- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3056
مع استعداد واشنطن للانسحاب من سوريا، تتهيأ تركيا للغزو
في 19 كانون الأول/ديسمبر، ذكرت مصادر إعلامية متعددة أن واشنطن تستعد للانسحاب الوشيك لجميع القوات الأمريكية من شرق سوريا. وجاءت التقارير بعد تصريحات أدلى بها الرئيس رجب طيب أردوغان قبل يومين من كتابة هذه السطور، حيث أشار إلى "الرد الإيجابي" للبيت الأبيض على الحملة العسكرية التي تخطط لها تركيا عبر الحدود. وتم الإعلان عن هذه الحملة للمرة الأولى في 12 كانون الأول/ديسمبر، بهدف "تطهير شرق الفرات من الإرهابيين الانفصاليين في غضون أيام قليلة" - وهي الكنية التي يطلقها أردوغان على «حزب الاتحاد الديمقراطي» - الجماعة الكردية السورية التي تشكل عناصرها نواة القوات المدعومة من الولايات المتحدة والتي تقاتل تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش»). وخلال اتصالهما الهاتفي، اتفق ترامب وأردوغان في 14 كانون الأول/ديسمبر "على مواصلة التنسيق لتحقيق أهدافنا الأمنية في سوريا"، على الرغم من أن العديد من المسؤولين الأمريكيين سارعوا إلى [القيام باتصالات] من أجل تجنب التوغل التركي، وفقاً لبعض التقارير.
وفي الوقت نفسه، أدّى نبأ الانسحاب المقرر للولايات المتحدة إلى إطلاق أجراس الإنذار في واشنطن والشرق الأوسط وأوروبا. ونظراً للمشاكل الاستراتيجية العديدة التي يمكن أن تثيرها عملية الانسحاب السريع وواقع عدم اكتمال المهمة الأمريكية، يجب على البيت الأبيض إعادة النظر في قراره ومواصلة العمل نحو تحقيق أهدافه المحددة سلفاً في سوريا.
لماذا الان؟
[يُعتبر] «حزب الاتحاد الديمقراطي» فرعاً من «حزب العمال الكردستاني» التركي - جماعة مصنفة كحركة إرهابية تحارب الحكومة التركية منذ عقود. وجاء إعلان أنقرة عن تنفيذ عمليات وشيكة ضد ميليشيا «حزب الاتحاد الديمقراطي»، أي «وحدات حماية الشعب»، في أعقاب التعليقات الأخيرة لرئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية الجنرال جوزيف دانفورد، الذي ذكر في 6 كانون الأول/ديسمبر أن الولايات المتحدة ستسعى للقيام بمبادرتين رئيسيتين، هما: تدريب 40 ألف مقاتل محلي لتولي مسؤولية الأمن في المناطق التي تم تطهيرها من وحدات تنظيم «الدولة الإسلامية»، وبناء مراكز مراقبة عسكرية أمريكية على طول الحدود السورية - التركية. غير أن هاتين المبادرتين لم تحظيا بالترحيب من قبل أنقرة، التي اعتبرتهما دليلاً على أن واشنطن لا تستجيب للمخاوف الأمنية لتركيا.
إلا أن هناك مصالح كبيرة للولايات المتحدة في مواصلة دعم هذه القوى المحلية. فمنذ أن استولى تنظيم «الدولة الإسلامية» على أكثر من نصف سوريا في عام 2014، ركز نهج الولايات المتحدة الهادف إلى إضعاف الجماعة الإرهابية على إطلاق غارات جوية مستهدفة في حين أخذت «قوات سوريا الديمقراطية» بقيادة الأكراد على عاتقها القتال على الأرض. ويشكل مقاتلو «وحدات حماية الشعب» غالبية «قوات سوريا الديمقراطية» وهم أكثر الشركاء العسكريين الأمريكيين قدرة في سوريا. ولطالما أثار قرار الولايات المتحدة بدعم «وحدات حماية الشعب» وتدريبها وتجهيزها غضب تركيا، لا سيّما عندما بدأت هذه الجماعة في إقامة حزام سيطرة خاص بها في المناطق الحدودية المحررة من تنظيم «الدولة الإسلامية». وعندما جدد «حزب العمال الكردستاني» هجماته في تركيا في عام 2015، قامت أنقرة بغزو أجزاء من سوريا لتفكيك المناطق الخاضعة لسيطرة «وحدات حماية الشعب»، وعرقلة الملاذ الآمن المتصوّر لـ «حزب العمال الكردستاني» هناك.
ومن أجل حماية أولويتها المتمثلة في إلحاق الهزيمة بتنظيم «الدولة الإسلامية» بالكامل مع تهدئة مخاوف الأمن التركية، قامت الولايات المتحدة بتعزيز "نموذج منبج" في الأشهر الأخيرة. ويتوخى النموذج نقل إدارة المناطق التي تحكمها «وحدات حماية الشعب» غرب الفرات إلى سكان محليين آخرين (خاصة العرب والأكراد غير المنتمين إلى «وحدات حماية الشعب») بينما يتم إقامة دوريات عسكرية مشتركة بين الولايات المتحدة وتركيا في المنطقة. وقد أمل المسؤولون الأمريكيون أن تكون هذه المقاربة بمثابة آلية تهدف إلى بناء الثقة من أجل منع العمليات التركية شرق نهر الفرات، الأمر الذي من شأنه أن يهدد القوات الأمريكية و«قوات سوريا الديمقراطية»، فضلاً عن زخم الحملة غير المكتملة ضد فلول تنظيم «الدولة الإسلامية». ومع ذلك، فشلت الآلية حتى الآن في استرضاء أنقرة، مما دفع هذه الأخيرة إلى إصدار تحذير أخير حول تدخلها المباشر في الشرق.
ما هو على المحك؟
سيكون من الخطأ أن تنسحب أمريكا من سوريا بشكل متسارع: فتنظيم «الدولة الإسلامية» لم يُهزم على نحو مستدام، وإيران ووكلاؤها ما زالوا نشطين في سوريا، كما أن [إطلاق] عملية سياسية لإنهاء الحرب لم تترسّخ بعد. وإذا كانت الإدارة الأمريكية تسعى حقاً إلى تحقيق أهدافها المعلنة هناك، فعليها أن تبادر فوراً إلى تنفيذ مسار بديل لإجراءاتها المتخذة، وإلاّ، فإنها لا تخاطر فقط بتعريض مصلحة الولايات المتحدة على المدى القريب فيما يتعلق بإحلال الاستقرار في جزء رئيسي من الشرق الأوسط، بل تلحق الضرر أيضاً بسمعة أمريكا على المدى الطويل. وعلى وجه التحديد، فإن الخروج أو الدخول المحتمل للقوات الأمريكية والتركية من شرق سوريا وإليها على التوالي سيؤثر على المصالح الرئيسية التالية:
- حماية القوات الأمريكية. إذا بدأت تركيا عملياتها قبل الانسحاب الأمريكي المقترح، فستكون القوات الأمريكية البالغ عددها 2000 جندي في المنطقة مباشرة في خط النار - ولا سيما تلك المشارِكة مع «قوات سوريا الديمقراطية» أو التي تدير عدداً محدوداً من مراكز مراقبة الحدود الأمريكية الحالية. وقد أشارت أنقرة إلى رغبتها في تنسيق عملياتها مع واشنطن، لكنّ الخطر سيبقى جدّياً بالنظر إلى وقائع القتال. وقد سبق وأن حذّر مسؤولون في البنتاغون من أنّ إجراءاً تركياً أحادي الجانب قد يشكّل خطراً "غير مقبول" على القوات الأمريكية.
- هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية». يبقى تنظيم «داعش» الأولوية القصوى للولايات المتحدة في سوريا، كما صرّح الرئيس ترامب ومسؤولون آخرون في الإدارة الأمريكية مراراً وتكراراً، ولكنّ المهمة غير مكتملة وقد تفشل كلياً إذا تم تنفيذ الخطط المعلنة حديثاً. وقد يؤدّي توغّل تركي إلى إرغام العديد من مقاتلي «وحدات حماية الشعب» على تحويل جهودهم بعيداً عن القتال ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، الأمر الذي قد يعرّض مسار التقدّم الأخير [ضد التنظيم] لخطر الانتكاس. وإذا لم تتواجد القوات الأمريكية للحفاظ على تركيز «قوات سوريا الديمقراطية» على إنهاء القتال، فسيتم بشكل فعال إسناد عملية مكافحة الإرهاب في شرق سوريا إلى تركيا وشركائها المحليين، أو حتى إلى نظام الأسد ومناصريه. وسيضمن خيار الأسد دعم العرب السنة المتجدد للجماعات المتطرفة العنيفة، والذي يُحتمل أن يؤدّي إلى نسخة جديدة من تنظيم «الدولة الإسلامية». ومع ذلك، فإنّ استمرار سيطرة «وحدات حماية الشعب» في الشرق ليس مستداماً أيضاً، لأنّ السوابق الأيديولوجية اليسارية لهذه الجماعة والهوية القومية الكردية غير مقبولة للعرب السنة المحافظين الذين يشكلون غالبية السكان في الشرق. وبالتالي، فقد يكون توسيع نموذج منبج للسيطرة المحلية والدوريات الأمريكية -التركية الوسيلة الوحيدة لحرية التحرك بين هذين الخيارين السيئين.
- إنهاء الحرب. تملك الأطراف حالياً فرصة ضئيلة للمضي قدماً في عملية سياسية تنهي الحرب، وتفسخ التحالف بين الأسد وإيران، وتضع حدّاً لوحشية النظام ضد الشعب السوري، كما أكّد ذلك المبعوث الأمريكي لسوريا جيمس ف. جيفري في 17 كانون الأول/ديسمبر. وتتطلب عملية الإصلاح الدستوري التي أقرّها جيفري والأمم المتحدة تركيز جميع أصحاب المصلحة الخارجيين على جهد دبلوماسي فريد، ولكنّ التوغل التركي قد يعيق الاتجاه نحو طاولة المفاوضات، ويمنح الأسد وروسيا وإيران مبرّرات لرفض المحادثات التي تهدف إلى إنهاء الحكم الاستبدادي للأسد بمرور الوقت.
- إصلاح العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا. أدّى تحرير القس بيتر أندرو برونسون في تشرين الأول/أكتوبر إلى منح إدارة ترامب فرصة أخرى لتخفيف حدّة التوتر في العلاقات الثنائية المشحونة في كثير من الأحيان. وتشمل نقاط التوتّر الأخيرة شراء أنقرة لأنظمة الدفاع الجوي الصاروخية الروسية المضادة للطائرات من طراز "إس-400"، والتي إذا ما استُكملت، ستؤدي إلى فرض عقوبات من قبل الولايات المتحدة وتهدّد مكانة البلاد في برنامج "إف-35"، وربما حتى في "حلف شمال الأطلسي". وقد تسبّب احتجاز تركيا المستمرّ لموظفي السفارة الأمريكية من الأمريكيين والأتراك في وقوع احتكاك كبير أيضاً. ومن المحتمل أن تؤدي العمليات التركية المحتملة في شرق سوريا إلى تفاقم هذه التوتّرات.
سيناريو الانسحاب السريع
بدلاً من المخاطرة بالتقاتل بين حلفاء "الناتو"، يبدو أنّ واشنطن تستعد لانسحاب فوري وشامل. وفي هذا السيناريو، سيتم تقويض المهمة الرئيسية للولايات المتحدة المتمثلة في دحر تنظيم «الدولة الإسلامية»، وهو الأمر بالنسبة للفائدة الثانوية الكامنة في منع تحرك إيران ووكلائها في شرق سوريا.
وبعبارة أخرى، يجب على البيت الأبيض أن يفهم أن عنصراً رئيسياً في سياسته تجاه إيران معرّضاً للخطر هنا: وتحديداً، الجهد المبذول لمنع إيران من ترسيخ نفسها في سوريا، وإقامة جسر بري إلى لبنان، والتهديد المباشر لإسرائيل. وعلى هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر، صرّح مستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون أن القوات الأمريكية ستبقى في سوريا إلى أن تغادر إيران وعملائها. وسيتعارض الانسحاب [المزمع] حالياً بصورة مباشرة مع هذا التعهد.
توصيات في مجال السياسة العامة
يجب على المسؤولين الأمريكيين أن يشرعوا في تنفيذ خطة عمل جديدة لشرق سوريا، متجنبين الانسحاب المتسرع مع استخدام جميع عناصر أدوات الأمن القومي لإقناع تركيا بوجود خيارات أخرى إلى جانب الغزو الأحادي الجانب:
- مواصلة دعم نموذج منبج. يجب على الجيش الأمريكي تسريع نقل المسؤولية في منبج من «وحدات حماية الشعب» إلى السكان المحليين، ثم البدء في التخطيط المشترك مع تركيا لتنفيذ هذه الآلية نفسها شرق الفرات، مع الأخذ بعين الاعتبار الدروس المستفادة من الدوريات المشتركة في غرب سوريا. ومن شأن هذا التخطيط أن يبطئ الزخم نحو التصرف التركي الأحادي الجانب والانسحاب الأمريكي السريع. ومن المرجح أن يرحّب المسؤولون الأتراك بهذه المقاربة، حيث أن «حزب العدالة والتنمية» الذي يتزعمه أردوغان يواجه منافسة شديدة في الانتخابات المحلية التي ستجري في 31 آذار/مارس. وبحكم الأمر الواقع يتنافس الحزب في تحالف مع فصيل قومي تركي متشدد، لذا فإن تحقيق تقدم على المدى القريب بشأن القضية الكردية هو أمر بالغ الأهمية. وحتى لو لم يؤد تصدير نموذج منبج إلى الشرق إلى قيام «وحدات حماية الشعب» بعمليات انسحاب فورية، فمن المحتمل أن يكون كافياً لأردوغان لكي يحوّل هذه الواقعة إلى نصر ضد الحليف السوري لـ «حزب العمال الكردستاني»، مما يعزز الفرص الانتخابية لائتلافه.
- التحدث إلى تركيا بشأن مستقبل الأكراد السوريين. صرّح السفير جيفري بأنّ سياسة الولايات المتحدة لا تتوخى إقامة شراكة مع جهات غير حكومية على المدى الطويل - في إشارة واضحة لأنقرة بأنّ شراكة واشنطن الوثيقة مع «وحدات حماية الشعب» هي مؤقتة. لقد حان الوقت الآن لأن يبدأ المسؤولون الأمريكيون حواراً منظّماً وموضوعياً مع تركيا حول وضع نهائي مقبول للطائفة الكردية السورية داخل الدولة السورية.
- كسب الوقت للعملية السياسية. يجب منح عملية الإصلاح الدستوري السوري فرصة للنجاح. كما ينبغي على واشنطن أن تنسّق بسرعة مع الحكومات والمنظمات الأخرى الملتزمة بإنهاء الحرب، وتطلب منها الاتكاء على تركيا ومنع الانحراف الكامل للعملية السياسية.
دانا سترول هي زميلة أقدم في "برنامج جيدلد للسياسة العربية" في معهد واشنطن. سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" ومدير برنامج الأبحاث التركية في المعهد.