- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مع عودة الاحتجاجات في سوريا، يتطلع الكثيرون من السوريين إلى تغيير في السياسة الأمريكية
ستتطلب التطورات الأخيرة من الولايات المتحدة توسيع أهدافها في سوريا وإعادة تقييم نهجها تجاه التحالفات المحلية إذا كانت تأمل في معالجة الإحباط المتزايد في سوريا بشكل إيجابي.
منذ اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011، تتقاتل فصائل متعددة على مستقبل سوريا، فيما يشكل المدنيون الضحايا الرئيسيين. ولكن خلال الشهر الماضي، تغيرت الديناميكيات التي يفترض أنها راسخة في سوريا بشكل ملحوظ، سواء داخل المناطق التي يسيطر عليها النظام أو بين مناطق الإدارة الذاتية المدعومة من الولايات المتحدة. وفي الحالتين، يأمل الكثير من السوريين في أن تستخدم الولايات المتحدة هذه النافذة لإعادة تقييم مشاركتها في النزاع.
يدرك السوريون جيدًا أن سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا تقلبت مرارًا وتكرارًا على مر السنين. فمن ناحية، أدان الخطاب الأمريكي النظام بشدة، بدءًا من إعلان الرئيس السابق، باراك أوباما، أن استخدام الأسلحة الكيميائية سيشكل "خطًا أحمر"، أو نعت ترامب للأسد بالحيوان بعد الهجوم الكيميائي الذي شنه على المدنيين. ولكن في أماكن أخرى، أفادت واشنطن بوضوح أنها لا تريد تغيير النظام، على الرغم من كونها داعمة أساسية لقرار مجلس الأمن رقم 2254 الصادر في عام 2015، الذي دعا بشكل لا لبس فيه إلى "انتقال سياسي"، وكانت الولايات المتحدة أحد الموقعين عليه.
ومع استمرار الحرب، تغيّرت مواقف مجموعة "أصدقاء سوريا"، المكونة بمعظمها من دول غربية وخليجية داعمة للمعارضة والتي تأسست في الأيام الأولى للثورة. فقد قام بعض أشرس القادة المعارضين للأسد في الماضي بإعادة إحياء علاقاتهم مع النظام وعملوا على إعادة مكانته الدولية، سواء علنًا أو خلف الأبواب المغلقة. وساعدت أنظمة عربية مختلفة سوريا على العودة إلى "جامعة الدول العربية" وعمدت إلى تطبيع العلاقات الدبلوماسية معها. وسرعان ما اتضح أن النظام لن يستوفي الشروط المسبقة المتوقعة لهذا التطبيع، إلا أن هذا الترحيب بعودة الأسد إلى الحضن العربي كان بمثابة ضربة ساحقة لجماعات المعارضة.
وأدى تردد الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في التحرك إلى استمرار الحرب الأهلية السورية من دون إيجاد أي حل لها. وفي السنوات اللاحقة، وفّر غياب الإجراءات الحاسمة فرصة للنظام ومكّنه، بمساعدة حلفائه، من الانتشار في المناطق التي حررتها سابقًا قوات المعارضة. ففي مراحل معينة من النزاع، فقد النظام سيطرته على ما يقارب 75 في المئة من الأراضي السورية. لكن تدفق الدعم الروسي والإيراني للأسد أدى إلى تراجع حظوظ المتمردين وسمح للنظام بإعادة فرض سيطرته على جزء كبير من البلاد. واليوم، حل اليأس والإرهاق إلى حد كبير محل تطلعات الشعب السوري إلى دولة ديمقراطية مدنية.
في الواقع، لم يعد هناك خطاب وطني حول هدف سياسي واضح للدولة السورية بعد الأسد، بل تحولت المعارضة بأشكالها المختلفة من كونها الممثلة المفترضة للشعب السوري إلى المتحدثة باسم أي جهة تموّل جماعة معينة، ويحدد أجندتها الداعمون الماليون في المقام الأول بناءً على مصالحهم الخاصة. ومع ذلك، تؤكد الاحتجاجات في جميع أنحاء البلاد أنه ما زال هناك من يأمل في تحقيق هذا الحلم الأولي أو من يشعر بالإحباط من الوضع الراهن بما يكفي لينتفض على الرغم من غياب الدعم الدولي.
وفي حين أن النظام السوري يوحي بالهدوء والسيطرة، تشير التطورات داخل المناطق السورية الخاضعة لسيطرة النظام إلى تحولات كبيرة في طبيعة النزاع. ومن اللافت أن الاحتجاجات السلمية في الجنوب التي بدأت في منتصف آب/أغسطس استمرت وتوسعت خلال الشهر والنصف الماضيين، لا سيما في المدن والمناطق المحيطة بدرعا والسويداء. هذه منطقة درزية بشكل رئيسي، وقد أشار أحد الزعماء الروحيين الرئيسيين، شيخ عقل الطائفة الدرزية حكمت الهجري، إلى أن "الشيء الأساسي هو ضبط النفس، ولن نتخلى عن مطالبنا السلمية"، فالشارع معنا… [سنبقى] يومًا أو يومين أو شهرًا أو سنوات." وقد أغلق المتظاهرون السلميون مقرات حزب "البعث" في جميع أنحاء المحافظة وأسقطوا تماثيل حافظ الأسد. تتواصل الاحتجاجات وتستمر بالنمو يومًا بعد يوم. وبينما شهدت درعا والسويداء كذلك احتجاجات متقطعة في السنوات الماضية، تشير استمرارية هذه الاحتجاجات ومشاركة القيادة الدرزية فيها إلى مقاومة من نوع آخر للنظام هذه المرة.
وبالتزامن مع ذلك، تشهد مناطق الإدارة الذاتية في شمال شرق سوريا حراكًا قبليًا بقيادة شيخ قبيلة العقيدات، ابراهيم جدعان الهفل. ويعزو عدد من المنضمين إلى الحراك سبب قتالهم إلى المعاملة التمييزية التي تمارسها "قوات سوريا الديمقراطية" ("قسد") ضد العرب. ففي هذه المنطقة من سوريا، يشكل العرب أكثر من ثمانين في المئة من السكان، وتستشري الشكاوى ضد "قسد" لدى الكثير من السكان المحليين. وتشمل اتهاماتهم فساد هذه القوات، واحتكارها لموارد النفط والحبوب في المنطقة، وتقارير متفرقة عن اختطاف الأطفال على يد "الشباب الثوري"، وهو جناح شبابي لـ"حزب العمال الكردستاني"، لتجنيدهم في هذه المنظمة الاحتياطية. وبحسب تقرير للأمم المتحدة، جنّدت "قسد" 637 طفلًا في ميليشياتها قسرًا في عام 2022، ومن بينهم فتيان وفتيات دون سن الحادية عشرة. فضلًا عن ذلك، تفيد تقارير متعددة أنها دمرت قرى عربية بأكملها وهجّرت سكانها قسرًا واتهمت السكان المحليين زورًا بالانضمام إلى تنظيم "الدولة الإسلامية" الإرهابي.
انتهت مبدئيًا العمليات العسكرية في قرى ريف دير الزور الشمالي الشرقي في 9 أيلول/سبتمبر، بعد أسبوعين من القتال في أعقاب اعتقال "قوات سوريا الديمقراطية" لأحمد الخبيل (أبو خولة)، قائد مجلس دير الزور العسكري في 27 آب/ أغسطس، لكن القتال استمر خلال الشهر الماضي. وبينما يمكن أن يُعزى جزء من القتال إلى عملية الاعتقال، يركز الخطاب بشق كبير منه على سوء الإدارة في "قوات سوريا الديمقراطية" بحد ذاتها.
حاولت "قسد" تبرير ردها العنيف على الحركة القبلية من خلال توجيه اتهامات ضد عدة قبائل، مفادها أن الحركة بأكملها مدعومة من أبو خولة أو تركيا أو إيران. والمفارقة الكبرى هي أن أبو خولة، المنبوذ محليًا بسبب سمعته الفاسدة وسوء معاملته للمدنيين، وصل إلى السلطة بفضل "قوات سوريا الديمقراطية" التي عينته قائدًا للمجلس. وقد طالب زعماء العشائر في مناسبات متعددة بإقالته من منصبه ومحاكمته.
كما أن تصنيف "قوات سوريا الديمقراطية" للقبائل العربية كداعمة للإرهاب له تأثير عميق في مجتمع دير الزور. قبل سنوات، شكّلت هذه القبائل أولى أهداف تنظيم "الدولة الإسلامية" الذي قتل الآلاف من أبنائها أو هجرهم قسرًا، ودمر منازلهم. وكذلك، كانت القبائل العربية على الخطوط الأمامية في المعركة ضد التنظيم الإرهابي، وشكّلت مقاومتها العامل الرئيسي في طرده والقضاء عليه. وبالتزامن مع ذلك، تتهم "قسد" الحراك القبلي بالتعاون مع الميليشيات الإيرانية وقوات نظام الأسد على الضفة اليمنى لنهر الفرات. وفي حين تفيد أيضًا تقارير مستقلة عن سعي قوات النظام والقوات الإيرانية إلى الاستفادة من الحركة، أنكرت القبائل بحد ذاتها هذه الادعاءات، واتهمت في الوقت عينه "قوات سوريا الديمقراطية" بالاعتراف بالنظام والتعاون معه.
لسنوات، أثبتت "قوات سوريا الديمقراطية" ذاتها كقوة قتالية فعالة ضد كل من النظام وتنظيم "الدولة الإسلامية"، واعتبرت الولايات المتحدة تحالف الأكراد والعرب والجماعات الأخرى بمثابة رصيد عسكري كبير. ولكن على ضوء الاشتباكات بين الحلفاء السابقين، ينتظر الكثير من السوريين بفارغ الصبر إجراءات الولايات المتحدة. فواشنطن قادرة على وضع حد لموجة العنف هذه بشكل حاسم، سواء من خلال التوسط بين "قسد" وزعماء العشائر أو الضغط من أجل حكم أفضل من جانب "قسد."
مقارنة أقوال واشنطن بأفعالها
على الرغم من هذه التطورات المثيرة للقلق في جميع أنحاء سوريا، يعتبر السوريون أن الإدارة الأمريكية لا تزال تتردد في الاضطلاع بدورها في المنطقة. ويؤكد المسؤولون الأمريكيون أن المهمة العسكرية في سوريا لم تتغير وأن سوريا لا تزال مهمة في الحرب ضد تنظيم "الدولة الإسلامية." ويبدو أن اهتمام الكونغرس بسوريا قد أثير من جديد، مع إشادة جو ويلسون، رئيس اللجنة الفرعية لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى في مجلس النواب الأمريكي، في البداية بالاحتجاجات السلمية في جنوب سوريا، وغرد قائلًا إن هذه التظاهرات "ضد الأسد الوحشي ألهمت العالم" وأن "سوريا ليس لديها مستقبل ولن تستقر أبدًا في عهد الأسد." كما تحدث مؤخرًا، إلى جانب شخصيتين في الكونغرس، مع الشيخ حكمت الهجري عبر الهاتف. وكذلك، في أواخر آب/أغسطس، قام وفد من الكونغرس الأمريكي مؤلف من ثلاثة أشخاص، من بينهم النائب الجمهوري فرينش هيل، بأول زيارة له إلى شمال غرب سوريا منذ ما يقارب عشر سنوات، وعقد اجتماعات مختلفة مع منظمات المجتمع المدني في شمال غرب سوريا.
محليًا، شملت الشائعات أيضًا توقع نشاط عسكري أمريكي، بما في ذلك إمدادات عسكرية إضافية للقوات الأمريكية في سوريا والعراق وإعادة انتشار القوات على طول المناطق الحدودية مع العراق. وقد فاجأ ذلك الكيانات المنافسة في سوريا، التي رأت في هذه التصرفات مقدمة لعمل عسكري أوسع يهدف إلى طرد إيران و"قوات الحشد الشعبي" من المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق وتعطيل طرق الإمداد بين طهران وبيروت.
وأفادت صحيفة "الوطن" الموالية للنظام أن القوات الأمريكية في قاعدة عين الأسد الجوية في محافظة الأنبار غربي العراق كانت تخطط لإغلاق الشريط الحدودي مع سوريا، زاعمةً أن القوات الأمريكية زودت "إرهابيين" في محيط التنف بمواد كيميائية ودرّبتهم من أجل فبركة حادثة أسلحة كيميائية يمكن إلقاء اللوم فيها على النظام السوري. وزعمت الصحيفة أن ذلك يندرج ضمن جهود واشنطن المستمرة الرامية إلى استغلال "قضية الأسلحة الكيميائية" لخدمة أجندتها الخاصة.
ستتطلب هذه التطورات من الولايات المتحدة توسيع أهدافها في سوريا وإعادة تقييم نهجها تجاه التحالفات المحلية إذا كانت تأمل في معالجة الإحباط المتزايد في سوريا بشكل إيجابي. وفي المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، يشكل وجود الأسد تهديدًا ليس للشعب السوري فحسب، بل للدول المجاورة أيضًا. فسوريا هي مورّد الكبتاغون للأسواق الخليجية والأوروبية ومهربة الأسلحة إلى لبنان والأردن. وفي غضون ذلك، لا تزال الظروف المعيشية داخل سوريا صعبة للغاية، إذ يعيش 90 في المئة من السكان في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام تحت خط الفقر، وقد انخفضت قيمة الليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي لتبلغ 15000.
سيكون عمل التحالف الدولي أكثر نجاحًا إذا تمكن من ربط منطقة التنف بالمناطق المحررة على الضفة اليسرى لنهر الفرات. وفي المستقبل، يمكن تطبيق هذه الاستراتيجية على السويداء ودرعا وحتى الجولان. فمن شأن هذه الحملة أن توفر فرصة لتضييق الخناق على الميليشيات الإيرانية التي تعمل بثبات على تدعيم جهودها في سوريا، وقطع خط الإمداد إلى "حزب الله" في لبنان.
وفي ما يتعلق بمناطق "قوات سوريا الديمقراطية"، تُعقد الآمال على أن تكثّف الولايات المتحدة جهودها لتعزيز الحكم الذي يلبي الاهتمامات والاحتياجات المحلية بشكل أفضل. وعلى الرغم من إحجام الولايات المتحدة عن تعديل استراتيجيتها في سوريا بشكل ملحوظ، يتوقع المتفائلون من بين السوريين أن تتطور مواقف الولايات المتحدة من سوريا وانخراطها في الملف السوري في المستقبل. وبغض النظر عن نتيجة القتال الحالي، لن تتمكن الحلول السطحية قصيرة المدى من حل الأزمة بين قبائل الفرات و"قوات سوريا الديمقراطية." ولا بد من معالجة المطالب المشروعة لسكان هذه المنطقة بالسرعة اللازمة.
يأمل الكثير من السوريين أن يكون هذا الحراك الجديد داخل البلاد بمثابة جرس الإنذار الذي تحتاجه الإدارة الأمريكية لإعادة النظر بسرعة في خططها الاستراتيجية وتوسيع نطاق انخراطها في سوريا. فعليها الاستفادة إلى أقصى حد من هذه التحولات وإعادة النظر في تحالفاتها المحلية داخل سوريا، بالإضافة إلى متابعة التنسيق مع الجهات الفاعلة الرئيسية في سوريا اليوم، مثل تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر. ومن شأن اتباع نهج متماسك وشامل لحل النزاع في سوريا أن يقطع الطريق على احتمال إعادة نشوب نزاع آخر في سوريا.