- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
لكل مقام مقال: التهافت والنجاح في سرديات إيران و «محور المقاومة»
11 ديسمبر/ كانون الأول 2017
تتعدد السرديات التي تعتمدها الحكومة الإيرانية في تواصلها مع مختلف الأطراف الدولية وتتضارب. فالغرب يحظى بتصوير لإيران على أنها حليفته الطبيعية في مواجهة «الإرهاب» (الإسلامي السني)، فيما خارج الغرب إيران هي القوة الذاتية الواقفة إزاء استكبار الغرب. وليست إيران وحدها بالطبع من يلجأ إلى إبراز ما يناسب المقامات المختلفة كل على حدة، وإن على حساب تكامل الصورة عند جمعها. ولكن مقدار التعارض في السرديات التي تسوقها إيران من خلال الإعلام المساند لها والمموّل منها في المحيط العربي يرتفع إلى ما يتعدى التدليس المرتقب في الخطاب السياسي، ليبلغ درجة التزييف والتضليل المتعمدين. ورغم ذلك، وإزاء غياب السرد المتجانس البديل، فإنه لا بد من الإقرار لحملة إيران الإعلامية بالنجاح، وإن الآني.
ولا بد من التنبيه هنا أن مقياس النجاح نوعي وليس كمي. بل المعطيات الكمية تشير بالفعل إلى أنه رغم المجهود الإعلامي الإيراني المتواصل، فإن التآكل مستمر في صورة إيران، وكذلك أدواتها الميدانية كحزب الله. ويتبدى ذلك بوضوح في استطلاعات الرأي العام والتي نشرت تباعاً هنا في منتدى فكرة. ولكن حيث يمكن بالاستبداد والإرهاب لجم الرأي العام، مقياس النجاح هو بالهيمنة على الساحة الفكرية والخطابية بما يمنع تشكل الطرح البديل، والذي من شأنه زعزعة القبضة المكممة للجمهور.
«أصبح بالإمكان الانتقال من مشهد في شرقي إيران إلى الناقورة، في جنوبي لبنان على دراجة هوائية». هذا هو الزعم الذي يعتنقه أحد المطيبين للانتصار المزعوم لإيران،ولـ «محور المقاومة» التابع لها، تحت مسمّى «التحالف والتنسيق»، في معتركات العراق وسوريا ولبنان. وإذا كان هذا الزعم لا يختلف عن التصريحات الفجّة الصادرة عن مسؤولين إيرانيين، خلال حديثهم لجمهورهم الداخلي وباللغة الفارسية، حول احتلال إيران لأربع عواصم عربية (بإضافة صنعاء لكل من بغداد ودمشق وبيروت)، أو حول إرهاصات قيام إمبراطورية فارسية ثالثة تصل إلى شواطئ المتوسط، فإنه، للاستهلاك العام في المحيط العربي، يجري تأطيره بما لا يتسبب بنفور الجماهير المعنية. والتحدي الذي يواجهه هذا الخطاب هو في انعدام التجانس في الأوساط المستهدفة، بل التناقض في التطلعات الرائجة فيها.
ومن استقراء النبرات الخطابية المتصاعدة اليوم يتيبن أنه قد رسا التأطير على معادلة قابلة لإعادة الصياغة والتسويق في مختلف هذه الأوساط. فالمواجهة هنا ليست بين إيران وحلفائها من جهة، والدول والمجتمعات المتصدية لها من جهة أخرى، بل بين مشروعين، الأول هجومي، دولي استعماري، تقوده الولايات المتحدة، ويهدف إلى تفتيت المنطقة ونهب ثرواتها وحرمان أهلها من خيراتها، والثاني دقاعي «إقليمي» استقلالي، يجمع «محور المقاومة» أي وفق الزعم الفضفاض إيران والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، ويرغب بتعزيز حق الشعوب بتقرير مصيرها والتصدي للمسعى الخارجي لشرذمتها. هذا على وجه الإجمال، أما تفاصيل هذا الخطاب فتبقى قابلة للتعديل وفق مقتضى الجمهور المستهدف. والمستهدفون عديدون، شيعة وسنّة و«أقليات»، والحاجة إلى استقطابهم تتراوح بين التعبئة والوقاية والحماية.
والأوساط الشيعية هي على رأس القائمة، فهي المطلوبة للتعبئة لغرض توفير اليد العاملة (المقاتلة) للامتداد الإيراني. ليست إيران بالطبع من كوّن من العدم الاستعداد لدى هذه الأوساط للتجاوب مع الطرح التعبوي، فالخلفية المستتبة في المنطقة هي أن الانتقال من واقع التفرّق الفئوي إلى منطق التجمع الوطني لم يتحقق رغم قرابة القرن على قيام منظومة الدول الوطنية. فإما أن الدولة قد صادرتها نخب فئوية أو أن الخشية بقيت بأن الطرح الجامع هو قناع وحسب لتأصيل هيمنة الأكثرية على الأقلية. وإذا كان الطرح القومي في مرحلة ماضية قد أقنع العديد في الأوساط الشيعية بإمكانية الخروج من التهميش، فإن فشل هذا الطرح بل استيلاء النزعات التسلطية عليه بدّد المكاسب وأعاد الزخم إلى الفئوية. وكانت الفرصة مؤاتية بالتالي لإيران الثورة الساعية إلى التصدير أن تستفيد من تعثر التوجهات الجامعة. وفي العراق، كما في لبنان، كان مسعى إيران منذ البدء طائفياً. ليس أن «حزب الله» هو حالة ناتجة عن فشل مساعي الاستقطاب المتجاوز للطوائف، فحزب الله منذ نشأته في الثمانينات هو حصر وعزل وتجنيد للطائفة الشيعية في لبنان. بل هو المعادلة الشمولية التي كان يتمنى موجهوه الإيرانيون تطبيقها في بلادهم، غير أن متانة بنى المجتمع الإيراني ومقاومته للاحتواء اعترضتهم. فالفرد لدى حزب الله له أن يلد في مستشفيات الحزب ويدرس في مدارسه ويتدرب في مخيماته ويخدم في معسكراته ويعمل في مؤسساته، ويستشهد في معاركه، وبعد مماته يتولى الحزب رعاية أسرته. هو تأطير من المهد إلى اللحد وما يتعداه. وبالإضافة إلى البعد المادي، نشط مشغّلو حزب الله في تمتين خطابه على مستويين، الأول عام علني جامع في مصطلحاته رغم افتقادها الوضوح (حزب الله يدافع عن «الأمة»، ولكن ما هي هذه «الأمة»؟ اللبنانية؟ الشيعية؟ العربية؟ الإسلامية؟) والآخر خاص داخلي معمّى حافل بالإشارات والتلويحات، وغارق بالطائفية الطاعنة بالجماعات (السنة تحديداً)، والمذهبية الناقضة لعقائد المخالفين والمفعمة بالمهدويات. ومع اندلاع الأزمة في سوريا، وإثر الإلزام الصادر من طهران لحزب الله بخوضها، كان لا بد من إخراج بعض الخطاب الداخلي من دائرة التعمية لمزيد من التحفيز والتعبئة، وإن تناقض ذلك مع الحاجة الخطابية تجاه الجمهور المستهدف الثاني، أي الأوساط السنية في المشرق وفي عموم المحيط العربي.
حاجة خطاب «الممانعة» في الأوساط السنية ليست التعبئة بل عكسها تماماً، أي الوقاية من أية تعبئة مضادة لأهداف المحور، وذلك من خلال تقمص القضايا المحركة للاندفاع السياسي لدى هذه الأوساط، بدءاً بالموضوع الفلسطيني والعداء لإسرائيل، مروراً بمناهضة الاستعمار الجديد والتدخل الخارجي، وصولاً إلى الرغبة بأنظمة حكم عادلة، حيث ثمة وعي سياسي، أو الحاجة إلى الاطمئنان إلى هوية محلية إسلامية حيث يغيب هذا الوعي. وأهمية هذه الحاجة تظهر في أسلوب الإغراق الإعلامي المتبّع، والقائم على تقديم كميات متواصلة من التصويرات الساعية إلى تحقيق الهدف، وإن كانت على تناقض فيما بينها شرط أن تشترك في نتيجة تلميع صورة محور الممانعة. فالولايات المتحدة في بعض هذه التصويرات شرّ مطلق ومصدر الضرر الذي يطال المنطقة، بل هي من أنشأ الجماعات التكفيرية ومن يحركها لتفتيت الدول، ولا يقف بوجهها إلا محور المقاومة، ولكنها في تصويرات أخرى قوة عالمية عظمى محترمة تدرك أنه لا سبيل للقضاء على الإرهاب إلا من خلال التعويل على هذا المحور لذلك فهي تجهد لاسترضائه، إلا إذا كانت، كما هي في غيرها من التصويرات، تسعى إلى ضرب الجماعات بعضها فبعض، فيطلّ وجه حزب الله مقدما النصح للمجموعات السلفية الجهادية بأن تحذر من الفخ، إلا إذا كان الحزب والمحور كما في تصويرات أخرى يحاربان هؤلاء التكفيريين أنفسهم دفاعاً عن «أهل السنة» وعموم المسلمين وسائر المواطنين. وكذلك العداء لإسرائيل، فهو حيناً رفض من منطلق إنساني لظلم الاحتلال والتهجير والتشريد وحيناً آخر عداء (قومي ربما) للصهيونية الاستعمارية الدخيلة والتي لا بد من إخراجها من المنطقة، إلى أن ينحدر تصريحاً بالبغض والعداوة لليهود قتلة الأنبياء وخصوم الحق إلى حين تقوم الساعة. فلتختر الأوساط السنية، أو القدر الكافي منها، ما تشاء من هذه المائدة، فنتيجة اختيارها، كيفما كان، هو بعض التأييد لموقف محور الممانعة وبعض التخفيض من حدة العداء له، أو حتى، حيث تمتزج المصالح بالحاجة إلى القناع، إمكانية تعبئة وتجنيد في إطار منظمات رديفة أعضاؤها من غير الشيعة.
والاقتراب من «السنة» العرب في الخطاب الوقائي هذا يتضمن بعض المحاذير إزاء الجمهور الثالث لمحور المقاومة، أي «الأقليات»، سواء منها الدينية أو اللغوية. والرسالة الضمنية الموجهة إلى هذه الأوساط هي أنها من شأنها أن تطمئن إلى الحماية التي بقدمها لها محور المقاومة. أما مصدر الخطر وفق القراءة المعتمدة هنا، فلا هو الولايات المتحدة ولا إسرائيل، واللتان ينشط محور المقاومة في إشهار التصدي لهما لاستيفاء حاجاته الخطابية الأخرى، بل هو الوسط السني العربي تحديداً، حاضن الوهابية والإرهاب، والجانح إلى التطرف والتشدد بطبعه وتاريخه. فلا ضمان للمسيحيين والدروز واليزيديين وغيرهم من الأقليات الدينية في الشرق، ولا سياج لحقوق الأكراد، إلا من خلال التعاقد مع محور المقاومة.
كان لبنان تجربة رائدة بالنسبة لإيران الثورة. فالاستثمار في حزب الله أنتج قوة ضاربة فعّالة أثبتت جدواها خارج الحدود، وأسس لمنظومة سياسية ظاهرها دولة اعتيادية وباطنها واقع احتلال إيراني من خلال الإكراه والترهيب والتوريط والتي يمارسها الحزب بنجاح لصالح إيران. وقد أصبح بالإمكان اليوم المجاهرة بالواقع، فبوسع الناطقين بلسان حزب الله أن يعلنوا أنه من شأن سائر القوى اللبنانية أن تجادل الحزب وتناقشه في أمور النفايات والكهرباء والشؤون المعيشية. أما في دوره الإقليمي ومكانه ضمن محور المقاومة، فليس لهذه القوى أهلية الاعتراض. هي ذميّة عصرية مفروضة على عموم اللبنانيين، ولهم أن يتلهوا بعصبياتهم وطائفياتهم.
أما في سوريا، فالواقع أنه بفعل استيلاء الإسلاميين من مختلف التوجهات على مسار الثورة، وبفعل تناقض الدول الداعمة للثورة في الرؤى والمصالح، كما بفعل وضوح الخطة لدى محور الممانعة حول ضرورة تعويم النظام مهما كانت التضحيات بالأرواح ولو استحالت البلاد إلى حطام، وهو ما حدث بالفعل، لا بد من الإقرار بأن المرحلة الحالية هي مرحلة تنفيس وهيوط هادئ للثورة، تشترك فيها مباشرة كل من إيران وروسيا، وبشكل غير مباشر تركيا ودول الخليج والولايات المتحدة وسائر المجموعة الدولية. وأمام هذا الواقع، يأخذ خطاب محور الممانعة لهجة التبجح وتبديل الوقائع فتستحيل مأساة سوريا انتصاراً لمحور المقاومة بتجاهل مقزّز للمجزرة التي ارتكبها النظام. فإذا كانت إيران في لبنان قوة احتلال مبطّن، فإنها في سوريا شريكة بجريمة بحق الإنسانية.
وتشبه الحالة العراقية ببعض أوجهها التجربة اللبنانية. فكما أن إيران جيّرت المقاومة للاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني والذي انتهى في ختام القرن الماضي لصالح مشروع استيلاء خفي ومتواصل على لبنان، فإنها تستفيد من حرب العراق على تنظيم الدولة الإسلامية للتأسيس لانفصام في شخصية الدولة العراقية، ما يعرّضها في المستقبل لخطر التآكل والتبعية. فالحشد الشعبي، إذ يُشهد لمقاتليه دورهم في مواجهة تنظيم الدولة، ورغم مساعي الحكومة العراقية إلى احتوائه وتأطيره وطنياً، يبقى حالة ملتبسة من الازدواجية في المرجعية الأمنية، وحتى الولاء. وإذا كان الحشد الشعبي قد جرت صياغته على مثال قوات البسيج الإيرانية، فإنه يمكن استشفاف مساراته المحتملة من خلال متابعة الواقع الإيراني. فالبسيج هم مصدر التعبئة للحرس الثوري في إيران، والحرس هو عماد إيران الثورة والتي تقف بالتضاد بوجه إيران الدولة بجيشها ومؤسساتها. فإيران الثورة وحرسها تسعى إلى التصدير والنفوذ غير التقليدي، فيما إيران الدولة، وإن شاءت النفوذ كذلك، فإنها أكثر انضباطاً بالمعايير الدولية، ولكنها المرجوحة لا الراجحة في صياغة القرار داخل إيران. فحتى لو انتقل الواقع الإيراني كما هو إلى العراق، فذلك نذير تجاذب العراق في غنى عنه. غير أن الفارق بين الحالتين هو أن ازدواجية إيران داخلية، أي أن الإطارين المتنافسين، الثورة الراجحة والدولة المرجوحة، هما تحت سقف واحد. أما العراق، فالحكومة العراقية وطنية أصلاً وطبعاً، أما الحشد، فولاءات فصائله تتجاوز الحدود، وبعضها أعلن الولاء للتو للولي الفقيه في إيران، وبعضه عقد العزم على مساندة النظام القاتل في سوريا.
فعندما ينطق محور المقاومة بخطاب المشروع الإقليمي الاستقلالي المؤلف من إيران والعراق وسوريا ولبنان، فإنه في واقع الأمر يشير إلى الشق المتسلط الراجح في إيران، أي إيران الثورة على حساب إيران الدولة والمجتمع الناخب، وإلى القسم الواعد له من العراق بعد أن تطاله أزمة انفصام قد زرعت بذورها، وإلى النظام القاتل المهترئ في سوريا، إلى دولة حزب الله الممسكة بعنق لبنان طوعاً وكراهية، وإلى ما استطاع التواصل معه من الجهات الملتبسة والإرهابية في فلسطين. وعندما يكون الكلام عن حرية الشعوب في وجه الاستعمار، فهي حرية وهمية مقياسها التعبئة للموت والتضليل والذمية.
قوة خطاب محور المقاومة ليست في سلامة طرحه، بل العلل في الطرح أكثر من أن تحصى، إنما في تسخيره الموارد لإغراق السوق الإعلامية، وفي غياب الطرح البديل، لانشغال الجهات القادرة على تقديم هذا الطرح بما لا جدوى منه، تاركة ساحة معارضته لمنطق التشدد والتطرف والإرهاب، ما يروق بالفعل لمحور المقاومة ويعزز فعاليته.
ليس المطلوب الطعن لا بإيران ولا بمن تمكنت من تشغيله في المنطقة، إنما الملحّ هو العمل الجدي على تفكيك خطاب محور المقاومة انطلاقاً من وضوح في الرؤية هو أنه ليس ناطقاً بلسان دول ومجتمعات بل بلسان منظمات متسلطة على دول ومجتمعات، سواء كان السبيل للتسلط التعبئة أو جهد الوقاية أو مزاعم الحماية.