- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
كيف تعكس استجابة تونس لوباء "كوفيد-19" الخلل الحكومي
في ظل عمليةٍ انتقالية ديمقراطية هشة ونزاع مستمر منخفض الحدة إنما دموي ضد الجماعات الإرهابية، لا تزال تونس تعاين آثار جائحة "كوفيد-19" وتداعياتها على البلاد. فقد أصاب الوباء تونسَ في زمنٍ تتخبط فيه البلاد في صراع سياسي وتقلّب اقتصادي. إلا أنّ طريقة تعامل الحكومة مع الوباء تسلّط الضوء على القيود التي تعيق عمل هذه الحكومة، وتُظهر في الوقت عينه مؤشرات على العودة إلى سياسات التي كانت متبعة عندما كان الديكتاتور بن علي في السلطة.
ما بين الإنكار والقمع
كان أول رد فعل رسمي على الأخبار المقلقة القادمة من الصين وأوروبا هو الإنكار التام والتقليل من خطورة التهديد، وهو ما يذكرنا بطريقة تجاوب الحكومة مع الأزمات السابقة، كالهجوم الإرهابي على كنيس الغريبة عام 2002 أو تحطّم طائرة الرحلة رقم 1153 التابعة للخطوط التونسية الداخلية ("تونينتر") عام 2005. وفي أوائل شباط/فبراير، وعلى الرغم من الدعوات العديدة لضبط الزوار ومراقبتهم، تباطأت الحكومة التونسية في اتخاذ التدابير الوقائية اللازمة.
مع الإعلان عن أول حالة رسمية في 2 آذار/مارس، لم يتم الإعلان عن قيود السفر إلى إيطاليا – وهي نقطة الأصل المشتبه فيها للحالات الأولى – إلا بعد بأسبوع. مع ذلك، حاولت السلطات المحلية إبقاء أهم خطوط النقل مفتوحة، خصوصًا مع فرنسا وليبيا، فيما عزا المعلّقون وجود بؤرةٍ للوباء في ولاية قبلي الجنوبية إلى أنشطة التهريب في تلك المنطقة بين ليبيا وتونس والجزائر.
ولم يتبلور رد فعل الحكومة فعليًا إلا في منتصف آذار/مارس. ومع أن المؤتمرات الصحفية اليومية أبقت التونسيين على اطّلاع أفضل، إلا أن السياسات المنفَّذة عكست سياسات النظام القائم ما قبل العام 2011. وعلى الرغم من وجود "اللجنة الوطنية لمكافحة الكوارث" ذات الطابع المؤسسي، كانت الوزارات تعمل بشكل منفصل في ظل نقصٍ خطير في التنسيق وفي غياب مقر للعمليات أو نظام معلومات وطني لحالات الطوارئ. كما وأصدرت الحكومة أوامر مدنية متناقضة أدت إلى حالةٍ من الارتباك وغالبًا إلى الفوضى.
وأفضل مثال على ذلك هو الإعلان عن برنامج المساعدات المالية الذي أجبر آلاف المواطنين على الذهاب إلى مكاتب البريد المحلية بالرغم من الإعلان السابق عن تدابير التباعد الاجتماعي وحظر التجول. وفي أعقاب تلك المرحلة، أدلى وزير الصحة ببيانٍ عاطفي زعم فيه أن كل المكاسب التي حققتها جهود وزارته ذهبت سدىً. علاوةً على ذلك، كشف الوباء عن أجواء توتر داخل فريق مستشاري الرئيس، حيث تكهّنت الصحف المحلية أنّ مستشار الأمن القومي الجنرال الحامدي استقال بسبب تعرّضه للضغوط من قِبل مديرة الديوان الرئاسي.
في الوقت نفسه، اتخذت الشرطة سلسلةً من التدابير القمعية التي قيّدت السفر وفرضت غرامات جديدة بدون تقديم خدمات ملائمة أو إجراءات واضحة للشعب. واعتبر كثيرون أن جهود الشرطة هذه تستهدف الحقوق الفردية لا بل حتى حرية التعبير، مع الإشارة إلى أن هذه الإجراءات كانت ملحوظة في السلطة التشريعية أيضًا، حيث قدّم النائب م. كرشيد مشروع قانون مُصاغ بتعابير مبهمة ويرمي إلى فرض قيود تعسفية على المدوّنين ووسائل الإعلام المحلية، إنما تم سحبه بسبب رد الفعل العنيف من منظمات المجتمع المدني.
في المقابل، أضاء السرد الرسمي للأحداث على أدوات المراقبة المكتسبة حديثًا مثل روبوت الدورية المحلي الصنع أو الطائرات الصينية بدون طيار التي لا ستُستخدم لمراقبة فحسب بل أيضا الأفراد العسكريين داخل ثكناتهم أيضًا، وذلك وفق ما جاء على لسان وزير الصحة التونسي. كما أعلن رئيس الوزراء الفخفاخ، الذي استقبل وفدًا خاصًا من البرلمان، أن الحكومة استخدمت البيانات الشخصية الخاصة بالهواتف المحمولة خلال فترة تفشّي الوباء، ما أثار مخاوف حقيقية حول المنحى الاستبدادي الذي تنحرف نحوه تونس.
في غضون ذلك، ساهمت وسائل الإعلام الحكومية في تضخيم الصحافة العامة للسردية الصينية عن الفيروس، حيث كرّر عددٌ من الوسائل الإعلامية الرواية الصينية المتداولة عن نظريات المؤامرة المعقدة بناءً على معلومات متضاربة لم يتم التحقق منها، وعملت الصحافة في تونس على تصوير جمهورية الصين الشعبية بأنها منقذ العالم في حين اتهمت الولايات المتحدة بتصنيع الفيروس وسرقة الإمدادات الطبية المخصصة لتونس. لكن منظمات المجتمع المدني المحلية اعترضت على هذه الرواية من خلال عدة خطوات، منها إنشاء موقع إلكتروني يسمى "فالصو" ("Falso") ومصمم لمحاربة الأخبار المزيفة.
الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها تونس
واليوم، تواجه الحكومة التونسية مهمةً صعبة تتمثل في وضع استجابة فعالة إزاء هبوط المؤشرات الاقتصادية في أعقاب استجابتها للوباء العالمي إذ انخفض الناتج المحلي الإجمالي لتونس بنسبة 28 في المائة منذ عام 2014، بينما تراجعت قيمة العملة الوطنية (الدينار التونسي) وارتفعت معدلات البطالة في البلاد.
تم تمويل الجهود الرسمية بشكل رئيسي من خلال خفض رواتب موظفي القطاع العام، علمًا بأن هذه الإقتطاعات سبق وساهمت في تغذية غالبية الإيرادات الضريبية التي تشكل الجزء الأكبر من ميزانية الدولة. وأصدرت السلطات أيضًا دعوةً في البلاد كلها للتبرع لصندوقٍ تم إنشاؤه حديثًا بهدف تقديم رعاية صحية وإجراءات مرتجلة، مع أن الصحافيين المحليين لفتوا إلى احتمال أن يعاني الصندوق من إدارة غامضة على غرار "الصندوق الوطني للتضامن 26-26" القديم الذي أنشأه الرئيس السابق بن علي والمصمم رسميًا لمكافحة الفقر في تونس.
في الوقت نفسه، أدّت الصعوبات الاقتصادية إلى عدم إعطاء الأولوية لنظام الرعاية الصحية، بحيث انخفضت ميزانية وزارة الصحة بشكل ملحوظ خلال العقد الماضي، وأصبحت إدارة العديد من المستشفيات العامة، بحكم الأمر الواقع، في يد النقابات العمالية التي تعطي الأولوية للمطالب السياسية والفئوية في تجاهلٍ تام لقرارات الحكومة التي عجزت حتى على تنفيذ قراراتها في المؤسسات الصحية الرئيسية. وهناك 24 مستشفىً تعليميًا (أي مستشفى جامعي) و90 مصحة خاصة تتركز في المدن الساحلية، ما يترك غالبية السكان بدون تغطية صحية.
مع بدء موجة ثانية من الإصابات التي قد تضرب المنطقة، ينبغي على تونس أن تواجه إخفاقات استجابتها للموجة الأولى وللتداعيات الاقتصادية التي تشل البلاد. وقد تحولت أزمة الرعاية الصحية هذه إلى أزمة سياسية واجتماعية كشفت عن وجود نظام سياسي مضطرب، حيث يواجه غالبية التونسيين الآن ظروفًا محفوفة بالمخاطر. ساهمت تلك الأزمات أيضا في بروز صراع شامل بين حزب النهضة وحلفائه والرئيس سعيد ، الذي أكد على ضرورة تغيير النظام السياسي بشكل كبير. وحتى يتم تنفيذ الإصلاحات، فمن الواضح أن يستمر الأداء السيئ للحكومة في إدارة الأزمات المستقبلية، وذلك في الوقت الذي تستمر فيه معاناة الشعب التونسي.