9 يناير/كانون الثاني 2018
عقب اندلاع الاحتجاجات الشعبية في إيران في الثامن والعشرون من ديسمبر/كانون الأول 2017، نتيجة غلاء الأسعار والتضخم والبطالة، اتهم المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية علي خامنئي "أعداء إيران بالتآمر ضد بلاده".
تحتل إيران مكانة كبيرة في نظر القوى الدولية والإقليمية. وتعطي القراءة التاريخية لعلاقة إيران مع هذه القوى، بأنها علاقة جامدة تسودها الشكوك المتبادلة من ناحية، والمصالح المتبادلة. ومع ذلك، تعيش ايران في بيئة جديدة تتطلع فيها القوى الكبرى إلى احتواء وإقصاء منافسيها، وضمان موقع قيادي في النظام العالمي، ففي الوقت الذي تسعى فيه إيران إلى تصبح قوة مؤثرة، وأن تكون طرفاً مشاركاً ومبادراً في طرح المشاريع الإقليمية في الشرق الأوسط، تصر القوى الكبرى على إبقائها في خانة القوى التابعة، وهذا ما دفع إيران إلى بلورة صيغ ومبادئ وعقائد استراتيجية، تمثل شخصيتها ومصلحتها الإقليمية، ضمن أطر قومية إيرانية واسعة، تشمل كل مناطق النفوذ بالشرق الأوسط، في محاولة إيرانية لرفض أي واقع سياسي أو عسكري يفرض عليها.
أن صانع القرار السياسي والاستراتيجي في إيران، ينظر إلى أن كل ما تقوم به إيران حالياً في المنطقة يأتي في إطار المصلحة القومية الإيرانية العليا، وأنه إذا كانت القوى الإقليمية والدولية تنظر إلى التدخلات الإيرانية على أنها تدخلات طائفية أو مذهبية فهذا شأنها، بل أن إيران تسوق نفس الاتهامات الموجهة إليها إلى الدول الأخرى، فهي تتحجج بأن هناك دول غيرها أشعلت الصراع الطائفي في المنطقة، وأن الولايات المتحدة الأمريكية هي من أنتجت القاعدة وداعش، وأن إيران تكافح ما أنتجته السياسات الإقليمية والدولية المضللة بالمنطقة.
وبعد عام 2003، أصبحت هناك حالة من الاستقطاب الإقليمي عانت منه منطقة الشرق الأوسط ، كما تأثرت المنطقة كثيراً بفعل الإعلانات الأمريكية المتكررة بتجفيف المنابع الرافضة للنفوذ الأمريكي، تحت إطار "مكافحة الإرهاب"، ومن ذلك ظهور مسمى دول "محور الشر" الذي أعلنته الإدارة الأمريكية في عهد جورج بوش الابن، والذي شمل "إيران وسوريا وكوريا الشمالية"، أي إعلانها كأهداف مستقبلية ضمن التخطيط الاستراتيجي الأمريكي في الشرق الأوسط، وللهروب من تكرار شبح العراق بعد احتلاله، سعت إيران إلى حماية أمنها القومي بشتى السبل والطرق، خصوصاً وأنها تقع على طول حدود 1450 كيلو متر مع العراق، وانطلاقا من إمكانية استغلال الساحة العراقية وتوظيفها ضدها مستقبلاً، إنغمست إيران بشدة في الواقع العراقي وبشتى المجالات سياسياً واقتصاديا وعسكرياً واجتماعيا ودينياً، محاولة قطع الطريق على أية تهديدات أمريكية مستقبلية، وتكفي الإشارة إلى أن الاتفاقية الأمنية العراقية الأمريكية لم يكن لها أن ترى النور، إلا بعد تضمينها مواد قانونية صريحة بعدم إمكانية الولايات المتحدة الأمريكية من شن هجمات عسكرية ضد إيران إنطلاقاً من الأراضي العراقية.
تشير وجهة النظر الإيرانية بأنها دولة تتعرض لتحديات دولية وإقليمية كبرى، فهناك تنظيمات عسكرية مسلحة استنزفت الكثير من قدراتها العسكرية، وهناك قوى إقليمية تسعى إلى إنهاء وجودها في المنطقة، ونقل الصراع إلى داخلها، وقوى دولية تسعى إلى تغير النظام السياسي فيها. وبوجود هكذا مخاطر وتحديات، ماذا عسى إيران أن تنتظر أكثر؟ الحديث هنا ليس لتبرير الأدوار التي تقوم بها إيران في المنطقة، ولكن لتسليط الضوء على الضرورات الاستراتيجية التي دفعت وتدفع إيران لتأدية أدوارها الحالية في لبنان واليمن والبحرين والعراق وأفريقيا وآسيا الوسطى، بل في أية بقعة تجد فيها إيران أرضاً خصبة يمكن أن تحافظ من خلالها على وجودها وكيانها. فالضرورات التي أباحت لإيران التدخل في كل شؤون المنطقة، تنطلق من نفس الضرورات التي أباحت للولايات المتحدة الأمريكية التدخل بالمنطقة، تحت مسمى مكافحة الإرهاب الجهادي، أو حماية الأمن القومي الأمريكي، وهي كلها أسباب تسوقها إيران لتبرير وجودها وانتشارها بالمنطقة، مع اختلاف الأدوات والأساليب والمسببات.
فالدور الإيراني المؤثر في الساحات العراقية والسورية واللبنانية، تأتي كلها في إطار مكافحة التهديدات التي تواجه أمنها القومي، وأبلغ تعبير عن هذه الاستراتيجية، هي التصريحات التي أطلقها مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي بقوله" ينبغي القضاء على التهديدات التي تواجهها إيران في ساحات خارج إيران، قبل أن نضطر إلى أن نواجهها في شوارع طهران". كما أن هناك نقطة مهمة ينبغي الانتباه إليها جيداً، هو أن إيران أعطيت أكبر من حجمها في الشرق الأوسط، فتضخيم الصورة الإيرانية بهيمنتها وسيطرتها على مجمل مناطق النفوذ في المنطقة من قبل الدعاية الغربية، يأتي في إطار السعي لزيادة الضغوط عليها، فحتى صناع القرار في إيران يدركون جيداً أن إيران غير قادرة على مواجهة أي صراع مسلح مع القوى الغربية حتى داخل المنطقة بفعل الفارق الكبير في القدرات العسكرية بينها وبين هذه القوى.فالقدرات العسكرية الإيرانية ترتكز على عنصرين أساسين هما الصواريخ البالستية (داخلياً)، والموجات البشرية والجماعات المسلحة المرتبطة بها (خارجياً)، بل أن العقيدة العسكرية الإيرانية هي أصلاً دفاعية ومصممة لخوض حروب غير متماثلة وحروب إستنزاف طويلة، فالتوزيع الجغرافي داخل إيران، يشير إلى مدى إيلاء صانع الاستراتيجية العسكرية الإيرانية أهمية قصوى لفرضية أي حرب محتملة مستقبلاً، من خلال نقل كل المرافق الحيوية إلى مناطق شمال شرق إيران، لإدراك إيران أن أي حرب مستقبلية ستأتيها من الجهة الغربية والجنوبية.
إن عدم تأثر إيران بشدة حتى اللحظة بفعل التحديات الإقليمية والضغوط والعقوبات الدولية، يأتي في إطار أمرين رئيسيين، أولهما نجاح إيران في توظيف أوراق اللعب الإقليمية بشكل ناجح، وهو ما مكنها من خوض صراعات سياسية وعسكرية حتى اللحظة في مناطق خارج حدودها، أي أنها لم تجبر على خوض الصراع في داخلها، والأمر الثاني هو عدم نجاح القوى الإقليمية والدولية على إيجاد مسالك سياسية وعسكرية يمكن من خلالها الضغط على إيران وكبح جماحها في المنطقة، فإيران لازلت قوية رغم العقوبات الدولية المستمرة عليها، فهي تنظر دائماً على أنها قادرة على تجاوز التحديات التي تفرض عليها، وهو ما يؤكد عليه علي خامنئي دائماً.
وخلاصة القول، يجب أن نعطي مساحة واسعة لدراسة وفهم التاريخ والعقلية السياسية الإيرانية، فهي لديها من الحجج والبراهين ما يخولها لدخول أي ساحة من ساحات الشرق الأوسط، ضمن مسميات ومبررات عديدة، بعضها سياسي والأخر مذهبي، ولا ينبغي التوقف على أدوار إيران في المنطقة، فإيران تؤمن بدورها العالمي، وبمكانتها الدولية الفاعلة، وبأنها قادرة على تقديم نموذج حضاري إسلامي يخدم الإنسانية كلها، بل أنها اليوم دولة مبادرة وقادرة على إنتاج نظم أمنية وعسكرية بقيادتها ووفق رؤيتها، وعلى الجميع أن يفهم ذلك، يفهم على أن الطائفي والمذهبي من وجهة نظره، هو قومي ووطني من وجهة نظر إيران، وما بين هاتين الرؤيتين نحتاج إلى مراجعة تاريخية حقيقية، إذا ما أردنا أن نفهم إيران كدولة وسياسة ومجتمع.
وأخيرا، هناك بعض البدائل والحلول التي يمكن أن تنتهجها الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة للحد من النفوذ الإيراني المتزايد، منها إيجاد مسالك عسكرية وأمنية قادرة على تحجيم واحتواء النفوذ الإيراني في المنطقة، من خلال توظيف الجماعات المسلحة المعارضة للنفوذ الإيراني، ودعمها وتسليحها، وتوفير الدعم الدولي لها. كما يمكن أيضا توظيف دبلوماسية عامة وقوة ناعمة قادرة على كسب المجتمع الإيراني والمجتمعات الخاضعة للتأثير الإيراني، من خلال العديد من المبادرات الاستيعابية، وإفهامها بأن ما يقوم به النظام السياسي في إيران أشاع فوضى مجتمعية بمجمل المنطقة. وفى هذا الصدد ينبغي على الولايات المتحدة أن تعمل على دعم المعارضة خلال احتجاجاتها الحالية وتفعيل دورها داخلياً وخارجياً، من أجل إيجاد تحالف إيراني وطني معارض موحد، ليكون الواجهة الحقيقية والبديل الجاهز للنظام الإيراني الحالي.