- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
على المفكرين المسلمين معالجة إشكالية العقيدة الدينية المستجدة بشأن «اليهود»( الجزء الثاني)
جرى جمع الأحاديث والأخبار العائدة إلى مرحلة ظهور الإسلام في القرون التالية لتشكّل الدين الإسلامي، وذلك في إطار كتب المغازي والسيرة النبوية ثم مصنفات الحديث. وقد تضمنت هذه المؤلفات، دون حرج، مادة واسعة، هي الإسرائيليات، عائدة إلى اليهود الداخلين في الإسلام. وفي حين أن المنهج الذي اعتمده معظم علماء الدين المسلمين تحفّظ إزاء هذه المادة، فإن مصنفات الحديث المصححة وغير المصححة تحفل بها، ولا سيما في مسائل الملاحم والفتن. وقد اكتسبت بعض من هذه الأخبار المتفاوتة أهمية جديدة في القرن الماضي، ولا سيما في أوساط العقائديين الجهاديين، وذلك مع بروز عقيدة دينية إسلامية مستجدة بشأن اليهود تتخلى عن القواعد المتبعة في المراحل السابقة، وتنقل اليهود، ككم أحادي إلى تسقيط جديد.
تفاعل الفكر الإسلامي السابق للمرحلة المعاصرة مع ثلاثة سياقات لليهود. السياق الأول هو بنو إسرائيل الكتابيون، في أزمان الرسل والأنبياء، كما جاء ذكرهم في القرآن والإسرائيليات، الثاني هو سياق يهود يثرب وخيبر ووادي القرى كما ورد في القرآن والسيرة، والثالث هو السياق المعاصر لكل حقبة من وجود لجاليات يهودية في المجتمعات الإسلامية. ثمة إشارات عابرة في كتب التاريخ إلى جماعات من «الخيبريين» في بعض مدن المشرق، غير أن الغالب المتحقق عدا هذا الذكر النادر هو الانقطاع في الذاكرة بين اليهود في عصر النبي والتجمعات اليهودية ضمن دول الإسلام في المراحل التالية. وقد اعتمد علماء المسلمين ضمناً هذا القطع، فجعلوا من السياق الثاني، أي يهود زمن الرسول، مادة لكتب الكلام والعقيدة، فيما كان التعامل مع السياق الثالث، أي اليهود المعاصرين، على أساس مقررات الفقه.
أما السياق الأول، أي قصص بني إسرائيل، فقد غلب التخصص به في التفسير، لاستخراج العبر حول قصور الإنسان، وكتنبيه للأمة، إذ ترتقي إلى مقام أمة الله بدلاً من بني إسرائيل، بألا تقع بما وقعت به سابقتها من الخطأ والعناد. وقد جرى تغليب العبر في استدعاء السياق الثاني كذلك، لإبراز التعنت والغرور في مواجهة الحقائق. ولم يكن لدى علماء المراحل الماضية بالتالي أي داعٍ لتفسير بروز بني إسرائيل أو يهود يثرب في النص القرآني.
أما في القراءة المستجدة، فبعض الأخبار والروايات تكتسب أهمية لم تمنح لها في السابق، وتستوجب بالتالي إعادة نظر عقدية. فابن إسحاق في سيرته يأتي على ذكر نكبة بني قريظة، آخر القبائل اليهودية الثلاث التي سكنت يثرب. سيرة ابن إسحاق هذه هي النص المرجعي الأول لرسم معالم حياة رسول الإسلام، ولكنها مجموع روايات آحاد معرّضة لمساءلات من داخل النص وخارجه، بما يكفي لإثارة الشكوك حول صحة رواية بني قريظة كما غيرها. غير أن علماء المسلمين، في ماضيهم وحاضرهم، لم يعترضوا على هذه الرواية، ولا على غيرها من حيث الإجمال. وإذا صح اعتماد نص السيرة لتبين الوقائع، فإن بني قريطة كانت عشيرة يمنية متهودة دُفعت، بل أُرغمت، على التعاهد حول الدفاع المشترك مع الرسول بعد تعزيزه لسلطته في يثرب أي المدينة. ويبدو جلياً أن انشغال قريظة لم يكن متوافقاً مع توجهات الغزو التي اعتمدها محمد. وعندما تآلف الأحزاب من خصومه لحصار يثرب، طلب كبار بني قريظة منه إعفائهم من عهد القتال. ولم يلِ هذا الطلب خطوات ملموسة لا من الرسول ولا من قريظة.
وبعد آن، انفرط عقد الأحزاب وانتهى الحصار، وأعلن الرسول العزم على معاقبة قريظة لنكثها العهد، وصولاً إلى رضوخ رؤسائها للتحكيم. وجاء حكم من توافق عليه الجمعان أن يقتل رجال قريظة وتسبى نساؤها وأطفالها. ويستفيض ابن إسحاق بسرد وقائع مقتلة أزهقت أرواح ثمانمئة من رجال قريظة وشبابها، فيما تقاسم المسلمون بعد الذبح نساءهم وأطفالهم.
لم تكن هذه الرواية، إلى أمس قريب، جزءاً من الوعي الجماعي للمسلمين حول سيرة نبيهم. هي لم تشهد الاعتراض، ولكنها لم تشهد تفصيل الذكر رغم أنها الحالة القصوى من المقاتل في تاريخ الرسول. غير أن استدعاء نكبة بني قريظة قد تكرر في العقود الماضية من خلال تصويرها ابتداءاً على أنها خطوة قاسية ولكنها ضرورية أقدم عليها الرسول لتحصين دولته الناشئة، ثم على أنها قصاص مناسب لخبث اليهود إذ تآمروا على الرسول ومكروا لدعوته.
وفي رسالة مقتضبة، يشدد أبو يحيى الليبي، أحد أهم قادة تنظيم القاعدة ومنظريه، وقد قتل عام ٢٠١٢، على المغزى والمعنى في رواية بني قريظة كقياس لتعامل المسلمين مع غيرهم. فهو يقرّ بأن ما فعلته قريظة بحد ذاته لم يكن جسيماً، وأن جزاءهم كان على قدر كبير من الشدة. ولكنه لا يرى في ذلك ظلماً، بل يعتبر أن هذا القياس، والذي جاء بأمر إلهي وطاعة من الرسول، هو ما يجب اعتماده عند أي تعدٍ على حقوق المسلمين. وإذا كان ثمة اعتراض قد ظهر في أوساط الجهاديين حول مقولة الليبي فهي بالتنويه إلى يهودية قريظة، وما تقتضيه من تخصيص.
وكما في أخبار السيرة، كذلك في أخبار الملاحم والفتن إعادة نظر وإيلاء أهمية جديدة. روايات الملاحم والفتن في الموروث الإسلامي متفرقة ومتباعدة وبعيدة عن التجانس. وفي حين أن الشيعة الإمامية قد جعلت من بعض هذه الروايات أصلاً لإيمانها، فإن ذكر الملاحم والفتن، في السياقات السنية والشيعية على حد سواء، يزخر بالتفاصيل المتناقضة حول نهاية العالم. وقد شهدت القرون المتتالية محاولات عديدة لجمع هذه الرويات وتهذيبها والتوفيق بينها، مع بقائها في مجموعها ضمن إطار المتشابه وغير لازم التصديق بالضرورة. على أن القرن الماضي قد شهد ترقية لبعض هذه الروايات إلى ما يقارب المستوجب للإيمان. فمع اقتراب الساعة، يقود المسلمين المهدي، أو المسيح في قدومه الثاني، في معركتهم مع اليهود، ونص الخبر في إحدى صيغه الشائعة «يُقَاتِلَ الْمُسْلِمُونَ الْيَهُودَ فَيَقْتُلُهُمْ الْمُسْلِمُونَ حَتَّى يَخْتَبِئَ الْيَهُودِيُّ مِنْ وَرَاءِ الْحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولُ الْحَجَرُ أَوْ الشَّجَرُ يَا مُسْلِمُ يَا عَبْدَ اللَّهِ هَذَا يَهُودِيٌّ خَلْفِي فَتَعَالَ فَاقْتُلْهُ إِلَّا الْغَرْقَدَ فَإِنَّهُ مِنْ شَجَرِ الْيَهُودِ».
ومن الصعب تقييم مدى قبول هذا الخبر كجزء من الإيمان في الأوساط الإسلامية، على أنه دون شك استقر في صدارة الترسانة الخطابية التي يجري استدعاؤها في الحديث العقدي أو السياسي عن اليهود. فهذا الحديث، كما خبر نكبة بني قريظة، قد ارتقى من هوامش الموروث النصي إلى موقع بارز في العقيدة الدينية المستجدة بشأن اليهود.
دفعت الشيطنة المتصاعدة والمرسلة دون ضابط والتي تطال اليهود ضمن العقيدة الدينية الإسلامية في القرن الماضي باتجاه «تتريخ» القصص القرآني، أي إعادة قراءته على أنه تاريخ وقائعي، بما يثري المادة السلبية الهادفة إلى إدانة اليهود كمجموع. وفي حين أن العلماء الغربيين قد جنحوا إلى قراءة تعبيرية للكتاب المقدس، رغم أسلوبه الزاعم للحقائق الوقائعية، فإن معظم المفكرين المسلمين، إلى قدر يلامس الإجماع، قد ساروا بالاتجاه المعاكس، من خلال تتريخ القصص الديني وافتراض حقيقته الوقائعية رغم أسلوبه الرمزي. وعليه فـ «اليهود» في المتداول الثقافي العربي اليوم هم بالتالي «قتلة الأنبياء» و «أحفاد القردة والخنازير»، وفق اشتقاق حر من النص القرآني.
على أن هذا الدمج بين القصص الديني والتسلسل التاريخي يضع أمام المفكرين المسلمين إشكالية خطيرة. فإذا كانت المساحة المخصصة لبني إسرائيل وليهود يثرب في النص القرآني استدعاء لوقائع تاريخية وليس تأطير لعبر عامة، فإن القرآن يمسي كتاباً قدر كبير منه موضوعه اليهود. والاهتمام المرتفع للمفكرين المسلمين بمسألة اليهود في القرآن هو انعكاس لهذا الوضع الغريب المستوجب للتفسير والتبرير.
والنتيجة هي أن المفكرين المسلمين، علماءهم كما عموم كتّابهم، قد انخرطوا بفعل شيطنة متصاعدة لليهود تهدف إلى تفسير المساحة الواسعة التي يخصصها لهم القرآن. فما المعلوم باللزوم في أوساطهم هو أن النص القرآني، التنزيل الأخير الخاتم للقول الإلهي، هو التعبير المطلق عن الحكمة الإلهية. وعليه فإن وفرة الإشارات إلى اليهود في النص المقدس هي دليل ساطع على أهميتهم في التاريخ الإنساني. وما يطالهم في النص من تثليب متواصل وإدانة مستمرة يمسي إثباتاً للشر الكامن بهم. ووفق هذا المنظور، مع تسطيح العبر والقصص إلى تاريخ مفترض، ليس القرآن كتاباً موضوعه اليهود، بل هو توجيه إلهي لمعاداتهم. ومن خلال زعم التحليل النصي للقرآن، يدعي بعض أصحاب هذه القراءة المنشغلة باليهود الكشف عن «بيان إلهي» يلزم المؤمنين بقتال اليهود حتى تقوم الساعة.
والحكم العقدي القائل بأن اليهود شر مطلق مستحق لقياس خاص عند اعتباره ينتج مواقف لا تقتصر على النظرية. حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، كان في صدارة الشخصيات المعتبرة والمحترمة في العالم العربي، على الأقل إلى أن تورط بالأزمة السورية وفق الأوامر الإيرانية. وفي تموز ٢٠٠٦، تحدّث نصر الله، بكل إجلال وأسى، معتذراً لسقوط الضحايا المدنيين من جراء قصف حزبه العشوائي لبلدات الشمال الإسرائيلي. غير أن اعتذاره كان صريحاً وواضحاً بأن المقصود به هو العرب من المدنيين الإسرائيليين.
أما قتل الإسرائيليين اليهود الأبرياء فليس وصمة على أخلاقيات نصر الله وسمعته. والواقع أنه في الأفعال كما في النوايا المعلنة، لدى حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، بل لدى أنصار الله الحوثيين في معاقلهم البعيدة في اليمن حيث يعلنون في شعارهم الدائم «الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود»، يظهر اليهود كحالة خاصة إذ هم الشر بعينه والذي يتوجب الإزالة والاجتثاث. وغلى الرغم من تطرف تلك السردية، إلا أنها لا تواجه بشكل كاف في الخطاب العربي الأوسع، وإذا تم إفساح المجال لها دون رقابة، فستستمر في تسميم المفاهيم العربية المرتبطة باليهود، ويمكنها حبس المجتمع العربي الأوسع في رواية ترى "اليهود" شرًا وتحديًا للإسلام.