بعد أن لعبت إيران دوراً رئيسياً في التطوّر العسكري لحركة «حماس»، وتجاوزت الانقسامات الأيديولوجية العميقة معها، جددت طهران رعايتها الواسعة بطرق ساهمت بشكل مباشر في إراقة الدماء الأخيرة في غزة. بإمكان إدارة بايدن مساعدة الدول العربية وإسرائيل على صياغة اتفاقيات تطبيع إضافية، لكي تتعاون فيما بينها في مكافحة الإرهاب، ومكافحة التهريب، والجهود الأخرى للحد من الأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار.
بعد انقشاع الغبار عن المواجهات الأخيرة في غزة، تَبيّن أن «حماس» وجماعات مسلحة أخرى قد تسببت بمقتل عدد أكبر من المدنيين الإسرائيليين من مجمل حصيلة حرب عام 2014 التي دامت 50 يوماً، وذلك بعد أن أطلقت هذه الجماعات العدد نفسه تقريباً من الصواريخ ولكنها ركّزت هذه المرّة على خُمس الفترة الزمنية فقط. وفي 21 أيار/مايو، أشاد رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية بإيران لتمكينها «حماس» من إطلاق هذا الوابل من الصواريخ، وأشار إلى أن طهران "لم تتراجع [عن مساعدتها] بالمال والسلاح والدعم الفني". وقبل ذلك بخمسة أيام، وبينما كانت المعركة لا تزال في أوجُها، أفادت قناة "تسنيم" الإخبارية الإيرانية الموالية للنظام عن إجرء اتصال هاتفي تحدث فيه قائد «فيلق القدس» التابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي»، إسماعيل قآاني، مع هنية وأشاد خلاله بعمليات «حماس» [ضد إسرائيل]. وتم ترديد هذه الرسالة من قبل الجماعات المسلحة الرئيسية الأخرى المدعومة من إيران، بما فيها «حزب الله» اللبناني، و«كتائب حزب الله» العراقية، والحوثيين في اليمن. وبعيداً عن كوْن الثناء ظاهرة معزولة، فهو يعكس تبادل سنوات طويلة من توطيد العلاقات بين "محور المقاومة" الإيراني و «حماس»، على الرغم من الاختلافات الأيديولوجية بين الشيعة والسنة.
تطوّر العلاقات بين «حماس» وإيران
بعد بروزها في ثمانينيات القرن الماضي كفرع جهادي سنّي انبثق عن جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر، وضعت «حماس» ميثاقاً رسمياً رسّخت فيه على هدف تدمير إسرائيل ومحاربة "اليهود الذين هم دعاة الحرب". وبعد ذلك، بدأت الحركة بإقامة روابط رفيعة المستوى مع إيران عندما نظمت الجمهورية الإسلامية مؤتمرين حول فلسطين في الفترة 1990-1991. وقد أصبح هذا المنتدى الذي شارك فيه مندوبو «حماس» ثقلاً موازياً لعملية السلام التي كانت جارية بين العرب وإسرائيل ومؤتمر مدريد لعام 1991.
وخلال تلك الفترة، اكتسبت الحركة مكانة بارزة من خلال مشاركتها في الانتفاضة الفلسطينية ضد إسرائيل، مما دفع بحكومة إسحاق رابين إلى ترحيل 418 شخصية قيادية في «حماس» إلى لبنان في عام 1992. واستضاف كل من «الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني و«حزب الله» (الذي أنشأته إيران في العقد الذي سبق، لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان) مبعدي «حماس» وعلّموهم كيفية صناعة عبوات واستخدامها لتنفيذ عمليات انتحارية، وهو تكتيك ابتكره «حزب الله». وعندما سمح رابين بعودة المرحلين، سارعت «حماس» وغيرها من الجماعات التي تتخذ من غزة مقراً لها إلى تنفيذ عمليات انتحارية ضد إسرائيل، بينما بدأت إيران بإرسال ما يصل إلى 50 مليون دولار للحركة سنوياً.
وواصل «الحرس الثوري» الإيراني و«حزب الله» و«حماس» التعاون خلال الانتفاضة الثانية (2000-2005). فقد قام «حزب الله» بثلاث محاولات كبيرة لتهريب الأسلحة وصنّاع القنابل إلى غزة خلال هذه الفترة؛ كما ساعد «حماس» في بناء السلاح الفائق القوة الذي استخدم في التفجير الانتحاري الذي وقع في آذار/مارس 2002 وأسفر عن مقتل ثلاثين مدنياً إسرائيلياً. وبهذه الطريقة، تطورت «حماس» ليس كوكيل إيراني كامل على غرار «حزب الله»، بل كشريك عملي لمحور طهران المناهض لإسرائيل.
وتعززت العلاقة بين «حماس» و«حزب الله» وإيران بشكل أكبر بفضل الجهود التي بذلتها إيران لدعم برنامج «حماس» الصاروخي. ففي عام 2014، كشف قائد وحدة الصواريخ في «الحرس الثوري الإسلامي» أحمد حسيني أنه قبل سنوات "قام «حزب الله» بتسليح عناصر «حماس» وتدريبها... حتى أن بعضها قدِم إلى إيران لتلقي التدريب". وأشار إلى أن مهندس البرنامج الصاروخي الإيراني، الجنرال في «الحرس الثوري» حسن طهراني مقدم (المتوفى الآن)، كان "المشرف على تسليحهم وتوجيههم".
في بادئ الأمر، تولى «الحرس الثوري» و«حزب الله» تعليم مهندسي «حماس» كيفية صنع صواريخ من مواد مستخدمة يومياً على غرار السكر والأنابيب، مما مكّن الحركة ببدء الإنتاج المحلي لصواريخها الأساسية القصيرة المدى، هي "القسام". وبعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005 وسيطرة «حماس» على القطاع، بدأت الحركة بجمع الذخائر الإسرائيلية غير المتفجرة لإنتاج الصواريخ. كما حصلت على صواريخ أكثر تطوراً من إيران وسوريا. وظهرت عدة أسلحة إيرانية في نزاع غزة 2008-2009؛ وبحلول زمن حدوث نزاع 2012، كانت «حماس» تطلق صواريخ إيرانية بعيدة المدى من طراز "فجر 5" على تل أبيب والقدس. وكان تأثير إيران واضحاً أيضاً في التطور الموازي لأسلوب عمل «حماس» و«حزب الله» بعد الانسحابات الإسرائيلية من أراضي كل منهما - أي من الإرهاب الانتحاري (الذي ازداد صعوبة في ضوء بناء الحواجز الأمنية الإسرائيلية) إلى الهجمات الصاروخية وقذائف الهاون والكمائن المضادة للدبابات. وكانت جميعها مُدعمة بأنفاق ودروع بشرية مدنية لتجنب الضربات الجوية الانتقامية.
ولتزويد «حماس» بمثل هذا العتاد، استحدثت إيران طرق تهريب مختلفة. وفي بعض الحالات، أحضر المهربون البدو القاطنون في سيناء مواداً إلى غزة عبر السودان بموافقة الرئيس الإسلامي عمر البشير. إلّا أن البشير طرد المسؤولين الإيرانيين من السودان في عام 2014، على أمل تجنب الانهيار الاقتصادي لبلاده من خلال فوزه بمساعدة مالية من السعودية، خصم طهران الإقليمي اللدود. كما قامت إيران و«حزب الله» بتهريب أسلحة ومواد لتصنيع الصواريخ عن طريق البحر، متجنبين الحصار الإسرائيلي من خلال إلقائهم مواد عائمة للصيادين الفلسطينيين لالتقاطها بالقرب من ساحل غزة. وحتى تنظيم «الدولة الإسلامية» بدأ يساعد في تهريب الأسلحة عبر "محافظة" سيناء - ووفقاً لمصادر استخباراتية مصرية وإسرائيلية، كان التنظيم مستعداً لتنحية عدائه الأيديولوجي لـ "المرتدة" المرتبطة بجماعة «الإخوان المسلمين» مقابل [حصوله على] أسلحة «حماس» والتدريب الذي توفره.
لكن في الوقت نفسه، أدى اندلاع الحرب في سوريا عام 2011 إلى توتر العلاقات بين «حماس» وإيران، حيث دعمت طهران نظام الأسد، بينما أيّدت «حماس» المعارضة العربية السنّية. كما زادت «حماس» العلاقات سوءاً من خلال الإعراب عن دعمها للسعودية خلال حرب التحالف الخليجي ضد الحوثيين المدعومين من إيران. ومع ذلك، واصل المسؤولون في إيران و«حماس» عقد اجتماعات غير علنية رفيعة المستوى من وقت لآخر، وسارعت طهران في التعبير عن دعمها للحركة خلال أي اشتباكات فلسطينية مع إسرائيل. ومع ذلك، خفضت إيران تمويلها لـ «حماس» أو ربما أوقفته.
إلّا أن «حماس» وجدت طرقاً عديدة لتعويض الأموال الإيرانية التي خُسِرت. ولجأت إلى تركيا وقطر للحصول على دعم مالي مباشر. بالإضافة إلى ذلك، عندما اندلعت الحرب الأهلية في ليبيا عام 2011 ولسنوات بعد ذلك، حذر المسؤولون المحليون والإسرائيليون من واقع تعاون «حماس» مع مهربي أسلحة ليبيين. وفي حزيران/يونيو 2012، على سبيل المثال، صادرت قوات الأمن المصرية 138 صاروخاً من طراز "غراد" تم جلبها من ليبيا لإرسالها إلى غزة. واستفادت «حماس» أيضاً من قدراتها المحلية المحسنة من خلال إعادة توجيه المساعدات الإنسانية المدنية التي تصل من إسرائيل لأغراض عسكرية (على سبيل المثال، استخدام الألواح الخشبية والمحركات في حفر الأنفاق وصنع القنابل).
تنشيط العلاقات
في عام 2017، توسطت طهران لعقد مصالحة بين نظام الأسد و«حماس»، منطلقةً من تعيين الحركة قائداً أكثر تأييداً لإيران هو يحيى السنوار. وأعادت هذه التطورات من جديد العلاقات بين «حماس» وإيران إلى حد كبير - ففي آب/أغسطس من ذلك العام، أعلن السنوار أن الجمهورية الإسلامية هي "أكبر داعم للحركة مالياً وعسكرياً". وتفاخر المسؤولون الإيرانيون منذ ذلك الحين بدورهم في تطوير قدرات «حماس». وفي كانون الثاني/يناير 2021، صرح قائد "القوة الجوية" لـ «الحرس الثوري» الإيراني أمير علي حاج زاده بأن "جميع الصواريخ التي قد تراها في غزة ولبنان صُنعت بدعم إيران". ويشمل ذلك عمليات النقل عن طريق البحر والتسليمات الواضحة من ليبيا - وفي وقت سابق من هذا العام، حذر مسؤولو المخابرات في تلك البلاد من أن إيران متورطة حالياً في تهريب الأسلحة إلى غزة عبر ليبيا (كما تورطت تركيا وقطر أيضاً).
ويعكس تنامي قدرات «حماس» العملياتية والإنتاجية هذا الدعم الإيراني المتجدد. ففي بداية القتال الأخير، قدّر "جيش الدفاع الإسرائيلي" امتلاك «حماس» وجماعات أخرى في غزة ما يصل إلى 15,000 صاروخ. ومن خلال اعتمادها النماذج الإيرانية في تصاميم الصواريخ المصنّعة محلياً، طورت «حماس» ترسانتها برؤوس حربية أكثر دقة، وأطول مدى، وأكثر ثقلاً، وحسّنت القاذفات مثل قاذفة الصواريخ "إيه-120". بالإضافة إلى ذلك، صنعت الحركة واستخدمت ما لا يقل عن ست طائرات بدون طيار انتحارية من طراز"شهاب" تشبه إلى حد كبير نموذج "أبابيل" الإيراني. وقد مكّنتها هذه القدرات من شن وابل متكرر من الصواريخ يصل إلى 27 صاروخاً في الدقيقة ضد أهداف بعيدة مثل تل أبيب، بما يتماشى مع هدف التغلب على الدفاعات الصاروخية الإسرائيلية والتسبب في وقوع خسائر أكبر في صفوف الإسرائيليين. ووفقاً للجنرال أوري غوردن، رئيس "قيادة الجبهة الداخلية الإسرائيلية"، شهدت البلاد أعلى معدل إطلاق صواريخ على أراضيها.
وفي غضون ذلك، أعرب وكلاء إيران في جميع أنحاء الشرق الأوسط عن ثنائهم الكبير وعروضهم لدعم عسكري لحركة «حماس» خلال الاشتباكات الأخيرة. ففي 16 أيار/مايو، أعلن أبو عزرائيل، قائد ميليشيا «كتائب الإمام علي» المدعومة من إيران، أنه تم "نشر" بعض العناصر العراقية للانضمام إلى القتال ضد إسرائيل (رغم أنه لم يكشف عن مكانها). وفي خطاب ألقاه في 25 أيار/ مايو، أشاد زعيم «حزب الله» حسن نصر الله بعمليات «حماس» ووصفها بأنها "خطوة تاريخية في الصراع مع العدو"، وصوّر الحركة كجزء مهم من محور المقاومة.
التداعيات السياسية
لعبت الرعاية الإيرانية دوراً رئيسياً في تمكين «حماس» من بدء القتال في غزة الشهر الماضي. وحين تبدأ عمليات إعادة الإعمار في نهاية المطاف، يتعين على إدارة بايدن المساعدة على ضمان آلية مراقبة صارمة - كاملة مع الإشراف الشخصي على الواردات - لمنع إعادة تسلح «حماس». وستكون هذه المهمة صعبة نظراً لأن الحركة اشتهرت بصناعة صواريخ من مواد يتم استخدامها يومياً. إن اتخاذ إجراءات صارمة ضد التهريب على طول حدود غزة أمر مهم أيضاً، وكذلك العمل مع مصر لمنع نقل العتاد عبر ليبيا أو السودان.
وهناك طريقة أخرى لتقليل الدعم الإيراني لـ «حماس» وهي مواجهة نفوذ طهران المتزايد في الشرق الأوسط الكبير. بإمكان إدارة بايدن مد يد العون في هذا الصدد من خلال مساعدة الدول العربية وإسرائيل على صياغة اتفاقيات تطبيع إضافية، والتي من شأنها أن تضع كل جانب في وضع أفضل للتعاون في مكافحة الإرهاب، ومكافحة التهريب، والجهود الأخرى للحد من الأنشطة الإيرانية المزعزعة للاستقرار. إن أي بلد يواجه زحفاً إيرانياً شديداً سيكون مرشحاً جيداً لمثل هذه الجهود، وخاصة العراق والسعودية وسلطنة عُمان.
إيدو ليفي هو زميل مشارك في معهد واشنطن متخصص في العمليات العسكرية ومكافحة الإرهاب، لا سيما فيما يتعلق بالجماعات الجهادية.