- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مهام الخلافة الإعلامية وقيمها
يملك تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») برنامج إعلامي أكثر كفاءة بكثير على الإنترنت من جيرانه وأسلافه الجهاديين: فهو يجنّد أنصاره ويزجهم في دوامة التطرّف بينما يعمل في الوقت نفسه على استفزاز أعدائه وإرهابهم. ومع ذلك، تبقى هناك ثغرة كبيرة في فهمنا لمكانة إعلام التنظيم في استراتيجيته الشاملة باعتباره شبه دولة. وفي ما يلي لمحةٌ عن آرائه بشأن الإنتاج الإعلامي من خلال تحليل اثنين من منشوراته هما "مجاهد أنت أيها الإعلامي" (حزيران/يونيو-تموز/يوليو 2016) و "لِمَ أدمّر القمر الصناعي" (شباط/فبراير-أذار/مارس 2016). وفي هذه النصوص، يحدد تنظيم «داعش» التسلسل الهرمي لوسائل إعلامه ووظائفها وجماهيرها، لكنّه يتوانى عن وصف محتواها المرئي أو الأسلوبي. كما أنّه لا يركّز على التنسيق الحاصل بين المنتجين الإعلاميين، الأمر الذي يشير إلى تفضيل تنظيم «داعش» بقاء هؤلاء المنتجين مستقلين نسبياً بدلاً من خضوعهم لسيطرتها بشكل كامل.
"مجاهد أنت أيها الإعلامي"
الدين والبيروقراطية
يتطرّق مقال "الإعلامي" للوهلة الأولى إلى الإنتاج الإعلامي باعتباره جزءاً لا يتجزأ من قضية تنظيم «داعش»، واضعاً إياه على قدم المساواة مع الجانب العسكري من العمليات. وتتشابك النماذج الأصلية للمنتجين الإعلاميين والجنود بشكل وثيق في هذه الثقافات الفرعية الإعلامية المتسمة بالعنف شأنها شأن الظواهر الدينية في تسلسل هرمي قائم على أصول الدين. فالإعلام ليس عنصراً مكملاً فحسب، بل يتحلى بنفس أهمية العنف البدني والاستيلاء على الأراضي. ويذهب النص في الواقع إلى درجة مقارنة الحملة الإعلامية لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» بالأسلوب الإعلامي للنبي محمد مشيراً إلى أنّه "لجأ هو أيضاً إلى الشعر كشكل من أشكال الإعلام واستخدم قصائد مثل قيس بن شماس لرفع معنويات المسلمين من خلال الشعر".
وبناءً على ذلك، يعلن النص أن صلاحيات "الأمير الإعلامي" مقدسة، وهو بالتالي يعيّن التابعين له كما تقتضيه الضرورة الدينية. "الأمير الإعلامي هو المسؤول عن توزيع المهام، وبالتالي، إذا أطعْت أوامره، فأنت تطيع الله، وإذا عصيتها، عصيت الله". هنا، يبدو أن الإنتاج الإعلامي يخضع للسيطرة المباشرة لبعض (أو عدة) أطراف مكلّفين ذوي سلطة - في تسلسل هرمي يتألف مما لا يقل عن ثلاثة مستويات (الله ثمّ الأمير فالمنتج)، وهو أمر يُعطى شرعية عبر الخطاب الإسلامي.
غير أنّ النص لا يصف من يعيّن الأمراء وكيف يتم ذلك، على الرغم من أنّ الأمر يندرج على الأرجح ضمن صلاحيات "مجلس الشورى". ولكن، عند قراءة النص مع أخذ هذه المعلومات البيروقراطية المحدودة بعين الاعتبار، يستنتج المرء أنّ الأمير لا يبعد سوى خطوةً واحدة عن الله، مما يعني أنّ المنتج لا تفصله سوى خطوتان اثنتان عنه. بالإضافة إلى ذلك، إن غياب هذه المعلومات يشير ضمناً إلى أنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» غير معني بتعيين الأمراء في عالم ما بعد «الدولة الإسلامية»، مما يشير إلى أنّه ليس هناك أي سلطة خارج عمليات التنظيم البيروقراطية، التي تملك الآليات الملائمة لتعيين أمراء حقيقيين في عالم ما بعد «الدولة الإسلامية».
الأعداء والجمهور
بالإضافة إلى المراجع الدينية، يلجأ النص إلى الانشطار ما بين مؤيدي التنظيم وخصومه: "كل ما فيه من إغاظة ونكاية للعدوّ فهو من الجهاد." ويعني هذا القول أنّ على الإعلام التركيز بشكل خاص على استهداف العدو سواء بترهيبه أو استفزازه أو إرغامه. إلاّ أنّ الرسالة الكاملة هي أكثر تعقيداً من ذلك بما أنّ إعلام تنظيم «داعش» لا يتوجه إلى العدوّ فحسب: إذ يشير النص أيضاً إلى أنّه على "الخبير الإعلامي" أن يعمل أيضاً على تشجيع المتعاطفين على القتال ودعم الجهاد. ومن هنا، يمكن للمؤيدين المحتملين أن يشكّلوا الشريحة المستهدفة الرئيسية فيما يمكن للعدو أن يشكل الشريحة "الثانوية".
ويبدو أنّ التنظيم يفهم أنّه يمكن للإعلام أن يؤثر في شرائح ثانوية إلى جانب الشرائح المستهدفة الرئيسية. ويشكل هذا التلاعب بالشرائح المستهدفة الرئيسية والثانوية جانباً أساسياً من جوانب آلية صنع القرار لدى التنظيم، إذ يسمح لشرائط فيديو الإعدام المروعة بإثارة العداوات مع الغرب من جهة فيما يحشد دعم المؤيدين من جهة أخرى. فمن الواضح مثلاً أنّه تم التسويق لسلسلة فيديوهات "جون السجّان" لترهيب الجماهير الغربية وهذا ما كانت ترمي إليه فعلاً بجزء منها. لكنّ الفيديو ألهم أيضاً موجةً من المتعاطفين مع الجهاد للانضمام إلى التنظيم وشكّل معياراً جديداً لمنتجي الإعلام الجهادي - سواء من حيث تقنيات الإنتاج من أزياء أو تصوير سينمائي أو صور منشأة بالحاسوب.
المهام والهوية والثقافة
للإعلام إذاً عدة مهام مترابطة وفقاً لهذا النص، وتندرج جميعها في هذا الانقسام السياسي المركب: إذ إنه قادر على استفزاز العدو وكشف المخططات وتحقيق التوازن في الحرب الدعائية وإلحاق الهزيمة المعنوية حتى قبل أن تحصل العملية العسكرية. لكنّه في الوقت نفسه يمكن للإعلام أن يلهم "أمة [«الدولة الإسلامية»] ويرفع روحها المعنوية" وأن يساعد على تحقيق الانتصارات بمعناها الفعلي وأن يوفر مصدراً بديلاً للمعلومات للمستهلكين الرئيسيين وأن يستعيد القيم "الإسلامية" التي محاها "الغزو الفكري من الغرب".
وبالتالي، يؤدي إعلام التنظيم مهمتين في الوقت نفسه: فهو يدعم مصالح التنظيم العسكرية سواء عبر ممارسة الإرهاب النفسي أو تجنيد المؤيدين. وهنا يعود الأمر للمشاهد أن يرى هذا الإعلام على إنّه إما معادٍ أو متعاطف.
ولكن، في حين يبدو أن الإعلام البديل لـ تنظيم «الدولة الإسلامية» قيّماً لأنه يكمّل حملاته العسكرية، إلا أنّ ميزته الفريدة تبقى قدرته على إعادة ترسيخ القيم الثقافية والاجتماعية والدينية للتنظيم. وهذا امتياز هام بالنسبة لتنظيم «داعش» الذي يرى أنّ العدو يحدث حالياً تأثيراً هائلاً في قلوب وأذهان المسلمين في كافة أنحاء العالم: "لقد أدرك الصهاينة والصفويين والأعداء العلمانيين أن غزو القلوب أكثر نجاحاً من غزو الأراضي واستعباد الناس". وبتعبير آخر، فبما أنّ العدو شنّ "حرب هوية" ثقافية - وهو يحقق انتصاراً فيها - فمن واجب المنتج الإعلامي أن يحارب هذا الغزو. ويسمح هذا الجانب من الإنتاج الإعلامي لتنظيم «الدولة الإسلامية» أن يؤثر في أفكار ومعتقدات طيفٍ كبير من الأفراد - سواء كانوا مؤيدين أو معارضين - عبر "استعادة" إنتاج المعرفة.
ويحدد النص دون شك مهام الإعلام وأهدافه وحتى أسسه البيروقراطية، لكنّه لا يشير إلى كيفية تحقيق هذه الأهداف من خلال المحتوى الإعلامي البصري. ويشير ذلك ضمناً إلى أنّ الإنتاج الإعلامي لـ تنظيم «داعش» يعمل باستقلالية نسبية - وخاصة فيما يتعلق بإنتاج شرائط الفيديو وتصميم المشاهد.
"لِمَ أدمّر القمر الصناعي": المفارقة في الأسلوب
ومع ذلك، يتناول منشور "لِمَ أدمّر القمر الصناعي" هذه المسألة بشكل غير مباشر. وفيما يتعلق بضرورة قيام مؤيدي تنظيم «الدولة الإسلامية» بتدمير صحون مستقبلات الأقمار الصناعية"، ينص المنشور على ما يلي:
"بسبب إدمان [الشعب] على مشاهدة الكفار بالصورة التي يعرضونها لها ويجمّلونها ويحسنّونها، فلا يمكننا تقليدهم بأي طريقة. إذ قال رسول اللَّهِ صلَى اللَّه عليهِ وسلَّم: "من تشَبَّه بِقومٍ فهو منْهمْ" ".
قد يظنّ المرء أنّه يفترض بهذه النقطة أن تنطبق على إعلام تنظيم «داعش» نفسه: فإذا قام المنتج الإعلامي «الداعشي» بتقليد إعلام العدو، فهو يستحق اللوم بنفس القدر من التجديف والكفر الذي يتهم به الكفّار. وفي الواقع، يختلف إعلام تنظيم «داعش» عن سائر وسائل الإعلام الجهادية في زيادة تقليده للإعلام الغربي؛ وحتى أنّه قد يوسّع هذه الخدع التصويرية (ويبتكرها). كما أنّ إعلام تنظيم «داعش» مليء بالصور المنشأة بالحاسوب، وإعادة تمثيل المشاهد بطريقة مثيرة، والتصميم المدرك للخطوات، والعمل المتقن بواسطة الكاميرات.
ولكن، عوضاً عن وصف هذا التناقض بـ "النفاق"، أعتقد أن تنظيم «الدولة الإسلامية» يُظهِر مستوى من التكيف الأيديولوجي من أجل تسهيل الجانب العملي للأمور. وللإعلام الجهادي تاريخ عريق في اللجوء إلى الخدع الإعلامية الغربية. وفي حين قد لا يكون ذلك سوى مجرد نتيجة للتقدم التكنولوجي، أقرّ الكثير من القادة الجهاديين والأيديولوجيين مثل أسامة بن لادن وأيمن الظواهري، زعيما تنظيم «القاعدة» السابق والحالي على التوالي، بقوة اعتماد بعض الخدع البصرية الخاصة بالهيمنة الغربية من أجل إيصال رسالة ما بطريقة أكثر فعالية إلى جمهور واسع ومتفرق. وعبر استقاء الخدع البصرية الغربية (مثل إدخال الجماليات إلى غرف الأخبار وإعادة تمثيل المشاهد بطريقة مثيرة واستخدام الصور المنشأة بالحاسوب "عالية التقنية") مع انتقاد الإعلام الغربي بشدة والسعي إلى تدميره، يقوم تنظيم «الدولة الإسلامية» تماماً مثلما فعل أسلافه الجهاديين، باللجوء إلى أدوات معاصرة لإنتاج المعرفة سعياً منه لاستعادة إنتاج المعرفة عينه.
الخاتمة
إذا واجه التنظيم هزيمة كاملة على أراضيه، سيتمكن برنامجه الإعلامي من مواصلة العمل على أجندته الأيديولوجية عبر الاستمرار في زرع الأفكار في أذهان مؤيدي تنظيم «الدولة الإسلامية». وسيكون من الصعب للغاية خنق الإنتاج الإعلامي لـ تنظيم «داعش»، لأنّ خلايا صغيرة من المؤيدين ستبقى قادرة على محاكاة الأساليب التي يعتمدها إعلام تنظيم «الدولة الإسلامية» حالياً بتأدية معظم المهام الأساسية الواردة في هذه النصوص من دون أي حاجة إلى أمير إعلامي شرعي.
ومع ذلك، من السهل توقع رؤية خلاف كبير بشأن قضية الأصالة، حيث لن يتمكن الأمراء الجدد من خوض عملية التحلي بالشرعية المعمول بها حالياً. فما لم يصمم تنظيم «الدولة الإسلامية» عملية إضفاء شرعية لتعيين الأمراء من دون الحاجة إلى أرضٍ له، سيقلّ نفوذه إلى حد كبير. وبالتالي، سيبقى الإنتاج الإعلامي للتنظيم حيّاً حتى بعد زواله في الشرق الأوسط، لكنّه سيكون موضع جدل داخلي في أوساط المجتمع الجهادي الناشط على الإنترنت الذي سيعترض على صلاحية المنتجين الإعلاميين. غير أنّ تنظيم «الدولة الإسلامية» سيأخذ على الأرجح هذه التدابير الوقائية باستناده على تجارب نظرائه الجهاديين السابقين في إضفاء السيطرة على الإنترنت - وتحديداً تنظيم «القاعدة».
وفي هذه النصوص، نرى أنّ لـ تنظيم «داعش» فهماً متطوراً لكيفية عمل الجماهير الرئيسية والثانوية. كما وتعيد هذه النصوص تعزيز قيمة الإعلام ومهامها فيما ترسي الأسس لسلسلة قيادة بيروقراطية مبسطة. والأهم من ذلك، من خلال إثارة العداوات والتجنيد في وقت واحد، يقوم تنظيم «الدولة الإسلامية» باسترجاع إنتاج المعرفة، وهذا يعني أن بإمكان التنظيم إقامة دائرة نفوذ له وطبع الأفكار في أذهان مؤيديه عبر توفير التفسيرات البديلة للأحداث والدين والعقيدة. وفي حين أنّ ذلك يسير بالتوازي مع احتلاله للأراضي، إلاّ أنّه يشكّل أيضاً هدفاً بحد ذاته يمكنه إحداث أثار فعلية في نجاح مشروع بناء الدولة. وبالنسبة إلى التنظيم، يبدو من الواضح جداً أنّه لا يمكن الإبقاء على الدولة والحفاظ عليها من خلال احتلال الأراضي فحسب، بل لا بد من ممارسة السيطرة الخطابية على سكانها أيضاً.
يود الكاتب أن يشكر الدكتور يعقوب أوليدورت لمساعدته ودعمه في كتابة هذه المقالة.
عمر الحشاني هو باحث مساعد في منتدى فكرة، عمل سابقا كمحرر لمجلة الدراسات العربية، ويركز الحشاني في تحليلاته على موضوع مكافحة الإرهاب والخليج. وقد نُشرت هذه المقالة في الأصل من على موقع "منتدى فكرة".
"منتدى فكرة"