- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3589
مالي ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: مستقبل مكافحة الإرهاب في منطقتي الساحل والمغرب العربي
نظراً لأن حرب أوكرانيا تشكّل منعطفاً جوهرياً في مسار الأحداث بالنسبة للأمن الأوروبي، تعمل فرنسا وشركاؤها على سحب الموارد العسكرية من مالي، مما يثير تساؤلات حول أفضل السبل للتعامل مع التهديدات الإرهابية المستمرة وتنامي البصمة الروسية في المناطق المحيطة.
في 17 شباط/فبراير، أعلنت فرنسا وكندا و27 دولة شريكة من أوروبا وأفريقيا عن التنسيق فيما بينها لنقل مواردها العسكرية - من بينها الوحدة الأساسية المكونة من 2200 جندي فرنسي - من مالي إلى دول مجاورة. وجاء القرار بعد شهور من التوتر السياسي مع المجلس العسكري الحاكم في مالي، وزيادة النفوذ الروسي على الأرض، ومؤخراً الأزمة المتصاعدة في أوكرانيا.
يشار إلى أن القوات الفرنسية متواجدة في مالي منذ تسع سنوات، وقد وصل عددها في ذروة انتشارها إلى خمسة آلاف جندي. وكان هدفها منع الإرهابيين من إقامة دولة خلافة في المنطقة أو استخدام مالي منصةً تنطلق منها التهديدات في الخارج، سواء في أوروبا أو ضد المصالح الغربية في المغرب العربي وغرب إفريقيا. وانضمّت دول أخرى لاحقاً إلى انتشار القوات الفرنسية. ومع ذلك، أدى تدهور العلاقات السياسية مع السلطات المحلية إلى إنهاء هذا الوجود داخل مالي. وبينما أعرب أصحاب المصلحة الدوليون عن التزامهم بمواصلة مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل الأوسع نطاقاً، إلا أن الوفاء بهذا الالتزام في خضم نقل القوات المحلية والحرب في أوروبا سيتطلب إجراءات منسقة ومشتركة من قبل باريس وشركائها.
مراحل تطوّر الوجود العسكري للتحالف
في عام 2013، أطلقت فرنسا "عملية سيرفال" استجابة لطلب مالي الدعم لمنع تنظيم «القاعدة» والجماعات المتحالفة معه من الاستيلاء على العاصمة باماكو. وفي عام 2014، استُتبعت "سرفال" بـ "عملية برخان" التي كانت أهدافها أوسع نطاقاً وتمثّلت في استهداف تنظيمي «القاعدة» و «الدولة الإسلامية» والجماعات الإرهابية المحلية.
ويشكل إعلان 17 شباط/فبراير عن نقل القوات، الخطوة الثانية التي يتم اتخاذها خلال الأشهر القليلة الماضية لإعادة هيكلة (تنظيم) عملية "برخان". ففي تموز/يوليو 2021 أعلن الرئيس ماكرون أن الجيش الفرنسي سيغلق قواعده في شمال مالي. وكان الدافع وراء هذا التحول هو تطور التهديد نفسه، مع انتقال القادة الإرهابيين في الغالب من الشمال إلى "المثلث الحدودي" بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو؛ وقد نتج ذلك أيضاً عن قيام الجهات العسكرية الأخرى - أي "فرقة العمل الأوروبية «تاكوبا»" و "المجموعة الخماسية لمنطقة الساحل" - بزيادة عدد فرقها، مما سمح لفرنسا بتقليص نطاق وجودها.
وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة قدّمت دعماً كبيراً لكل واحدة من تلك العمليات، لا سيما من خلال إمكانيات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع والنقل. وخلال اجتماع عُقد في تشرين الأول/أكتوبر 2021 في روما، تعهّد الرئيس بايدن والرئيس ماكرون بزيادة تعاونهما في منطقة الساحل.
رحلة تقدّم الطغمة العسكرية في مالي
بعد وصول الطغمة العسكرية في مالي إلى السلطة عبر انقلاب أيار/مايو 2021، تدهورت بسرعة علاقات البلاد مع الدول الغربية والأفريقية. فسرعان ما تبنّت السلطات الانتقالية خطاباً قومياً معادياً للوجود الفرنسي، وكانت تلك التصريحات تلقى أحياناً صدىً إيجابياً بين سكان المناطق الحضرية في باماكو. وسارع أيضاً المجلس العسكري إلى الانحراف عن خارطة الطريق الانتقالية التي اتفق عليها مع "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا"، معلناً أنه يخطط للبقاء في السلطة لمدة خمس سنوات.
وعلى الجبهة العسكرية، أعاقت السلطات المالية تدريجياً حرية العمل الفرنسية والأوروبية، ورفضت تصاريح التحليق ووضعت حواجز أمام انتشار القوات الغربية في المهمات المحلية. ومع تصاعد التوترات، قامت الطغمة العسكرية بتوظيف "مجموعة فاغنر"، التي تعتبر من أقوى الشركات العسكرية الخاصة في روسيا. ورسمياً، برر المجلس العسكري هذه الخطوة على أنها وسيلة لدعم المعركة ضد الإرهابيين، ولكن على أرض الواقع، كان أعضاء "مرتزقة فاغنر" يتصرفون وكأنهم حرس الإمبراطور منذ انتشارهم في وقت مبكر من هذا العام - وهو ترتيب يعكس حرص المجلس العسكري على التمسك بالسلطة، كما لاحظ العديد من المراقبين والمسؤولين.
وإزاء هذا الانقسام السياسي والعسكري التدريجي، فرضت "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" و"الاتحاد الأوروبي" عقوبات اقتصادية ضد المجلس العسكري في كانون الثاني/يناير. وفي النهاية، قررت فرنسا وشركاؤها نقل قواتهم في محاولة للالتفاف على المجلس العسكري ومحاربة التنظيمات الإرهابية انطلاقاً من البلدان المجاورة.
إمكانية ارتفاع مستوى التهديد الإرهابي في شمال أفريقيا
ستشكل إعادة انتشار القوات الأوروبية تغييراً استراتيجياً كبيراً بالنسبة للمغرب العربي والساحل. ومن غير الواقعي للغاية الافتراض بأن لدى بضع مئات من "مرتزقة فاغنر" وعناصر القوات المسلحة المالية، القدرة على فرض الأمن في مساحة تمتد على 900 ألف كيلومتر مربع من الأراضي الشمالية المعرضة للخطر وتنفيذ جهود فعالة لمكافحة الإرهاب في تلك الأراضي. أولاً، هم يفتقرون إلى سلسلة قيادة فعالة وقدرات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع المناسبة. ثانياً، ربما يفتقرون إلى الإرادة السياسية، حيث يبدو أن المجلس العسكري يركز على تعزيز سلطته في باماكو بدلاً من استعراض نفوذه في المناطق الهامشية. ثالثاً، أفاد المراقبون بأن جزءاً من مرتزقة فاغنر في مالي قد يكونون سوريين وليبيين بدلاً من عملاء روس سابقين، وأنهم أكثر ميلاً للتركيز على تأمين مصادر دخلهم بدلاً من محاربة الجهاديين بشكل فعال. لذلك، هاك خطر كبير من تحوّل مالي مجدداً إلى قاعدة خلفية للجماعات الإرهابية.
ومن شأن هذا السيناريو أن يعكس المكاسب الجوهرية التي تحققت في السنوات الأخيرة ويعرّض العديد من الدول العربية لتهديد جهادي أكبر. وبالفعل، ينحدر معظم قادة العمليات و"الأمراء" الإرهابيين المفترضين الذين قضت عليهم فرنسا، من بلدان المغرب العربي كالجزائر وموريتانيا والمغرب وتونس - من بينهم القائدين البارزين في تنظيمي «القاعدة» و «الدولة الإسلامية» عبد المالك دروكدال وعدنان أبو وليد الصحراوي.
فضلاً عن ذلك، من الممكن أن تكون ليبيا في خطر أيضاً. فمنطقة فزان الواقعة في أقصى الجنوب كانت في السابق قاعدة خلفية مهمة للإرهابيين. واليوم، هناك القليل من القوات المحلية المتاحة - إن وُجدت - لمراقبة طرق التهريب أو حركة المقاتلين عبر تلك الحدود التي يسهل اختراقها. وبالتالي، فإن رحيل القوات المتحالفة من مالي قد يكون له آثار مضاعفة في الخارج، مما يسهّل إعادة تشكيل طرق الإمداد ومصادر التمويل للعديد من الجماعات الإرهابية العاملة عبر الصحراء.
المجلس العسكري قد يلتمس دعم الشرق الأوسط
بسبب العقوبات التي فرضها أبرز الشركاء الاقتصاديين والسياسيين لمالي في "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا" و"الاتحاد الأوروبي"، عجزت السلطات الانتقالية في كانون الثاني/يناير عن إصدار سندات بقيمة 47 مليون يورو. كما شهدت البلاد عجزاً مزمناً في الميزانية، مما دفع المسؤولين إلى البحث عن طرق دعم أخرى.
وفي 10 شباط/فبراير، زار وزير الخارجية المالي عبد الله ديوب الدوحة للقاء نظيره القطري، محمد بن عبد الرحمن آل ثاني. ووفقاً لعدة منافذ إعلامية في مالي، طلب ديوب دعماً مالياً للالتفاف على آثار العقوبات الاقتصادية. وبعد يومين، التقى بوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في طهران، حيث أعلنا عن آلية تنسيق ثنائية مزمعة. ومع ذلك، لم تتحقق أي من هذه المبادرات حتى الآن.
ازدواجية الموقف الجزائري
من الناحية النظرية، قد تنظر السلطات الجزائرية إلى إعادة تنظيم "عملية برخان" بتفاؤل حذر، وربّما ترحّب برحيل مستعمرها السابق عن حدودها الجنوبية. وقد تفكر أيضاً في لعب دور دبلوماسي نشط لإحياء اتفاقية الجزائر للسلام لعام 2015، والتي ضمنت وقف إطلاق النار بين الجماعات المسلحة للطوارق والحكومة المالية. ونظراً إلى علاقاتها القوية مع موسكو، من الممكن أن تطمئن حتى من احتمال وجود نفوذ روسي أكبر في الدول المجاورة من خلال "مجموعة فاغنر".
ولكن من الناحية العملية، قد يؤدي الانتقال المفاجئ لقوات مكافحة الإرهاب الأوروبية جنوباً إلى دوامة استراتيجية في العاصمة الجزائرية. فعلى المستوى الدبلوماسي، لم يحرز الطرفان تقدماً يُذكر في تنفيذ اتفاق الجزائر للسلام بعد الانقلاب الأول الذي حدث في مالي في آب/أغسطس 2020، وحتى كان التقدم أكثر ضعفاً بعد الانقلاب الثاني في أيار/مايو الماضي. وفي الوقت الحالي، لا يُظهر المجلس العسكري أي اهتمام بتحسين الوضع في الشمال، وقد يؤدي نشر وكلاء فاغنر هناك خلال الأشهر المقبلة إلى إثارة التوترات مع الطوارق، والتي قد ننتقل عبر حدود الجزائر الجنوبية الطويلة التي لا تخضع لمراقبة تُذكر - وعلى وجه التحديد في المناطق التي تكمن فيها بعض أهم المواد الهيدروكربونية في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، إن سجل فاغنر في عرقلة الدول المجاورة (على سبيل المثال، جمهورية إفريقيا الوسطى) قد يدفع الجزائر إلى التريث. وقد انعكست هذه الازدواجية في بيان صدر عن مكتب الرئيس الجزائري في 10 كانون الثاني/يناير، تحدث عن العقوبات ضد المجلس العسكري بعبارات متحفظة في وقت انحازت فيه معظم الدول الأخرى إلى جانب "المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا".
الخاتمة
إن القضية الأكثر إلحاحاً التي تطرح اليوم هي إيجاد الطريقة الفضلى لإعادة تشكيل الجهاز العسكري الغربي في منطقة الساحل. وقد ترى الولايات المتحدة، بصفتها الشريك الأمني الرئيسي لأوروبا في المنطقة، مصلحةً في مواكبة التغيير الذي يشهده الوجود العسكري لفرنسا والحلفاء من أجل التصدي للجماعات الإرهابية في المثلث الحدودي والصحراء الكبرى. وتُعتبر الدول المجاورة مثل النيجر وبوركينا فاسو ضعيفة بشكل خاص بوجه هذه الجماعات، وبالتالي فهي على استعداد لمواصلة التعاون مع القوات الغربية. كما تحاول العناصر الإرهابية التوسع في البلدان الساحلية على طول خليج غينيا. وفي شمال أفريقيا، يمكن أن يساعد إشراك الحكومات الأخرى (مثل المغرب ومصر) بشأن هذه القضايا على المدى المتوسط في التخفيف من حدة التهديدات المحتملة.
وللحد من التداعيات المحتملة على دول المغرب، يجب على أصحاب المصلحة الغربيين مواصلة الضغط السياسي والاقتصادي على المجلس العسكري في مالي من خلال تشجيع العملية الديمقراطية والحد من نفوذ موسكو. وفي سياق الحرب على أوكرانيا، يجب مراقبة أي تقدم محتمل للأصول الروسية بحذر. ومن المهم بشكل خاص التركيز على التواصل الاستراتيجي من أجل التصدي للسرديات الروسية والجهادية.
أخيراً، قد يكون إشراك الجزائر للمساعدة في تخفيف التوترات بين الطوارق والحكومة المالية خياراً دبلوماسياً مناسباً. وبالإضافة إلى الجهود المتجددة لتنفيذ اتفاق السلام لعام 2015، يمكن أن تكون الجزائر حليفة في الحفاظ على دور "بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي" ("مينوسما")، والتي قد تكون مهددة من قبل المجلس العسكري و"مرتزقة فاغنر". فهذه البعثة مسؤولة رسمياً عن مراقبة تنفيذ اتفاق الجزائر، ومكلّفة بمراقبة احترام حقوق الإنسان أيضاً، مما قد يمنحها حرية العمل للمساعدة في مراقبة أنشطة "فاغنر". ومن المهم أيضاً الحفاظ على حسن سير أعمال "البعثة" ("مينوسما") للحد من العواقب السلبية على الجزائر والمغرب العربي الأوسع.
لويس دوجيت-جروس هو زميل زائر في معهد واشنطن ودبلوماسي في "الوزارة الفرنسية لأوروبا والشؤون الخارجية". وتم نشر هذا المرصد السياسي تحت رعاية "برنامج مؤسسة دايين وغيلفورد غليزر" التابع للمعهد حول "منافسة القوى العظمى والشرق الأوسط".