- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3951
كيفية تقييم خيارات الرد الإيراني ضد إسرائيل
قد يؤدي ضعف التواصل الداخلي وسوء التقدير إلى قيام طهران باستئناف سلسلة هجماتها قريباً على إسرائيل، سواء بشكل مباشر أو عبر وكلائها في العراق.
من وجهة نظر واشنطن، لم يكن للضربات الصاروخية الإيرانية الأخيرة ضد إسرائيل في نيسان/أبريل وتشرين الأول/أكتوبر تأثير ملحوظ على الوضع الميداني. ومن ناحية أخرى، نجحت الضربة الإسرائيلية الأخيرة بشكل ملحوظ في إضعاف القدرات العسكرية الإيرانية الهجومية والدفاعية وأحدثت خللاً في توازنها، مما قد يعزز احتمالية عدم قيام طهران بالتفكير في توجيه ضربة ثالثة. ومع ذلك، لا يبدو أن طهران تتفق مع هذا التقييم، وقد تتخذ قرار الهجوم قريباً. وبالتالي، فإذا كانت واشنطن تسعى إلى تهدئة التوتر بين الخصمين، فعليها أن تعمل بنشاط على توضيح تبعات هذا الصراع لطهران.
هل أيران منفصلة عن الواقع؟
في حين اعتبر الغرب الهجوم الإيراني على إسرائيل في 13 نيسان/أبريل فشلاً ذريعاً، رأت طهران أنه كان ناجحاً بما يكفي لتكراره في 1 تشرين الأول/أكتوبر. ومع ذلك فهذه مسألة تتعلق جزئيًا بوجهة النظر- فقد يكون لدى النظام والفاعلين الإقليميين الآخرين آراء مختلفة حول عدد الضربات الصاروخية وكمية الأضرار التي تُشكل ضربة ناجحة، أو مقدار المكاسب التي تحققها إيران بإظهارها "المقاومة" ضد التحركات الإسرائيلية. ومع ذلك، يثير هذا التناقض تساؤلات جوهرية حول مدى صحة المعلومات التي يتلقاها القادة الإيرانيون حول نتائج تلك الضربات.
لدى المسؤولين الإيرانيين في مختلف المستويات سجل طويل في تجاهل الحقائق وتقديم تقييمات غير واقعية حول الأحداث المختلفة. وتشمل هذه الظاهرة ضباط "الحرس الثوري الإيراني"، وحتى عناصر الاستخبارات، الذين يظهرون أحياناً جهلاً مذهلاً بكيفية سير الأمور في العالم. وهناك سبب قوي للاعتقاد بأن هؤلاء المسؤولين يضللون القيادة العليا للنظام بشأن قضايا حيوية، بصرف النظر عما إذا كانوا يصدقون تقييماتهم المتفائلة أم لا. ولعل أبرز مثال على ذلك ما حدث عندما استغرق "الحرس الثوري الإيراني" وقتاً طويلاً في إنكار الحقيقة المؤكدة عندما أسقطت قواته طائرة ركاب أوكرانية في يناير 2020، وقيامه بتقديم مزيداً من الادعاءات غير الواقعية لنفي المسؤولية. ومؤخراً، نشر الحرس الثوري روايات مغلوطة حول مقتل قائد حركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران، حيث وصف الحادث بأنه ضربة من طائرة بدون طيار، رغم وجود أدلة واضحة على أنها قنبلة زرعها أحد المقربين. وتشير هذه الوقائع إلى أن الحرس الثوري الإيراني لا يكتفي بتضليل العالم الخارجي فحسب، بل عمل أيضًا على تضليل القيادة الإيرانية.
على الرغم من عدم وجود أدلة كثيرة على أن أي شخص قد تم محاسبته على هذا التضليل، فإن قائد قوة القدس في "الحرس الثوري الإيراني"، إسماعيل قاآني، اختفى عن الأنظار لفترة طويلة بعد الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت شخصيات قيادية في الحرس الثوري الإيراني، الأمر الذي يثير احتمال أن يكون النظام قد بدأ عملية جادة لاصطياد جواسيس داخليين، وهي مهمة سبق أن نفذها بصرامة كبيرة في الماضي.
وفى حين تميل وسائل الإعلام الغربية وصنّاع القرار في الغرب إلى التواصل مع المسؤولين الإيرانيين (مثل وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف، أحد نواب الرئيس في الحكومة الحالية)، الذين لديهم معرفة بالعالم الخارجي ويدركون بواقعية إمكانات وحدود ما يمكن أن تقوم به بلدهم. ومع ذلك، هناك قلة من هؤلاء الشخصيات تستطيع التأثير في عملية اتخاذ القرار داخل النظام في الوقت الراهن. على سبيل المثال، خلال النقاش حول ضرب إسرائيل في الأول من تشرين الأول/أكتوبر، دعا كل من ظريف والرئيس مسعود بيزشكيان إلى ضبط النفس، لكن تم تجاوزهما واضطرا إلى الالتزام بالقرار.
هل ستنتقم إيران مجددًا؟
في الأيام التي تلت الضربة الإسرائيلية في 26 تشرين الأول/أكتوبر، تصاعدت التحذيرات من العديد من الشخصيات الإيرانية المعروفة بتصريحاتها النارية - من المعلقين في وسائل الإعلام المتشددة إلى القيادات البارزة في الحرس الثوري الإيراني والسياسيين المتشددين - بأن النظام سيرد حتماً. ووفقاً لرصد شبكة "بي بي سي"، وصف غلامحسین محمّدی گلپایگانی، رجل الدين المتشدد الذي يدير مكتب المرشد الأعلى علي خامنئي، الهجوم الإسرائيلي بأنه "يائس وجبان"، مؤكد أن "رد إيران على الصهاينة سيكون قاسياً وموجعاً“. وفي السياق نفسه، نقلت "وكالة أنباء فارس" شبه الرسمية تحذيراً من قائد الحرس الثوري الإيراني حسين سلامي موجهاً إلى إسرائيل قال فيه: "لقد ارتكبتم حادثاً مؤسفاً آخر وستذوقون العواقب... ليس لديكم مكان تهربون إليه". “كما صرح الرجل الثاني في الحرس الثوري، علي فدوي، في مقابلة مع قناة الميادين اللبنانية أن رد إيران سيكون "حتمياً"، مدعياً - على نحو غير دقيق - أن النظام قد رد باستمرار على كل عمل عدائي إسرائيلي على مدى الأربعين عاماً الماضية، وأضاف: "إيران تملك القدرة على استهداف كل ما يعتز به الصهاينة في عملية واحدة.
من جانبه، أدلى خامنئي، المعروف عادةً بحذره، بتصريحات شديدة الغموض في 27 تشرين الأول/أكتوبر، قائلاً إنه يجب "عدم المبالغة أو التقليل من آثار الهجوم الإسرائيلي "، كما دعا السلطات إلى "تحديد كيفية نقل قوة وإرادة الشعب الإيراني" إلى إسرائيل. ورغم لهجته المتزنة، إلا أن تصريحاته فُسِّرت على نطاق واسع في إيران باعتبارها دعوة لتوجيه ضربة لإسرائيل. كما نقلت صحيفة "همشهري" عن خامنئي وصفه للهجوم بأنه "سوء تقدير" يجب على إيران "تصحيحه"، بينما نقلت صحيفة "إيران" اليومية الحكومية وصحيفة "كيهان" المحافظة المتشددة عنه قوله إن على إيران "أن تجعل إسرائيل تدرك مدى قوتها". وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، فُسِّر خطاب خامنئي على أنه "أمر واضح" بتوجيه ضربة قوية لإسرائيل لدرجة تجعلها "غير قادرة على الوقوف مجدداً"، على حد تعبير أحد المدونين.
وعلى الرغم من هذه الثقة الواضحة بأن طهران ستضرب مجددًا (وقريباً)، إلا أن التهديدات الإيرانية الصاخبة غالباً ما ثبت أنها في معظمها أو كلها خاوية. أبرز مثال على ذلك، كانت التحذيرات الإيرانية المتكررة بأن حاملات الطائرات الأمريكية ستتعرض للهجوم في المرة القادمة التي تدخل فيها الخليج العربي. والواقع أنه، عندما كان النظام يصدر مثل هذه التهديدات في الماضي، كانت النصيحة المعتادة هي "اطمئن، فهذا يعني أنه لن يفعل الكثير". غير أن هذا قد لا يكون هو الوضع في دورة التصعيد الحالية.
ما هي خيارات العراق؟
في 31 تشرين الأول/أكتوبر، أفاد موقع "أكسيوس" بأن العراق قد يكون نقطة انطلاق للانتقام الإيراني في أوائل تشرين الثاني/ نوفمبر. فقد صعد شركاء طهران في العراق من هجمات الطائرات بدون طيار ضد إسرائيل في الآونة الأخيرة، حيث شنت 6 غارات في آب/أغسطس، ثم 37 في أيلول/سبتمبر، و111 في تشرين الأول/أكتوبر. كما تستخدم هذه الميليشيات صاروخ كروز جديد أمدتهم به إيران يسمى” العرقاب“، حيث أطلقت 26 صاروخًا منها على إسرائيل بين الخامس كانون الثاني/يناير والخامس من تشرين الأول/أكتوبر.
غير أن ما لم تفعله إيران حتى الآن هو دعم هجوم صاروخي باليستي من العراق. لكن، إذا قررت أن تسلك هذا الطريق، فبإمكانها بسهولة أن تضع مثل هذه الصواريخ مسبقًا في مناطق في العراق يسيطر عليها حلفاؤها، بل أن تقارير تعود إلى عام 2019 تشير إلى أنها ربما تكون قد فعلت ذلك بالفعل. ومن شأن هذا السيناريو أن يؤدي إلى تعقيد جهود الدفاعات الصاروخية الإسرائيلية والأمريكية من خلال إنشاء مناطق إطلاق جديدة ينبغي مراقبتها، والأهم من ذلك، تقليل أوقات التحذير والاعتراض. قد تكون مواقع الإطلاق العراقية قريبة من حدود إسرائيل، حيث تصل إلى حوالي 420 كيلومتراً فقط، مقارنةً بحوالي 1000 كيلومتر لأقرب مسار من إيران. وكما ذُكر أعلاه، فقد سبق لطهران أن تجاوزت الحدود هذا العام من خلال السماح للجماعات العراقية باستخدام صواريخ كروز؛ ويمكنها أن تفعل ذلك مرة أخرى مع الصواريخ الباليستية.
يمكن لإيران، من خلال إعطاء الأوامر للجماعات المسلحة إما باستخدام سلاح لم تطلقه على إسرائيل من قبل أو شنّ هجوم شامل باستخدام القدرات المعروفة مثل استخدام طائرات بدون طيار وصواريخ كروز، أن تقوم بتوسيع نطاق الصراع و"توحيد الجبهات" بشكل أكبر، على حد تعبير النظام. وفى حال أدى هذا الهجوم إلى رد إسرائيلي قاسٍ على العراق، فمن المحتمل أن تبرر الميليشيات ذلك بأن الولايات المتحدة سهّلت الهجوم أو فشلت في منعه. الأمر الذي قد يؤدى بدوره إلى تصعيد الاعتراضات القوية القائمة بخصوص الوجود العسكري الأمريكي في العراق، مما يسرع جهود بغداد لتأمين انسحاب أمريكي شامل.
بيد أن إيران اتسمت بالحذر عموماً في تعاملها مع الشأن العراقي. فإلى جانب التمويل المباشر للنظام، يُعد العراق الآن المصدر الأساسي للدعم النقدي لما يُعرف بـ ” محور المقاومة “التابع لطهران، حيث يوفر بيئة مواتية تتيح للكتل السياسية الموالية لإيران التلاعب بالموارد الوطنية الرئيسية (مثل عمليات سرقة النفط على نطاق واسع) بطرق تتسامح معها الحكومة الأمريكية حالياً للحفاظ على علاقاتها مع بغداد.
خيارات الولايات المتحدة الامريكية
رغم قدرة واشنطن المحدودة على التأثير على كيفية فهم القادة الإيرانيين لنتائج أفعالهم، إلا أنه لا تزال لديها مصلحة في اتخاذ ما يلزم من إجراءات. ولعل أكثر وسائل الاتصال فعالية هي نشر أكبر قدر ممكن من الأدلة عقب وقوع حوادث مثل الضربات الإيرانية والإسرائيلية، بما في ذلك صور الأقمار الصناعية والتقديرات الاستخباراتية.
كما يمكن للمسؤولين الأمريكيين أن يقدموا طلبات إحاطة مكثفة للحكومات التي من المعروف أنها تستمع إلى طهران، مثل بغداد ودول الخليج. وعلى وجه الخصوص، تستطيع واشنطن أن توضح للقادة العراقيين العواقب الخطيرة التي قد تواجه بلادهم إذا لم يتخذوا موقفاً حازماً بينما يقوم وكلاء إيران بتصعيد هجماتهم على حلفاء الولايات المتحدة ومنشآتها. وقد أثبتت التجربة في الماضي، أن التهديد بفقدان إمدادات الدولارات الأمريكية كان دوما وسيلة فعالة لتأمين تحرك عراقي، ومن الواضح أن ذلك كان يستند إلى فهم واسع النطاق - بما في ذلك بين الميليشيات الموالية لإيران - بأن فقدان تلك الأموال سيشكل كارثة بالنسبة العراق.
يمكن لواشنطن أيضًا أن توضح أنه في حال وقوع ضربات إيرانية جديدة، فإنها لن تعارض بعد الآن قيام إسرائيل بضرب أي أهداف إيرانية تراها مناسبة. وقد يتضمن ذلك على الأرجح البنية التحتية النفطية أو حتى المواقع النووية، التي قيل أن واشنطن حثت إسرائيل على عدم ضربها في المرة السابقة.
ومن المسلم به أن سجل إيران يشير إلى أن جهود الولايات المتحدة وشركائها في توجيه الرسائل قد لا تحقق التأثير المنشود. وبالنظر إلى عدد الحكومات التي حاولت إقناع المسؤولين الإيرانيين بتحمل المسؤولية الكاملة عن إسقاط الطائرة الأوكرانية، فقد كانت النتائج هزيلة في أحسن الأحوال. غير أنه على أقل تقدير، فإن نشر الأدلة على نطاق واسع وإشراك أكبر عدد ممكن من الحكومات في جهود التواصل، سيعد بمثابة تذكيرًا دوليًا مهمًا بالتزام النظام الإيراني المتواصل بزعزعة الاستقرار الإقليمي.
الدكتور پاتريك كلاوسون هو زميل أقدم في برنامج الزمالة "مورنينجستار" ومستشار الأبحاث في معهد واشنطن.
الدكتور مايكل نايتس هو زميل أقدم في برنامج الزمالة "جيل وجاي برنشتاين" في معهد واشنطن.