- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
كيف تستمر المبادرة الأمريكية البائدة التي تعود إلى عام 2004 في تأجيج المشاعر المعادية لأمريكا في تركيا
لقد أدى رد الفعل الإقليمي إزاء سياسات واشنطن التدخلية والأحادية الجانب، والنظر إلى المنطقة من الزاوية الأمنية فحسب، والافتقار إلى السياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ودعم الولايات المتحدة للأنظمة الاستبدادية، إلى إنشاء الظروف الملائمة لنظريات المؤامرة مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير.
عندما زار وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن تركيا في تشرين الثاني/نوفمبر 2023، أثارت لوحة ترخيص سيارته ضجة كبيرة لدى القوميين الأتراك. وقد جاء بلينكن للقاء وزير الخارجية التركي هاكان فيدان من أجل مناقشة هجوم "حماس" على إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، والعملية العسكرية الإسرائيلية في غزة، واستخدام تركيا حق النقض ضد عضوية السويد في "الناتو"، وشراء تركيا المتوقع لطائرات "أف-16" من الولايات المتحدة. لكن على الرغم من القضايا المتعددة المدرَجة على جدول الأعمال، ركزت وسائل الإعلام التركية على لوحة سيارة بلينكن من نوع "لاند كروزر" (Land Cruiser)، التي كانت تحمل الأحرف "BOP"، وهي أحرفٌ تُذكّر الأتراك بمشروع أمريكي أُطلِق في عام 2004. فهذا المشروع الذي كان يُدعى في الأصل "مبادرة الشرق الأوسط الكبير" ثم أصبح يُعرف باسم "مبادرة الشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا" هو مشروعٌ يُطلَق عليه باللغة التركية اسم BOP، وسرعان ما تمكنت وسائل الإعلام التركية من فك شفرة الرسالة الواردة من واشنطن وهي: "مهما فعلتم، سننفذ مشروع الشرق الأوسط الكبير".
إن هذه المبادرة هي من المشاريع المتعددة التي تطمح الولايات المتحدة من خلالها إلى تحويل الشرق الأوسط. لقد خططت في الواقع إدارة جورج دبليو بوش لتقديمها في "قمة مجموعة الثمانية" في حزيران/يونيو 2004، وقد اعتمدت بشكل أساسي على "تقارير التنمية الإنسانية العربية" التي حددت "النقص في الحرية والمساواة بين الجنسين والمعرفة" على أنها ثلاث مشاكل مهمة ومشتركة تعاني منها الدول العربية. وبناءً على ذلك، تضمنت المبادرة ثلاثة مجالات إصلاحية رئيسية تهدف إلى جعل المنطقة حديثة ومزدهرة وهي: ""تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح"؛ و"بناء مجتمع معرفي"؛ وسد "فجوة الازدهار" بين الشرق الأوسط والأجزاء الأكثر تقدمًا من العالم." وقد يعتبر المرء أن مشروع الشرق الأوسط الكبير كان في الواقع بمثابة استجابة لبروز الإسلاميين، الذي يهدف إلى دعم "المسلمين الصالحين" ضد "المسلمين السيئين". إلا أن ردود الفعل العدائية التي قامت بها بعض الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية ومصر أجهضت هذا المشروع. فقد نشرت صحيفة "الحياة" التي تصدر في لندن باللغة العربية تقريرًا عن المشروع في شباط/فبراير 2004، وانتقد المفكرون والصحافيون العرب مشروع الشرق الأوسط الكبير على مدى الأشهر القليلة التالية بدعمٍ من أنظمتهم، باعتباره خطة أمريكية خبيثة تهدف إلى تأمين المصالح الأمريكية والحفاظ على الهيمنة العالمية. وبعد إطلاق حملة دبلوماسية وشعبية مكثفة في العالم العربي، قررت إدارة بوش إنهاء المشروع، مؤكدةً أهمية الاستقرار وإعطاء الدور القيادي لدول الشرق الأوسط باعتبارها الجهات الفاعلة الوحيدة القادرة على تنفيذ مثل هذا الإصلاح. وبحلول حزيران/يونيو 2004، كانت المبادرة قد ماتت.
السؤال الذي يطرح نفسه هو، لماذا بقيت هذه المبادرة حية لفترة طويلة في تركيا التي لم تكن من بين الدول التي هدفَ المشروع إلى تحويلها، بل كانت في الواقع نموذجًا اقترح واضعو السياسات في واشنطن على الدول الأخرى تقليده أو استخدامه كمصدر إلهام. ولهذا السبب، قام رجب طيب أردوغان، الذي كان يشغل آنذاك منصب رئيس الوزراء تركيا، بتضخيم دوره مدعيًا أنه يشارك في ترؤّس مشروع الشرق الأوسط الكبير. في الواقع، كانت تركيا تترأس إلى جانب إيطاليا واليمن "حوار دعم الديمقراطية" الذي تم إعداده في إطار مشروع الشرق الأوسط الكبير. وأوضح أردوغان دور تركيا كدولة رائدة في المنطقة في ما يتعلق بحقوق المرأة والحكم الديمقراطي. غير أن الرأي العام التركي، الذي شمل القوميين المتطرفين والكماليين واليساريين والإسلاميين، اعتبر أن هذه المبادرة هي مؤامرة أمريكية، وقد أصبحت الأداة الأساسية التي تستخدمها المعارضة التركية لانتقاد أردوغان وسياسته الخارجية. وبعد تسعة عشر عامًا تقريبًا من قيام إدارة بوش بتعليق المبادرة، نشر أحد الأحزاب الإسلامية مقطع فيديو دعائيًا لانتخابات عام 2023، استهدف فيه الرئيس أردوغان من خلال تذكير الناخبين بالدور القيادي الذي تبناه في المشروع.
أصبح مشروع الشرق الأوسط الكبير هدفًا رمزيًا للمشاعر المعادية لأمريكا وللسامية في تركيا. ففي خلال الحرب الباردة، تسببت الأزمات الثنائية المختلفة في نمو المشاعر المعادية لأميركا بين اليساريين والإسلاميين. وفي تسعينات القرن الماضي، أدى إرهاب "حزب العمال الكردستاني" و"عملية توفير الراحة"، أي العملية الأمريكية التي هدفت إلى حماية الأكراد من نظام صدّام حسين، إلى ظهور تلك المشاعر المعادية لأمريكا لدى القوميين الذين رأوا أن العملية هي بمثابة خطوة نحو تشكيل دولة كردية من تركيا. وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أدى الغزو الأمريكي للعراق، وقيام "القوات الخاصة الأمريكية" باعتقال الجنود الأتراك بشكلٍ مهينٍ في شمال العراق في عام 2003، إلى توجيه الرأي العام ضد الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، اعتُبر مشروع الشرق الأوسط الكبير تعبيرًا عن مؤامرة أمريكية غايتها تقسيم الأراضي التركية، كجزءٍ من عملية أكبر تهدف إلى إعادة رسم حدود الشرق الأوسط. ويحاول خبراء السياسة الخارجية التركية إثبات ذلك من خلال الاستشهاد بمقالة كتبتها كوندوليزا رايس عام 2003 في صحيفة "واشنطن بوست"، حين كانت تعمل كمستشارة للأمن القومي الأمريكي، ودعت فيها الإدارة إلى تكرار عملية إعادة الهيكلة الاقتصادية والديمقراطية التي خضعت لها أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية في الشرق الأوسط، وذلك من خلال دعم الجهات الفاعلة الديمقراطية المحلية. فقد رأى هؤلاء الخبراء أن في المقال وعدًا بتغيير حدود 22 دولة في الشرق الأوسط، بما فيها تركيا.
ليست مقالة رايس الدليل الوحيد الذي يقدّمه الخبراء. فعادةً ما تكون المناقشات العامة في تركيا حول مشروع الشرق الأوسط الكبير مصحوبة بخريطة الشرق الأوسط الخيالية، التي نُشرت في "مجلة القوات المسلحة" عام 2006. وقد كتب هذه المقالة التي تتضمن الخريطة مقدَّم متقاعد في الجيش الأمريكي ومحلل سياسي يُدعى رالف بيترز. وفي إطار إثارة الأفكار حول السلام في الشرق الأوسط، اقترح بيترز حدودًا بديلة للشرق الأوسط شعر أنها ستكون أكثر عدلًا بالنسبة إلى بعض المجموعات السكانية "المخدوعة" مثل الأكراد. وربما لم يأخذ إلا عدد قليل من الناس الخريطة على محمل الجد في ذلك الوقت، ولا يتذكرها اليوم سوى عدد أقل بكثير في واشنطن، لكن بيترز وخريطته لا يزالان يتمتعان بشعبية كبيرة في تركيا.
بحسب أي محلل تركي عادي، يتمثل الهدف الآخر من مشروع الشرق الأوسط الكبير في تحقيق أمن إسرائيل وتوسعها من خلال جعل الدول الإسلامية المحيطة بها غير مستقرة وأصغر وأضعف، حتى تصبح فريسة سهلة للصهاينة من أجل إقامة إسرائيل الكبرى. والأداتان اللتان يعتقد المحللون الأتراك أنهما تُستخدَمان لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الكبير تفسران أيضًا سبب استمرار نظرية المؤامرة هذه. فالأداة الأولى هي بالتأكيد الأكراد. وقد شكل إنشاء دولة كردية إحدى المهام التي فشلت القوى الأوروبية في إنجازها عند تقسيم الإمبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، ويرى القوميون الأتراك أن الحركة القومية الكردية ليست سعيًا حقيقيًا للحصول على الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية، بل هي مؤامرة خارجية ضد سلامة الأراضي التركية. وهم يرون أن مشروع الشرق الأوسط الكبير يشكل وسيلة مفيدة لتفسير الإرهاب الكردي والعلاقات بين الولايات المتحدة والأكراد، خاصةً في العراق وشمال سوريا، ولتعبئة الرأي العام التركي وإضفاء الشرعية على الإجراءات القمعية ضد الأكراد.
أما الأداة الوهمية الثانية فهي الإسلاميين، وهي فكرة استخدمها القوميون الأتراك لنزع الشرعية عن حكومة "حزب العدالة والتنمية" الإسلامي وأردوغان، الذي اعترف علنًا بدوره في المشروع كما ذُكر أعلاه. ومن وجهة نظرهم، شجعت الولايات المتحدة الإسلاميين وساعدتهم في جميع أنحاء المنطقة، تمامًا مثل إسرائيل التي دعمت المتعصبين الإسلاميين لإضعاف القوميين الفلسطينيين الأكثر عقلانية. وبالتالي، يُزعَم أن واشنطن كانت تسعى إلى إسقاط الأنظمة العلمانية في الشرق الأوسط. ومن هذا المنطلق، إن أردوغان وحزبه هما مشروعان أمريكيان يعملان ضد الدولة التركية. وكما قال زعيم "حزب الشعب الجمهوري" أوزغور أوزيل في منشورٍ على وسائل التواصل الاجتماعي في نيسان/أبريل 2024، كان دعم أردوغان للسماح للقوات الأمريكية بفتح جبهة شمالية ضد نظام صدام حسين في عام 2003 جزءًا من هذا المشروع.
لا يتحدث القوميون الأتراك والكماليون وحدهم عن مشروع الشرق الأوسط الكبير. فيستميل هذا المشروع الإسلاميين أيضًا، الذين يرون فيه مشروعًا أمريكيًا من أجل تقسيم الدول الإسلامية. وحتى الصحافيون المؤيدون لأردوغان والبرلمانيون من "حزب العدالة والتنمية" يشيرون في كثيرٍ من الأحيان إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير لشرح السياسات الأمريكية في المنطقة.
لا يشكل ذلك مجرد سوء فهمٍ أو قراءة خاطئة للنوايا الأمريكية، لكنه يستند إلى اعتبار الولايات المتحدة كقوة كلية القدرة والوجود يمكنها التنبؤ بالسنوات القادمة والتخطيط لها – وصولًا إلى مئة عامٍ من الزمن. فأحد المفاهيم الخاطئة الشائعة في تركيا هو أن القوى العظمى مثل الولايات المتحدة (وبريطانيا العظمى) تضع خططًا لقرنٍ من الزمن، مثل مشروع الشرق الأوسط الكبير. ولهذا السبب، يُعتبَر كل ما يحدث في المنطقة، لا سيما الأحداث الكبرى والصدمات السياسية، بمثابة عمل متعمد نفّذته الولايات المتحدة. وفي الواقع، أدت بعض الأحداث مثل الربيع العربي، والاستفتاء الكردي عام 2017، وهجوم "حماس" على إسرائيل في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، إلى بروز موجات جديدة من المناقشات حول مشروع الشرق الأوسط الكبير في تركيا.
باختصار، يرمز مشروع الشرق الأوسط الكبير إلى انعدام الأمن الوجودي في الدولة التركية ويفسره. لكنه يبقى في النهاية مجرد رمز. فقد أدى رد الفعل الإقليمي إزاء سياسات واشنطن التدخلية والأحادية الجانب، والنظر إلى المنطقة من الزاوية الأمنية فحسب، والافتقار إلى السياسات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ودعم الولايات المتحدة للأنظمة الاستبدادية، إلى إنشاء الظروف الملائمة لنظريات المؤامرة هذه. وعلاوةً على ذلك، لو لم يتبنَّ أردوغان علنًا مشروع الشرق الأوسط الكبير، ربما لم يكن هذا المشروع ليبقى حيًا لهذه الفترة الطويلة في تركيا. وفي تركيا ما بعد أردوغان، قد يفقد هذا المفهوم جاذبيته، لكن معاداة أمريكا هي ظاهرة أكبر من مشروع الشرق الأوسط الكبير. فقد تجد تركيا ما بعد أردوغان رموزًا جديدة تلائم البيئة السياسية الجديدة بشكلٍ أفضل. لكن حتى ذلك الحين، سيظل مشروع الشرق الأوسط الكبير يشكل الخطة الأمريكية الرئيسية التي تهدف إلى تقسيم تركيا.