقها حزب الله فوق منطقة حقل غاز كاريش المتنازع عليها. كان وجود هذه الطائرات بدون طيار لافتًا إلى حد كبير، بما أن حزب الله قد وعد في وقت سابق بعدم اتخاذ أي إجراءات قبل أن تتخذ الدولة اللبنانية قرارًا رسميًا بشأن هذه القضية. ومؤخرًا، تمت مناقشة فكرة نقل الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر خط أنابيب تحت الماء مؤدٍ إلى تركيا، خلف أبواب مغلقة. ستربط هذه الخطوة أنقرة بهذا الصراع المستعر أيضًا، ما يجعلها تراقب عن كثب التصعيد من قبل وكيل إيران في شرق البحر المتوسط.
تُظهر جميع هذه التطورات الطرق التي أحدثت بها التدخلات الإيرانية في المنطقة تقاربًا في المصالح بين تركيا وإسرائيل في مواجهة التهديد الإيراني. ويُعتقد أن حرب الظل المستمرة بين إيران وإسرائيل قد استلزمت وسهلت المزيد من خطوات التطبيع بين تل أبيب وأنقرة لمواجهة التهديدات الإيرانية المتزايدة.
بعد اتهام إسرائيل باغتيال عدد من الشخصيات الإيرانية الأساسية في برنامج إيران النووي ومؤسستها العسكرية، سعت إيران إلى الانتقام من خلال استهداف مواطنين إسرائيليين في الخارج، ومن بينهم أهداف تُعتبر بارزة. ويبدو أن أجهزة المخابرات الإيرانية اختارت تركيا كمسرح عمليات لتنفيذ خطط تقضي بخطف وقتل مواطنين إسرائيليين.
من خلال اختيار تركيا كموقع واستخدام السكان المحليين، يبدو أن طهران افترضت أنها ستضرب عصفورين بحجر واحد: الانتقام من إسرائيل وتقويض التقارب التركي الإسرائيلي. ومن ثم، يمكن لتلك الهجمات ضد المواطنين الإسرائيليين على الأراضي التركية أن تزعزع الثقة بين أنقرة وتل أبيب وتخلق بيئة معادية تطغى على جهود التنسيق الرامية إلى التصدي لسياسات إيران الخبيثة. ولكن المخطط الإيراني أتى بنتائج عكسية، وأدى بدلًا من ذلك إلى تعزيز التواصل المباشر والتعاون والتنسيق بين إسرائيل وتركيا على المستويات السياسية والأمنية والاستخباراتية.
بعبارات أخرى، فيما هدفت إيران إلى عرقلة الجهود المبذولة لإعادة إرساء العلاقات الثنائية، قربت في الواقع الدولتين من بعضهما. ففي شباط/فبراير 2022، كشف جهاز الاستخبارات الوطنية التركية عن شبكة تجسس إيرانية مكلفة بقتل رجل الأعمال الإسرائيلي التركي، يائير جيلر، في إسطنبول. وشكلت هذه العملية أكبر حالة تعاون بين الجانبين منذ جهود إعادة تفعيل العلاقات ومهدت الطريق أمام الرئيس الإسرائيلي لزيارة تركيا لاحقًا. أبلغ جهاز الاستخبارات الوطنية التركية الموساد الإسرائيلي بالعملية وعقد مسؤولون من الجانبين اجتماعًا سريًا في العاصمة أنقرة لتنسيق التحركات. وفي وقت لاحق، نقل الموساد جيلر إلى مكان آمن بينما ألقى جهاز الاستخبارات الوطنية التركية القبض على العصابة الإيرانية.
بعد اغتيال الضابط الكبير في الحرس الثوري الإيراني حسن صياد خدايي- أحد كبار ضباط الحرس الثوري، في طهران في 22 أيار/مايو، تكثفت محاولات إيران لاستهداف الإسرائيليين في تركيا. وشكّل الجدل المتزايد حول مشروع تحالف الدفاع الجوي الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة، الذي جمع إسرائيل مع عدد من دول الخليج العربي لإحباط الهجمات الجوية الإيرانية، دافعًا إضافيًا لطهران لمحاولة عرقلة جهود التقارب بين تركيا وإسرائيل وإبعاد أنقرة عن محاولات تشكيل كتلة إقليمية استراتيجية لمواجهة إيران.
وفي موازاة اغتيال خدايي، أوعزت إسرائيل إلى مواطنيها بعدم قضاء إجازاتهم في تركيا على خلفية ما اعتبرته محاولات إيرانية محتملة لقتل أو اختطاف إسرائيليين أثناء قضاء عطلهم في تركيا. وبعد فترة وجيزة، تم تشديد التحذير في 13 حزيران/يونيو وأُفيد عن خطط نشطة لعملاء إيرانيين تقضي بمهاجمة إسرائيليين في إسطنبول. وجاء التحذير بعد يوم من كشف أنقرة عن عصابة إيرانية كانت تخطط لمهاجمة أهداف إسرائيلية.
سارع المسؤولون الإيرانيون إلى نفي الاتهامات الإسرائيلية. وقال المتحدث باسم الوزارة سعيد خطيب زاده إن هذه الاتهامات "لا أساس لها" وهي "جزء من مؤامرة معدة سلفًا لتدمير العلاقات بين البلديْن المسلميْن". ولكن تركيا كشفت أن عملية مشتركة بين الشرطة وجهاز الاستخبارات الوطنية التركية أدت إلى القبض على عدة خلايا تعمل لصالح المخابرات الإيرانية. وبحسب وسائل الإعلام التركية، ألقت المخابرات التركية القبض على ثمانية مشتبه بهم تظاهروا بأنهم رجال أعمال وسياح وطلاب فيما كانوا يخططون لشن هجمات ضد سياح إسرائيليين. وشملت هذه الخطط خطف وقتل القنصل العام الإسرائيلي السابق في إسطنبول يوسي ليفي سفاري وشريكه روني غولدبرغ.
نجح التنسيق في إحباط الهجوم، وسرعت العملية بشكل واضح عملية التطبيع بين تركيا وإسرائيل. وشكر الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الخارجية الإسرائيليون تركيا على جهودها في هذا الإطار. وفي 23 حزيران/يونيو، قام يائير لبيد، وزير خارجية إسرائيل آنذاك ورئيس حكومة تصريف الأعمال الحالي، بزيارة تركيا لأول مرة منذ أكثر من عقدين. وخلال الزيارة، أشاد لبيد بالتعاون الأمني المستمر مع تركيا وقال إن "أرواح المواطنين الإسرائيليين أُنقذت بفضل التعاون الأمني والدبلوماسي". وأضاف لبيد أن أنقرة "تعرف كيف ترد على الإيرانيين" في أعقاب المحاولات المستمرة لإلحاق الأذى بالإسرائيليين على أراضيها.
ومن ناحيته، أكد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو من جهته أنه في ما يتعلق بإيران، "تم توجيه الرسائل الضرورية [إلى المسؤولين] ... ولن يسمحوا أبدًا بمثل هذا الانتقام والهجمات الإرهابية ضد الإسرائيليين في بلادهم". وناقش الوزيران عملية رفع العلاقات الدبلوماسية إلى مستوى السفير واتفاقيات محتملة في مجال الطيران المدني والتعاون في مجال الطاقة، من بين قضايا أخرى.
وفي أعقاب عملية التجسس المضاد الأخيرة التي نفذتها تركيا وكشفها للخلايا الإيرانية، أقيل رئيس وحدة استخبارات الحرس الثوري الإيراني حسين طائب من منصبه. وفي النهاية، لم تؤدِ العملية السرية سوى إلى تصعيد حدة التنافس بين أنقرة وطهران. منذ ذلك الحين، كرست أنقرة المزيد من الاهتمام والموارد لعمليات التجسس المضاد، ليس لإحباط محاولات طهران لقتل السياح وحماية التقارب التركي الإسرائيلي فحسب، ولكن أيضًا لحماية قطاع السياحة، الذي حصد أكثر من 34.5 مليار دولار بالعملة الصعبة عام 2019.
صحيح أنه تم إحباط التهديد الإيراني حاليًا، إلا أن طهران ستستمر بكل تأكيد في اتباع السياسات الإقليمية ذاتها التي ساهمت في عودة العلاقات بين أنقرة وتل أبيب. وفي المستقبل، قد تؤدي الخطوات الإيرانية إلى خلق أرضية ومصلحة مشتركة لتقارب المزيد من الدول الإقليمية من بعضها بعضًا وتوسيع نطاق تعاونها وتنسيقها في ما يتعلق بالتهديد الإيراني المتزايد في المنطقة، وهو ما يشير الى إخفاق إيران في إبقاء المنطقة منعزلة.