- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
معالجة انعدام المساواة واليأس اللذين يدفعان بالأكراد إلى الهجرة نحو أوروبا
وحده العمل على حلّ المشاكل الداخلية قد يحقق أمل إقليم كردستان في التصدّي للهجرة غير الشرعية وخسارة معظم رأسماله البشري القيّم.
تحول البحر الأبيض المتوسط الذي كان رمزًا للتجارة والازدهار إلى مقبرة مائية لآلاف المهاجرين التواقين إلى الهرب من الواقع المرير الذي يسود في وطنهم والبحث عن ملاذ آمن في الغرب، ولا سيما في أوروبا. وتُعتبر حادثة انقلاب القوارب المكتظة التي حصلت مؤخرًا وأودت بحياة أكثر من 70 شخصًا – معظمهم من الأكراد – بمثابة تذكير آخر بالتكلفة البشرية المترتبة على هذه الأزمة المستمرة، كما تسلّط الضوء على تنامي أعداد المهاجرين الأكراد إلى أوروبا. ولا شك في أن المشقة الاقتصادية هي من أبرز أسباب هذه الأزمة، إلا أن حصر الهجرة الجماعية الكردية بالعوامل الاقتصادية يقلّل من شأن المشاكل المتجذرة التي تدفع بالأكراد إلى الهجرة بشكل غير نظامي من إقليم كردستان العراق، إذ تفاقمها مجموعة من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تتطلب فهمًا دقيقًا.
وبصفتي لاجئة كردية وصلت إلى المملكة المتحدة في عهد حكومة توني بلير بحثًا عن ملجأ سياسي من الاضطرابات التي كانت تعصف بأرضنا، أفهم جيدًا الارتباك والخوف من البدء من الصفر في أرض غريبة. وتبقى ذكريات الطفولة التي عشتها في إقليم كردستان العراق متشرذمة، مثل مشاهد من فيلم منسي، مجرد لقطات من الفرح والضحك وسط طيف الصراع الحاضر أبدًا. وقد أصبحت هذه اللحظات، السارة منها وغير السارة، محفورة في كياني وجعلت مني الشخص الذي أنا عليه اليوم.
وأصبح المركز المجتمعي المحلي في المملكة المتحدة حبل نجاة يقدّم صفوفًا إلزامية في اللغة لم تكن ضرورية لاندماجنا فحسب، بل شكلت مكانًا لإقامة العلاقات. فهناك التقينا بعائلات أخرى لجأت مثلنا إلى بريطانيا العظمى وتشاركنا القصص، والمخاوف، والأحلام، كما أنشأنا روابط تخطت الحواجز اللغوية. وبفضل القدرة على الصمود والتكيف التي اكتسبتها في طفولتي، نجحت تدريجيًا في إيجاد موطئ قدم لي في هذه الأرض الجديدة. وبعد أن احتضننا هذا المجتمع، تحولت المملكة المتحدة بخطى بطيئة وإنما ثابتة من مكان غريب وغير مألوف إلى موطن عزيز علينا.
والملفت أن هذه الرحلة الشخصية زرعت في نفسي تعاطفًا عميقًا تجاه المهاجرين الذي أُرغموا على ترك كل شيء والرحيل بحثًا عن الأمان وعن حياة أفضل. وأصبح لدي اعتقاد راسخ بأن لا أحد يترك طوعًا الراحة والألفة التي يجدها في وطنه ما لم يكن اليأس قد تملّكه أو أغرته التوقعات غير الواقعية. فغالبًا ما يكون قرار الهجرة الملاذ الأخير ورهانًا يائسًا على مستقبل خالٍ من الخوف واليأس.
على الرغم من عدم وجود إحصاءات رسمية حول الهجرة غير النظامية من إقليم كردستان العراق، إلا أن وسائل الإعلام المختلفة قد تناولت هذه القضية، حيث تشير تقديرات شبكة رووداو الإعلامية إلى أن حوالي 20 ألف شخص هاجروا من العراق وإقليم كردستان العراق في عام 2023. في الوقت عينه، يشير مركز دراسات الشرق الأوسط إلى متوسط سنوي أعلى يبلغ 32,000 شخص يغادرون إقليم كردستان العراق عبر القنوات غير النظامية منذ عام 2020، ووصل هذا العدد إلى ما يقرب من 96 ألف مهاجر على مدى ثلاث سنوات. والجدير بالذكر أن مؤسسة القمة لشؤون اللاجئين والنازحين تشير إلى رقم مذهل يزيد عن 760 ألف شخص هاجروا من العراق وإقليم كردستان العراق منذ عام 2015. يُبرز هذا التباين في الأرقام مدى الصعوبة في تحديد الهجرة غير النظامية بدقة نتيجة الطبيعة السرية لهذه الرحلات في كثير من الأحيان. ومع ذلك، تؤكد التقارير مجتمعة على تدفق كبير للأشخاص من المنطقة، مدفوعًا بتفاعل معقد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
وتساهم العوامل الاقتصادية، وبخاصةٍ مستويات البطالة المرتفعة في أوساط الشباب، بشكل كبير في أزمة الهجرة. فالضبابية النابعة من المشهد السياسي المتقلب وانعدام الأمن الوظيفي هما من الأسباب الأساسية للهجرة غير النظامية.
وقد أدى تنامي انعدام المساواة في إقليم كردستان العراق إلى مفاقمة الصعوبات الاقتصادية، حيث غالبًا ما تساهم العلاقات الشخصية والروابط العائلية في تأمين الوظائف والاستثمارات لرواد الأعمال اليافعين، تاركةً أولئك الذين لا يتمتعون بامتيازات مماثلة ضحايا لليأس. وقد أسفر هذا الواقع عن تشكّل مجموعات صغيرة وقوية وأوجد في الوقت عينه شعورًا باليأس في أوساط الأشخاص المحرومين من هذه المزايا. ويجد الأفراد أنفسهم أمام خيار من اثنين، إما الاصطفاف خلف الأحزاب السياسية الحاكمة كي يحققوا النجاح في حياتهم أو المخاطرة بأن يبقوا متروكين لمصيرهم بغض النظر عن آمالهم أو تطلعاتهم أو إمكاناتهم. وقد أدى هذا النظام غير العادل إلى توليد شعور بالكراهية وإنشاء بيئة سامة للشباب والعائلات.
وناهيك عن الفساد المستشري وغياب المساءلة، تشمل الديناميكيات الداخلية التي تؤدي إلى الهجرة غير النظامية نقصًا في الاستثمارات في المجتمعات المعرّضة للخطر. ويكون المهربون بالمرصاد ليستغلوا وهم هذه العائلات ويرسموا لها صورة غير واقعية عن الحياة في الغرب. فتسود لدى الكثير من هذه العائلات اعتقادات خاطئة بأن الرعاية الصحية والإسكان والتعليم والمخصصات العائلية متوفرة لها فور وصولها، لكن غالبًا ما يكون الواقع مغايرًا.
هذا وتلعب الدول الأوروبية، وبخاصةٍ المملكة المتحدة، دورًا مهمًا في التصدي للهجرة غير النظامية عبر اتخاذ إجراءات استباقية ومستهدفة. ويُعتبر الاستثمار في التنمية الاقتصادية في المناطق المعرضة للخطر مثل رانية، وهي بلدة شهدت هجرة غير متكافئة لشبابها إلى أوروبا، خطوة مهمة. فتوفير العمل والفرص في هذه المجتمعات قد يعالج الأسباب الجذرية لليأس الذي يدفع بالأفراد إلى المخاطرة بحياتهم في رحلات محفوفة بالمخاطر.
من خلال إدخال الاستثمار الاقتصادي إلى المجتمعات المعرّضة للخطر، وإنشاء ممرات قانونية للهجرة وتوسيع نطاقها، واللجوء إلى الحلول القائمة على الأبحاث من أجل فهم الأسباب الجذرية للهجرة ومعالجتها، ودعم الإشراك الفعال للمجتمع في دول المصدر والوجهة، يمكننا إيجاد مقاربة مستدامة وشاملة لمعالجة الهجرة غير النظامية.
ولكن لا بدّ من الإدراك أن معالجة الهجرة غير الشرعية تتطلب أكثر من مجرد تدابير تفاعلية. فالغوص في البحث من أجل الفهم الوافي للعوامل المعقدة وراء هذه التدفقات، أساسي لإيجاد حلول فعالة طويلة الأمد. وصحيح أن قمع شبكات التهريب يُعتبر من العناصر الحيوية في هذه العملية، إلا أنه ليس "الدواء الشافي". ويمكن في هذا السياق أن يكون التعاون مع المنصات الإعلامية المحلية بهدف زيادة الوعي بحقيقة الهجرة غير الشرعية القاسية وخطورتها، بمثابة رادع قوي ومؤثر.
وتُعتبر الشراكة مع المنصات الإعلامية المحلية مهمة لإشراك المجتمع وتسليط الضوء على الواقع الخطير للهجرة غير القانونية. ومن خلال نشر معلومات دقيقة وموثوقة وزيادة الوعي بظروف السكن الهشة وغير الثابتة وبالمصاعب الجمّة التي تواجه المهاجرين في المملكة المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية، يمكننا مساعدة المهاجرين المحتملين في اتخاذ قرارات مستنيرة وردعهم عن خوض رحلات محفوفة بالمخاطر وقائمة على وعود كاذبة.
فضلًا عن ذلك، تصطدم رغبة الإنسان المتأصلة في السفر واستكشاف العالم بالواقع الصعب الذي يفرضه امتلاك أحد أضعف جوازات السفر في العالم. فاستنادًا إلى تصنيفات جوازات السفر العالمية، يُعتبر حصول المواطنين العراقيين على تأشيرة سفر عملية صعبة وشاقة، ما يجعلنا نطرح السؤال التالي: هل يمكن لتيسير الحصول على التأشيرة أن يسمح للشباب بالسفر بطريقة شرعية للتعرّف إلى ثقافات غربية من دون اللجوء إلى مسارات هجرة خطرة وغير قانونية؟
من هذا المنطلق، قد يكون الحل المتمثل بتقديم تأشيرات سفر قصيرة الأجل خطوة أساسية ومهمة للتخفيف من هذا القلق واليأس الذي يشعر به الشباب الساخط. ومن خلال إتاحة الفرصة أمام الجيل الشاب لاستشكاف العالم بطريقة قانونية وآمنة، قد يتلاشى شيئًا فشيئًا اليأس الذي يدفع به للتفكير بالهجرة غير الشرعية. ولكن هذا لا يعني أنه من شأن تيسير الحصول على التأشيرة وحده أن يحلّ مشكلة الهجرة غير القانونية المعقّدة، إنما يمكن أن يساعد في فهم وتلبية الرغبة المشروعة في السفر والتبادل الثقافي السائدة في أوساط شباب المنطقة. وإذا ما أُزيلت هذه الوصمة المرافقة لجوازات سفرهم وتمكنوا من السفر بطريقة قانونية، ربما نعزّز بذلك حسًا أكبر بالتواصل والتفاهم بين الغرب وإقليم كردستان العراق، ما يوفّر في نهاية المطاف مستقبلًا أكثر استقرارًا وازدهارًا للجميع.
كذلك، يمكن لإنشاء ممرات هجرة قانونية أن يمثل بصيص أمل وبديلًا فعالًا لمن قد يلجأون إلى أساليب خطرة. ويمكن تصميم مثل هذه الممرات لتلبية احتياجات الناس وتتماشى مع مهاراتهم المحددة، بما يضمن تبادلًا مفيدًا لكل من الدول التي تستقبل الشباب والأفراد الساعين إلى بناء حياة أفضل.
تتخطى هذه المسألة الهجرة غير الشرعية. فإقليم كردستان يعاني من "هجرة أدمغة" بأعداد كبيرة، إذ يختار العاملون من ذوي الكفاءات المغادرة على الرغم من التحديات الاقتصادية في الغرب. وما يجذبهم هو ما تقدّمه دول الغرب الديمقراطية من أمن واستقرار وسيادة قانون – وهي عناصر غالبًا ما يفتقر إليها وطنهم. فهذه الهجرة الجماعية للمواهب تُضعف الآفاق الاقتصادية للإقليم بشكل كبير وتفاقم المشاكل الأساسية الكامنة وراء الهجرة.
وعليه، يُعتبر التعاون مع السلطات الكردية ومساءلتها عن السياسات ذات النتائج العكسية أمرًا أساسيًا، ولا سيما حين يتعلق بمعالجة الظروف التي تشجع على نحو متزايد مواطنيها على البحث عن فرص في أماكن أخرى. وحده العمل على حلّ هذه المشاكل الداخلية قد يحقق أمل الإقليم في التصدّي للهجرة غير الشرعية وخسارة معظم رأسماله البشري القيّم.