- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
خلال الحرب في غزة، الولايات المتحدة تخسر قلوب وعقول العرب بسرعة، لصالح منافسيها
صارت الولايات المتحدة تخسر مقارنة بمعارضيها، حيث بلغت نسبة العرب الذين يعتقدون أن للولايات المتحدة دور إيجابي في حرب غزة 7% فقط.
طوال الخمسة عشر عاما التي أعقبت الانسحاب من العراق عام 2011، شهدت كل إدارة رئاسية أمريكية دعوات محلية للانسحاب من منطقة الشرق الأوسط. لكن في كل مرة كانت فيها هذه الأصوات تعلو، يبرز متغير إقليمي جديد يفرض على الإدارة الأميركية العودة لممارسة دورها التقليدي الذي تفرضه عليها طبيعة مصالحها الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية الملحة.
عقب الانسحاب الأمريكي من العراق، حدث فراغ استراتيجي أدى الى ظهور تنظيم "داعش" وما تلاها من حرب تسببت في مقتل الآلاف محلياً ودولياً، وتهجير الملايين من أبناء المنطقة، اضطر الجيش الأمريكي للعودة الى المنطقة بقوة للمشاركة في القضاء على "داعش". وبعد إعلان الانتهاء من القضاء على التنظيم، برزت تهديدات إقليمية جديدة تمثلت في إيران وأسلحتها التي شكلت مصدر تهديد ليس لحلفاء الولايات المتحدة فقط وإنما حرية تدفق الإمدادات النفطية للعالم. وفي الوقت الذي ظنت فيه إدارة بايدن أن تلك المشكلة يمكن حلها من خلال توفير حزمة مكافآت واتفاقات مع إيران، برزت الحرب في غزة لتؤكد من جديد خطأ كل التقديرات التي تعتقد أن هذه المنطقة لم تعد مهمة لمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية.
طبقاً لما ورد في القسم الثالث من وثيقة استراتيجية الأمن القومي الموقعة من قبل الرئيس بايدن في تشرين الأول /أكتوبر 2022 فأن الأولوية الأولى للولايات المتحدة على المسرح العالمي هي التفوق على الصين ثم الحد من نفوذ روسيا. كما تضمنت الوثيقة أولويات الأمن القومي ومكافحة الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط.
ومع ذلك، وعندما يتعلق الأمر بالشرق الأوسط، سيشكل التصور العام الإقليمي السائد بخصوص دور الولايات المتحدة ونواياها في الشرق الأوسط أمرا حاسما لجميع هذه المهام. وفى هذا السياق، تشير الأرقام التي أسفر عنها استطلاع الرأي العام الذي أجرته المجموعة المستقلة للأبحاث IIACSS وشركاؤها في المنطقة والذي شمل عينات وطنية في ستة دول عربية مهمة (العراق، سوريا، الأردن مصر، لبنان، وفلسطين) في الفترة من 17-29 تشرين الأول /أكتوبر 2023، إلى أن الولايات المتحدة تخسر نفوذها بشكل قد يؤثر على الأولويات الثلاثة التي حددتها وثيقة الأمن القومي.
ونتيجة الدعم الأمريكي لإسرائيل، وصلت نسبة الثقة في الولايات المتحدة وتأثيرها بين شعوب المنطقة إلى أدنى مستوياتها، بينما تصاعدت نسبة التأييد لمنافسيها وخصومها الاستراتيجيين (الصين، وروسيا وإيران). وفي الوقت عينه، يشير مؤشر مثير للقلق تضمنه الاستطلاع إلى وجود تصاعد في المواقف التي ساهمت في تغذية عمليات التجنيد الإرهابية السابقة لتنظيم داعش أو القاعدة أو حتى الميليشيات.
باختصار، ونتيجة الحرب على غزة، صارت الولايات المتحدة تخسر مقارنة بمعارضيها، حيث بلغت نسبة العرب الذين يعتقدون أن للولايات المتحدة دور إيجابي في حرب غزة 7% فقط، وفي بعض الدول مثل الأردن كانت 2% فقط. مقابل ذلك فأن نسبة العرب الذين يقولون أن للصين دور إيجابي بلغت 46% في مصر، و34% في العراق و27% في الأردن. كما بلغت نسبة من يعتقدون أن لروسيا تأثير إيجابي 47% في الدول المستطلعة (عدا فلسطين).
ويبدو أن إيران كانت أحد أكبر المستفيدين من هذه الحرب حيث بلغت نسبة من يقولون أن لها تأثير إيجابي في الحرب 40%، ونسبة من يقولون إن لها تأثير سلبي 21% فقط. وفي دول مثل مصر وسوريا قفزت نسبة التأثير الإيجابي لإيران الى 50% و52% على التوالي.
وترتكز مثل هذه الآراء على حالة من انعدام الثقة شبه التام في الولايات المتحدة ونواياها، حيث قال 3% من المستطلعين في الأردن أنهم لا يثقون في الولايات المتحدة، مقابل 25% لروسيا، و24% للصين. وبلغت الثقة باميركا7% في العراق مقابل 33% لإيران و33% للصين و36% لروسيا. أما في مصر فقد بلغت الثقة بأميركا 9% فقط مقابل 51% لروسيا، ونفس النسبة لإيران و47% للصين. أن هذه الأرقام هي الأدنى لصالح أميركا طوال السنوات العشرين السابقة التي أمضيناها في بحوث الرأي العام في المنطقة. وفى السياق نفسه، تُشير الدراسة الصادرة عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2020 إلى أنه حتى في أدنى درجات التفضيل للولايات المتحدة في المنطقة، لم يتراجع تقييم سياسات أميركا سلبياً تجاه فلسطين الى أقل من 19%،
أن من الواضح أن طريقة تعامل الولايات المتحدة مع حرب غزة أفقدتها ما تبقى لها من مصداقية وحيادية بين قسماً من الجماهير العربية، فالمتابع لما ينشر في الإعلام العربي وعبر منصات التواصل الاجتماعي يدرك فعلاً كم بلغت خسارة الولايات المتحدة في قوتها الناعمة في المنطقة التي استثمرت فيها على مدار قرن من الزمن تريليونات الدولارات وكثير من الدماء والجهود التي على ما يبدو مهددة بالضياع كلياً بسب الصراع في غزة.
علاوة على ذلك، توفر حرب غزة خدمة للإرهاب في المنطقة. أن المبدأ الأول الذي تعلمناه من البحوث الكثيرة التي نشرناها مؤخراً في كتاب عن دورة حياة داعش في العراق، تشير إلى مبدأ مهم في مكافحة الإرهاب وهو ضرورة الفوز بمعركة القلوب والعقول. إن ربح هذه المعركة يضمن حرمان الإرهابيين من أي حاضنة شعبية، فضلاً عن أنه يساعد على تعبئة الرأي العام لقتالهم.
في أول مقابلة أجريتها في أحد سجون بغداد مع أحد كبار مساعدي أبو بكر البغدادي قبل سنوات، بادرني بسؤال: هل تساءلتم لماذا تمكنت داعش من تجنيد آلاف المقاتلين من شتى أنحاء العالم في فترة بسيطة وتحتل رقعة شاسعة من سوريا والعراق في فترة وجيزة، في حين لم تتمكن القاعدة والتي هي الحاضنة الفكرية لداعش وأقدم من داعش تجربةً وخبرةً إن تستقطب سوى عدد محدود من المقاتلين؟
عندما طلبت منه الإجابة على السؤال أجابني لان "داعش" ببساطة لا تهتم بالخلفية الأيدلوجية والإيمان الديني لمقاتليها مثلما تفعل القاعدة. نحن (كما قال) نركز في تجنيدنا للمقاتلين على كل شخص لديه سبب لقتال أميركا أو الغرب أو النظام في العراق أو سوريا وبغض النظر عن مدى تديّنه. نحن مثل الحافلة التي تتوقف في محطات عدة وتقول نحن ذاهبون لقتال كل هؤلاء الأعداء (الغرب والأنظمة الأخرى في المنطقة) فمن يريد إن يقاتل معنا فليركب الحافلة. الفكرة الأساسية أذاً هي نحن (أصحاب القضية) مقابل هم(اعداؤنا).
وفي هذا السياق، إذا كانت الولايات المتحدة تعطي الأولوية لمكافحة الإرهاب في المنطقة كما تعلن مراراً وتكراراً، فإن أرقام استطلاعات الرأي العام العربي لا تحمل سوى أخباراً غير سارة لهذا الجهد. فعندما سألنا في استطلاعنا الأخير عن الأسباب التي جعلت أميركا والغرب يساندون إسرائيل لم يجب سوى 8% تقريباً إن السبب هو للدفاع عن المدنيين الذين خطفتهم حماس أو قتلتهم يوم 7 أكتوبر. أما الغالبية المطلقة (بحدود 50%) قالوا إن سبب دعم الغرب لإسرائيل لكرههم للإسلام والمسلمين. وأجاب حوالي 30% أن السبب هو قوة اللوبي الإسرائيلي. بمعنى أن غالبية العرب يرون أن دعم الغرب للحرب التي تشنها إسرائيل ضد حماس هو بمثابة دعم للحرب ضدهم.
إن أحد أهم أسرار القوة الناعمة الأميركية في مواجهة منافسيها هو الأنموذج الأمريكي القائم على حقوق الإنسان وعدم العنصرية ورفض "شريعة الغاب" في التعامل بين الدول. ويؤكد استطلاع الراي العام الذي أجري مؤخرا أن الأغلبية الساحقة من المستطلعين لا يعتقدون أن مثل هذه المبادئ يتم تطبيقها في الموقف الأميركي الرسمي من الحرب في غزة.
تُثير هذه المعلومات القلق بالنسبة لصانعي السياسات في الغرب، وخاصة في الولايات المتحدة، خاصة عندما يفكرون في الكيفية التي تحول بها مشهد الرأي العام العربي ضدهم. بمعنى أن غالبية العرب ينظرون إلى الصراع كونه حرب صليبية جديدة وليست لمحاربة الإرهاب، وهذا بالضبط هو التصور الذي يريد المترفون تبنيه من قبل العرب كي يسهل تجنيدهم. ويرتبط هذا الانقسام العميق حول مسألة الصراع الأساسي للحرب أيضًا بكيفية رؤية الجماهير العربية لهجوم حماس في 7 تشرين /الأول أكتوبر، ففي الوقت الذي يتم الترويج في الغرب لسردية أن هجوم حماس قد حصل لوقف التطبيع مع إسرائيل أو لخدمة أهداف إيران في المنطقة أو لخدمة أهداف حماس في تثبيت سيطرتها على الوضع في غزة، فان 13% فقط من العرب هم من تبنوا هذه السردية. في حين أن أكثر من 60% فسروا أسباب هجوم حماس بثلاثة أسباب متدرجة من الأعلى للأقل في قوتها هي: تحرير فلسطين ثم وقف انتهاكات إسرائيل للمسجد الأقصى، ثم وقف المستوطنات.
مع ذلك، ما زالت هناك جوانب إيجابية، حيث ما زالت الولايات المتحدة تحظى بقدر جيد (44%) من ثقة العرب بقدرتها لمساعدة الفلسطينيين إن أرادت ذلك. لكن يجب التنبيه هنا إلى أن ذلك سلاح ذو حدين. فحينما تثق بقدرة شخص أو جهة ما على حل مشكلة تواجهك، ثم لا يقوم ذلك الشخص أو تلك الجهة بفعل ما تتوقع منه فإن ذلك قد يرفع من منسوب الغضب تجاه الولايات المتحدة كثيراً. لقد أظهرت آراء الشارع العربي في الدول التي تم استطلاعها إن هناك ضوء في نهاية النفق، فرغم كل الألم الذي يشعر به العرب فان 43% منهم ما زال يؤمن أن حل الدولتين ممكن، وفي دول مثل مصر والأردن تكاد تصل النسبة الى 50%.
الوقت وحده هو الذي سيحدد ما إذا كانت هذه التحولات في الرأي العام العربي تجاه الولايات المتحدة وبقية الدول الغربية مجرد تصاعد مؤقت في الغضب، أو ما إذا كانت هذه المواقف ستزداد تشددًا وقوة، وتؤدى إلى حدوث تغيير أكثر استدامة. وفى هذا الصدد، هناك عاملان من المرجح أن يلعبا أدواراً مهمة في تشكيل المسار المستقبلي للرأي العام العربي تجاه حرب غزة والغرب.
يتمثل العامل الأول في فترة الحرب، حيث أصبحت مشاهد الرجال والنساء والأطفال الفلسطينيين القتلى والجرحى منتشرة الآن في كل مكان في وسائل الإعلام العربية التقليدية ووسائل التواصل الاجتماعي. في حالة طال أمد الحرب، قد يشعر بعض العرب بالضجر من الصراع وينصرفون إلى قضايا أخرى. ومع ذلك، وفى ظل التغطية الإعلامية المكثفة في العالم العربي سيكون من الصعب تصور حدوث تحول كبير بعيدًا عن الصراع الدائر. وكلما طال أمد الصراع وطغت هذه المشاهد على الوعي الشعبي العربي، كلما زاد احتمال استمرار الغضب العربي أو حتى نموه إلى ما هو أبعد من فترة الصراع الحالي.
أما العامل الثاني فهو يتمثل في المسار الذي سيتخذه الصراع الحالي، والذي سيساعد في تشكيل المواقف العربية تجاه الحرب والغرب. وبعبارة أخرى، ستكون تصرفات الحكومة الإسرائيلية وداعميها الغربيين حاسمة في كيفية تأطير هذه الحرب في العالم العربي بعد انتهائها. في الوقت الراهن، أصبحت المخاوف من التهجير الجماعي لفلسطينيي غزة والضفة الغربية إلى مصر أو الأردن أو أي مكان آخر نقطة محورية في وسائل الإعلام العربية. لذلك، إذا حاولت إسرائيل نقل أجزاء من السكان الفلسطينيين إلى خارج غزة أو استمر احتلالها لغزة لفترة طويلة، فمن شأن ذلك أن يزيد من تأجيج الرأي العام العربي تجاه الصراع ويعمق الاستياء تجاه الغرب.
علاوة على ذلك، من المرجح أن تتبع المواقف العربية المستقبلية تجاه إيران والصين وروسيا إلى حد كبير نفس المنطق. وربما لا يرجع هذا التحول إلى أي إجراءات محددة أو رسائل وطنية من جانب هذه الجهات الفاعلة، بل يعود إلى الاعتراف بأن هذه البلدان ""أعداء عدوي"" ومعارضون صريحون للغرب على طريقتهم الخاصة. ومن ثم، فإن مدى استمرارية مكافأة الأفضلية هذه سيعتمد أيضًا على مدة الصراع ومساره.
وأخيراً، من المهم تقييم ما تعنيه المواقف العربية السلبية السائدة تجاه الولايات المتحدة بالنسبة للعلاقات بينها وبين حكومات هذه الشعوب، وما إذا كان الرأي العربي "في الشارع" يمكنه الضغط على الحكومات العربية لتقليص مستوى العلاقات والتعاون مع واشنطن. في حين أنه من غير المرجح أن يكون هناك أي انقطاع عميق في العلاقات بين الولايات المتحدة والحكومات العربية الصديقة بشأن هذا الصراع، إلا أنه سيكون من غير المريح على نحو متزايد بمرور الوقت أن تتعامل الحكومات العربية علنًا مع المسؤولين الأمريكيين إذا استمر الصراع أو اتخذ مسارًا أكثر ضررًا لسكان غزة. سيكون من المهم أيضا تقييم عمق الغضب العربي تجاه الغرب وفهم ما إذا كانت هناك فترة زمنية معينة تدهورت فيها المواقف العربية تجاه الولايات المتحدة بشكل سيئ للغاية بحيث لم يعد يُنظر إلى الولايات المتحدة على أنها شر لا بد منه في المنطقة، بل أصبحت فاعل غير مرحب به من قبل الأغلبية.
ملاحظات منهجية
شمل الاستطلاع عينات وطنية شاملة لخمسمائة مقابلة في كل دولة. أجريت كل المقابلات خلال الفترة من 17-29 تشرين الأول /أكتوبر 2023 بطريقة المقابلات الشخصية الوجاهية في العراق وسوريا والمقابلات الهاتفية في بقية الدول.