
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4028
ما بين إسرائيل وتركيا: التداعيات على سوريا الجديدة (الجزء الثاني)

يُناقش خبير تركي ومسؤول عسكري إسرائيلي سابق تطلعات الحكومتين التركية والإسرائيلية في سوريا، وسبل معالجة أبرز نقاط التباين بينهما، والدور المحتمل الذي يمكن أن تضطلع به إدارة الرئيس دونالد ترامب في التوسط لإنجاح هذه العملية.
في التاسع من نيسان/أبريل، عقد معهد واشنطن منتدى سياسياً افتراضياً مكوناً من جزأين، شارك في الجلسة الثانية كل من سونر چاغاپتاي وعساف أوريون . چاغاپتاي هو زميل أقدم في زمالة "باير فاميلي" في المعهد، ومدير برنامج الأبحاث التركية، ومؤلف الورقة الأخيرة الصادرة عن المعهد بعنوان "البناء على الزخم في العلاقات الأمريكية - التركية". أما أوريون فهو زميل "روفين الدولية" في المعهد، وزميل أبحاث أقدم في "معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي"، والرئيس السابق لقسم التخطيط الاستراتيجي في "جيش الدفاع الإسرائيلي". وفيما يلي ملخص المقرر لملاحظاتهما. أقراء ملخص الجلسة الأولى مع مايا جبيلي.
سونر چاغاپتاي
من الناحية المثالية، ينبغي أن تُدرك كل من تركيا وإسرائيل الفوائد الاستراتيجية التي يُمكن أن تُقدمها إحداهما للأخرى. فمن جهة، نجحت إسرائيل في تقويض نفوذ "حزب الله" بشكل كبير، وهو من أبرز الجماعات التي وفرت دعماً لنظام بشار الأسد خلال الحرب الأهلية. وفي العام الماضي، ومع تراجع دور "حزب الله" في لبنان، استغلت أنقرة هذا الانحسار في دعم الحزب للأسد، فعززت دعمها لـ"هيئة تحرير الشام" في مسعاها للإطاحة به. وفي المقابل، تجني إسرائيل ثمار إبعاد إيران عن الساحة السورية، ما أنهى عقوداً من الهيمنة التي فرضتها طهران على الجبهة الشمالية لإسرائيل.
ومع ذلك، لدى تركيا وإسرائيل أيضاً رؤى مختلفة لمستقبل سوريا، مدفوعة بمصالحها الوطنية ومخاوفها الأمنية. ففي السنوات الأخيرة، استفادت كيانات مثل تنظيم "الدولة الإسلامية" و"وحدات حماية الشعب" الكردية من حالة اللامركزية التي تشهدها سوريا، الأمر الذي تعتبره أنقرة تهديداً لها. إلى جانب ذلك، تستضيف تركيا نحو أربعة ملايين لاجئ سوري، ما يفرض ضغوطاً داخلية متزايدة بفعل تنامي الخطاب المعادي للمهاجرين، خاصة من قبل الأحزاب القومية. وفي حال بدأت سوريا تشهد استقراراً في ظل الحكومة الجديدة، فقد يعود بعض هؤلاء اللاجئين إلى ديارهم.
على المدى القصير، ترغب أنقرة في أن تعيد "هيئة تحرير الشام" تمركزها داخل سوريا بما يسهم في تحسين الوضع الأمني. أما على المدى الطويل، فيطمح المسؤولون الأتراك إلى تحويل سوريا من جارٍ مثير للمشكلات إلى شريك إقليمي. في المقابل، تبقى إسرائيل متحفظة تجاه "هيئة تحرير الشام"، إذ تشكك في نواياها وتخشى من إعادة تموضعها السريع كقوة مهيمنة في البلاد. وبالتالي، تنظر إسرائيل إلى أي تحالف طويل الأمد بين تركيا وسوريا باعتباره مصدر قلق استراتيجي.
من جهتها، يمكن للولايات المتحدة أن تضطلع بدور حاسم في رأب الصدع بين الجانبين، لا سيما إذا استثمر الرئيس ترامب علاقاته الوثيقة بكل من رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو والرئيس رجب طيب أردوغان لتيسير الحوار بينهما، بل وربما إحداث انفراجه في العلاقات. ورغم تمكن كل من إسرائيل وتركيا من تجنب مواجهة عسكرية حتى الآن، فإن التوترات قد تتصاعد بسبب الملف السوري. ومن أجل تعزيز فرص التهدئة، ينبغي على إدارة ترامب أن تُشجع الحكومتين على مواصلة الحوار وتفادي التصعيد، مع التأكيد على أن تركيز الولايات المتحدة يجب أن ينصب على مصالحها الاستراتيجية الأوسع، مثل التصدي للصين ومنافسة القوى العظمى الأخرى. وقد يكون من بين السيناريوهات الممكنة التوصل إلى ترتيب تفاوضي تُجيز من خلاله الحكومة المركزية في دمشق لإسرائيل تحييد بعض التهديدات داخل سوريا عند الضرورة، وذلك بالتنسيق مع كل من تركيا والولايات المتحدة.
تعتمد الدبلوماسية الناجحة أيضاً على تجنب خلط إسرائيل بين تركيا وإيران. فرغم الخطاب الناري الذي تتبناه أنقرة تجاه القدس خلال فترة الحرب على غزة، حرص الرئيس رجب طيب أردوغان على عدم قطع العلاقات الثنائية مع إسرائيل. فهو يُدرك أن تركيا لا يمكن أن تُعتبر لاعباً إقليمياً أو دولياً جاداً ما لم تنخرط في علاقات نشطة مع مختلف الأطراف. كما يُدرك أن بناء علاقات قوية مع إدارة ترامب يعتمد جزئياً على إبقاء العلاقات مع إسرائيل في مسار إيجابي.
ومن هذا المنطلق، ينبغي النظر إلى أردوغان من خلال عدستين: الشعبوية والبراغماتية (الواقعية). فخطابه الشعبوي، الذي يتسم أحياناً بالعداء تجاه إسرائيل، يُخاطب مخاوفه الداخلية، ويهدف على سبيل المقال إلى استرضاء قاعدته المحافظة، ومعالجة الاقتصاد المتعثر، وخوض معاركه في الساحة الثقافية التركية .ومع ذلك، فإن جانبه الواقعي لا يزال يستحضر الدرس الذي خلفته حادثة أسطول "مافي مرمرة" عام 2010: لا تقطع العلاقات مع إسرائيل أبداً. بناءً على هذا النهج البراغماتي، وافق أردوغان الواقعي على إنشاء آليات أولية لتسوية النزاع في سوريا.
ومن شأن تحقيق الاستقرار في سوريا أن يخدم المصلحة المشتركة لإسرائيل وتركيا في منع النفوذ الإيراني، وهو هدف استراتيجي رئيسي تسعى إليه الولايات المتحدة. وبناءً عليه، ينبغي على الرئيس ترامب أن يعمل على تسهيل عقد لقاء بين نتنياهو وأردوغان، بهدف تعزيز التعاون بين الطرفين، وإظهارهما كجارتين إقليميتين تتحملان، بحكم الواقع، مسؤولية مشتركة في تعزيز أمن بعضهما البعض.
ورغم أن "هيئة تحرير الشام" لا تُعد ذراعاً مباشراً لتركيا، إلا أن أنقرة تحتفظ بنفوذ ملموسٍ عليها، وتُدرك دمشق أن تحقيق الشرعية الدولية وتخفيف العقوبات سيعتمد إلى حد كبير على دور الوساطة التركي. كما ينبغي على ترامب وأردوغان الاعتماد على أدوات الدبلوماسية الناعمة القوية بشكل استراتيجي. كما يجب على المسؤولين التفكير ملياً في كيفية دمج الأكراد والدروز وسائر الأقليات ضمن إطار حكومة مركزية سورية. إن اعتماد نهج ذكي في هذا السياق من شأنه أن يُمكّن هذه المجتمعات من الانخراط في الحياة السياسية، بما في ذلك حق الترشح والمشاركة في الانتخابات.
وعندما يلتقي الرئيس ترامب بالرئيس أردوغان مجدداً، ينبغي أن يركزا على ممارسة ضغط مشترك على الحكومة السورية الجديدة من أجل اتخاذ الخطوات التالية:
- ضمان ألا تعود سوريا مصدراً للتهديدات الجهادية ضد الولايات المتحدة أو حلفائها، بما في ذلك إسرائيل.
- تفكيك جميع القدرات المرتبطة بالأسلحة الكيميائية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى.
- إشراك فصائل الأقليات والنساء في العملية السياسية والحكم.
- تطبيع العلاقات مع الدول المجاورة.
وفيما يتعلّق بالنقطة الأخيرة، يمكن لتركيا أن تلعب دوراً مهماً في تسهيل اعتراف دبلوماسي سوري محتمل بإسرائيل. ورغم أن هذا المسار سيكون مهمة شاقة تتطلب مفاوضات دقيقة بشأن مناطق خفض التصعيد ومناطق النفوذ، فإن التوصل إلى اعتراف رسمي بإسرائيل من قبل دمشق سيُشكل خطوة كبرى نحو تعزيز أمن إسرائيل ومكانتها الإقليمية في الشرق الأوسط.
أساف أوريون
تنظر كل من إسرائيل وتركيا إلى الملف السوري من زوايا مختلفة، إلا أن الهدف الأهم يبقى في تفادي تحول تضارب المصالح المحتمل بينهما إلى مواجهة عسكرية مباشرة. ومن هذا المنطلق، ينبغي على المسؤولين في البلدين استكشاف سُبل مواءمة مصالحهما بشكل أكثر فعالية.
وتستند السياسة الإسرائيلية الراهنة إلى ثلاثة عناصر رئيسية، غالباً ما تتعارض فيما بينها: المخاوف الأمنية المُتصورة، وصدمة ما بعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، والإحساس الجديد بالقوة والفرص الإقليمية. ففيما يتعلق بالعنصر الأول، تسعى إسرائيل إلى منع ظهور تهديدات مستقبلية سواء على حدودها أو داخل العمق السوري، مثل التهديدات الجوية أو نشاط الميليشيات الوكيلة. وفي سعيها لتحديد الترتيبات الأنسب لمصالحها، ونوعية "الجيران" الذين ترغب في التعامل معهم، تميل إسرائيل إلى عقد مقارنات بين تركيا و"هيئة تحرير الشام" من جهة، وبين إيران و"محور المقاومة" من جهة أخرى، في محاولة لـ"نسخ" تجربتها السابقة وتجنب تكرار التهديدات ذاتها.
وتعتقد إسرائيل أنها قادرة على التعايش مع حكومة سورية مركزية، إلا أنها لا ترى هذا السيناريو مطروحاً في الظرف الراهن. وبدلاً من ذلك، تُبدي إسرائيل استعداداً للعمل مع حكومة أضعف، من خلال إنشاء "مجالات اهتمام أمنية". ولا تسعى إسرائيل إلى إقامة "منطقة نفوذ" بالمعنى السياسي، إذ إن اهتمامها بالشأن السياسي السوري - ناهيك عن فهمه - يظل محدوداً نسبياً.
وفي كلتا الحالتين، يظل التواصل بين جميع الأطراف المعنية هو المفتاح لمنع التهديدات والتعاون على احتوائها عند ظهورها. ولتحقيق هذه الغاية، يمكن لإسرائيل العمل على بناء تفاهمات وظيفية مع كل من الحكومة السورية وتركيا، بما يُمكنهم من التصدي بشكل جماعي لـ"حزب الله" وإيران. وينبغي أن تتضمن هذه التفاهمات قواعد سلوك واضحة، وقنوات اتصال فعالة.
وهناك حاجة ملحة اليوم إلى تطوير أطر جديدة للترتيبات الأمنية في هضبة الجولان. فقد صيغ اتفاق عام 1974 في سياق الحرب الباردة، وكان هدفه الأساسي منع اندلاع حرب تقليدية كحرب عام 1973 بين جيوش نظامية. لكنّ الواقع قد تغير بالكامل الآن، من حيث أنظمة المراقبة، ونطاق الانتشار، وعمق التهديدات، ونوعية الأسلحة، والقوات.
وبالإضافة إلى ضرورة تجنب التصريحات التحريضية المتبادلة، ينبغي على إسرائيل وتركيا والحكومة السورية المقبلة السعي إلى تفادي النزاعات على المستوى التكتيكي. وفي هذا السياق، يظل الحوار هو الوسيلة الأهم، لا سيما في الملفات ذات الاهتمام المشترك، مثل التخلص من الأسلحة الكيميائية، ومراقبة النشاط الروسي، ومنع التسلل الإيراني، وكبح تهريب أسلحة "حزب الله". وستكون كل هذه الجهود أسهل من التوصل إلى توافق على المستوى الاستراتيجي.
وفي المرحلة الراهنة، يرزح جيش الدفاع الإسرائيلي تحت وطأة ضغوط كبيرة، نتيجة جهوده المتواصلة في مواجهة كلٍّ من حماس وإيران. ومن شأن انخراط تركيا وسوريا في العملية أن يُسهم في تخفيف هذا العبء عن إسرائيل، إلى جانب ما يحققه من مصالح أخرى. وبناءً على ذلك، ينبغي على أنقرة والقدس الاجتماع والعمل معاً لإيجاد آليات لحل القضايا التقنية الأكثر قابلية للتقريب، بدءاً من الاحتكاك التكتيكي المحتمل، وصولاً إلى منع التدهور في المجال الجوي الحساس. وفي مراحل لاحقة، يمكن للطرفين الانتقال إلى مناقشة تطلعاتهما طويلة الأمد على المستوى الاستراتيجي.
أعدت هذا الملخص فاطمة صديق. أصبحت سلسلة منتدى السياسات ممكنة بفضل سخاء "عائلة فلورنس" و "روبرت كوفمان".