- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
"مجمع الأديان" في القاهرة: رسالة سلام للمصريين والعالم
على الرغم من التقارير الإعلامية حول الانقسام، فإن التجول في القاهرة يكشف أن تاريخ التعايش بين الأديان في مصر مازال قائماً.
مقولتا "الدين لله والوطن للجميع" و"الله خلقنا لعبادته وعمارة الأرض" هما من الأقوال التي غالبًا ما نسمعها في مصر ودول أخرى من الشرق الأوسط. والمقصود بهاتين العبارتين أن الدولة هي للجميع من دون استثناء، سواء كانوا من المسلمين أو المسيحيين أو اليهود وأن الدين هو عبادة الله. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان هذا التعبير ينطبق على أرض الواقع.
عند مقاربة مسألة التاريخ والثقافة المشتركة بين الأديان في مصر، لم أرغب في تقديم سردية سياسية ودينية وتاريخية. فأنا لست عالمًا دينيًا ولا أخصائيًا في التاريخ. وإن تحول مسار النقاش نحو السياسة، فسيفقد مغزاه البسيط. بدلًا من ذلك، أريد أن أقدم للقراء من مختلف أنحاء العالم ببساطة وأمانة صورة حية عن المسلمين والمسيحيين واليهود في مصر، وهي صورة غالبًا ما تطمسها تقارير التوترات وفقدان مصر لغناها التاريخي، ولكنها لا تزال تتجلى من خلال الهندسة والشخصيات الثقافية العظيمة في البلاد.
ورغم ذلك، فإن المصريين – الشباب منهم والكبار في السنّ – يعيشون جنبًا إلى جنب في المدارس والجامعات وأماكن العمل، وذلك من دون تمييز في الكثير من الحالات؛ فإن جبت شوارع مصر، لن تتمكن من تحديد الانتماء الديني لكل شخص: الجميع مصريون.
عندما كنت طفلًا، كنت أذهب لشراء بعض الحلويات والمشروبات من مالك أحد المتاجر. لم أكن أعلم أنه قبطي ولم يختلف الأمر بالنسبة لي عندما عرفت. فقد ساعدني صديقي القبطي للخضوع لأول دورة تدريب مهنية بعد تخرجي من الجامعة، ولم يشكل الدين أي عائق أمام علاقتنا. إنها صورة الحياة اليومية المشتركة للتوافق بين الأديان التي يمكن أن تغيب عن المناقشات بشأن الدين في مصر.
مصر: مهد الأديان والثقافات
يصف المصريون بلادهم بأنها "أم الدنيا" باعتبارها إحدى أقدم الدول في العالم وتاريخها يعود إلى بداية التاريخ المدون. فالبلاد تشهد توافق ملحوظ بين الأديان فهي تتخلل في نسيج الأديان الإبراهيمية؛ ففي النهاية، ولد موسى وترعرع في مصر، كما تُعتبر زيارة يسوع ابن مريم لمصر حدثًا هامًا في تاريخ مصر، لا تزال آثاره واضحة حتى يومنا هذا في الأماكن التي زارها وباركها.
وأخيرًا، دخل الإسلام إلى مصر في القرن السابع خلال الغزوات العربية وأعلن أنه سيحمي ويرعى اليهود والأقباط تمامًا كالمسلمين. وبالتالي، تجمع مصر ثلاثة أديان سماوية مختلفة تدعو جميعها الناس إلى التعاون لتحقيق الخير الأعظم، وعمارة الأرض ونشر التسامح والسلام.
وتاريخيًا، ضمت مصر شعبًا واحدًا شمل هذه الأديان الثلاثة. فالمسيحيون يشكلون نحو 10 في المائة من إجمالي عدد سكان البلاد وينقسمون بين كاثوليك وأقباط أو أرثوذوكس. ومن الجدير ملاحظته أن مسيحيي مصر ينتمون إلى مختلف القطاعات الاجتماعية بدءًا بجامعي النفايات وصولًا إلى العائلات الفاحشة الثراء؛ ومن أبرزهم رجل الأعمال الملياردير نجيب ساويرس وعائلته – إحدى أغنى العائلات في الشرق الأوسط. كما يشكّل المسيحيون جزءًا من النسيج السياسي في البلاد: فهم يشغلون مناصب وزراء ومسؤولين في مختلف إدارات الدولة والبرلمان، على غرار السفيرة نبيلة مكرم، وزيرة الدولة للهجرة وشؤون المصريين بالخارج.
أما عدد المواطنين اليهود فوصل إلى 80 ألفًا خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهي فترة أصبحت تعتبر الآن العصر الذهبي لليهودية في مصر. لكن الهجرة الجماعية لليهود من الأراضي العربية إلى إسرائيل خلال منتصف القرن العشرين أدت إلى تراجع كبير في هذا العدد؛ حيث أن عددًا قليلًا فقط من المواطنين اليهود لا يزالون يعيشون اليوم في مصر، ومعظمهم تخطوا سن الستين. لكن هذا العدد الضئيل من اليهود لا يزال حاضرًا في المجتمع حيث يظهرون بين الحين والآخر في الصحف ووسائل الإعلام متحدثين عن ذكرياتهم القديمة الخاصة بمصر ووضع المجتمع اليهودي في البلاد اليوم.
إلى ذلك، توفر هندسة البلاد صورة أوضح حتى عن التوافق بين الأديان. فخلال جولة على المناطق التاريخية في مصر، قد يتفاجأ الزائر بعدد المواقع المقدسة العائدة إلى الأديان الثلاثة. فثمة العشرات من المواقع الإسلامية المعروفة، وأشهرها مسجد محمد علي باشا، وجامع عمرو بن العاص، والجامع الأزهر وشارع المعز لدين الله الفاطمي والآثار الإسلامية القديمة التي يتضمنها. فضلًا عن ذلك، ثمة 22 موقعًا قبطيًا أهمها مجمع أبو مينا في الصحراء الغربية، وأديرة السريان والقديس الأنبا بيشوي، ودير القديسة دميانا، وكنيسة العذراء مريم والشهيد أبانوب ودير القديسة كاثرين.
ويضاف إلى ذلك 11 كنيسًا على غرار كنيس إلياهو هانبي، ومعبد اليهود الأشكناز وكنيس بن عزرا وكنيس شعار هاشامايم وكنيس موسى بن ميمون. ورغم الأعداد الضئيلة من المواطنين اليهود، إلا أن الحكومة المصرية بذلت في الآونة الأخيرة جهودًا لترميم مدافن اليهود في البساتين وكنيس إلياهو هانبي في محافظة الإسكندرية. ولا يخفى على أحد أن هذه المسألة كانت موضع الكثير من الجدال على وسائل التواصل الاجتماعي، وحاول البعض تسييسها لجعل الاهتمام بهذا الإرث المصري الأصيل يبدو تحركًا سياسيًا. وهذا ما تصدى له عدد من المصريين الشباب والمثقفين والواعين، إذ كانوا متأكدين من أن هذا الإرث اليهودي هو من أصول مصرية، ويعتبر ترميمه مكسبًا جديدًا لمصر يناسب موقعها التاريخي.
مع ذلك، لم تكن فكرة تصنيف المصريين كـ"مسلم أو مسيحي أو يهودي" موضوعًا مهمًا في النقاشات الشعبية أو حتى في الصحافة، ولا سيما خلال مطلع القرن العشرين. فعبارة "يهودي" لم تسبق اسم أي من الفنانين المصريين اليهود في أي صحيفة أو حتى على ألسن معظم المصريين، بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية أو الدين. فأنا شخصيًا لم أعلم إلا مؤخرًا أن الممثلة المصرية الشهيرة ليلى مراد كانت يهودية أو حتى ديانة شخصيات مصرية يهودية بارزة أخرى تركت بصمة في الحياة الثقافية والفنية والاقتصادية المصرية في تلك الفترة.
وحتى اليوم، تشكل الشخصيات المصرية التالية جزءًا من نسيج الإرث الوطني: يعقوب صنوع – الذي لعب دورًا مهمًا في تأسيس المسرح المصري في سبعينيات القرن التاسع عشر – المخرج توغو مزراحي، الممثلة نجوى سالم، الراقصة المشهورة كيتي التي اشتهرت عندما ظهرت في أفلام إلى جانب النجم المصري إسماعيل ياسين، أو المؤلف المشهور داود حسني الذي يرقد حاليًا في المدفن اليهودي في البساتين في القاهرة.
على نحو مماثل، لم أدرك الخلفية الدينية للممثل المشهور يوسف داود – الذي اشتهر في المسلسل التلفزيوني يوميات ونيس – إلا بعد أن قرأت تفاصيل عنه عند وفاته. والأمر سيان بالنسبة للممثل المشهور هاني رمزي؛ فمعظم الشباب المصريين لا يعلمون على الأرجح أنه قبطي. وحتى أن ديانة الفنان المصري العظيم نجيب الريحاني الملقب "بأب الكوميديا المصرية" لم تعرف على نطاق واسع إلا قبل سنوات قليلة، رغم أنه توفي منذ أكثر من نصف قرن. وكذلك، نذكر البروفيسور مجدي يعقوب، الجراح المشهور عالميًا – الذي أسس مؤسسة خيرية تدعم جراحة القلب في مصر وتمكن، بمساعدة فريقه الطبي، من إنقاذ آلاف الأطفال المصريين من الموت بسبب أمراض في القلب. وكانت وسائل التواصل الاجتماعي المصرية شنّت هجومًا عنيفًا على شخص متعصّب بعد أن زعم أن يعقوب لن يدخل الجنة بسبب دينه المسيحي – ولا سيما بعد افتراض أن تعليقاته لها دافع سياسي خفي.
وناهيك عن المساهمات الثقافية، لطالما كانت العائلات البارزة في مجال الأعمال في مصر من كافة الأديان، فعائلة ساويرس قبطية، في حين أن رجال الأعمال اليهود – على غرار عائلة موصيري التي تملك عددًا كبيرًا من أبرز دور السينما والفنادق في الإسكندرية – قدموا مساهمات كبيرة في الاقتصاد الوطني. وكانت المنتجات التي تحمل علامات شيكوريل وصيدناوي وريفولي وبنزايون وعمر أفندي وهانو التجارية شائعة بشكل كبير ضمن الأسر المصرية، علمًا بأن لافتات المتاجر التي كانت تبيعها لا تزال معلقة رغم تصفيتها. فلم يحجم أحد عن شرائها رغم أن أصحابها يهود. فالجميع عمل ومارس الرياضة وأنجز أعمالًا فنية وشارك في الاقتصاد جنبًا إلى جانب من دون أي حساسية أو وقوع أي خلاف بينهم.
أساس التوترات الحديثة
تتعارض هذه الصورة مع التقارير الدورية المعاصرة التي تتحدث عن فتنة طائفية بين المسلمين والأقباط، حيث توصف بعض القرى جنوبي البلاد بأنها "في حالة توتر". لكن هنا يكمن أساس التوترات: انتشار الشائعات والمعلومات المضللة والجهل وهي عوامل يمكنها أن تحوّل خلافات شخصية بسيطة إلى أعمال عنف بين الطائفتين القبطية والمسلمة.
وكانت الحادثة الأغرب وقعت في تموز/يوليو 2016، عندما بدأ مواطن بالبناء على قطعة أرض يملكها. فقد سرت شائعة بأنه يرغب ببناء كنيسة فيها – ما أسفر عن شجارات هائلة وإحراق أربعة منازل لمواطنين لا علاقة لهم بالموضوع. والغريب أن هذه الحادثة حصلت بعد تعرض أحد مباني الخدمات التابع لكنيسة العذراء مريم في قرية البيضاء غرب الإسكندرية لهجمات نفذها محتجون بسبب شائعة أخرى لا أساس لها حول نية بتحويل المبنى إلى كنيسة أخرى.
ويمكن لخلافات شخصية بسيطة أن تحتدم بسبب هذه الشائعات الغامضة التي يبثها البعض عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ما يشعل فتيل الاختلافات والنزاعات وأعمال العنف. ويمكن أساسًا عزو السبب إلى الجهل والأمية – التي تنتشر في أوساط 25 في المائة من الشعب المصري – إلى جانب غياب ثقافة الحوار وتقبل الأخر. والأخطر من ذلك هو الظروف الاقتصادية التي ترهق الكثير من المصريين الذين هم ضحية الأخبار الكاذبة، مما يتسبب قفى إشعال الأزمة وإعادة توجيه الغضب القائم.
رمزية مجمع الأديان
بدلًا من ذلك، يجب أن يتعلم المصريون التاريخ من أماكن في مصر لا تزال تبعث حسًا من الانسجام بين الأديان. فقبل عدة أيام، قررت أن أزور "مجمع الأديان" في القسم القديم من القاهرة في محطة مترو "مار جرجس". وبعد خروجي من المحطة، وجدت نفسي في شارع مغلق مع بعض المشاة، حيث كان البعض يجلس على الرصيف وكأنهم في نزهة، يتناولون وجبات خفيفة ويتبادلون أطراف الحديث. وبدأت أستكشف المنطقة برفقة صديقة لي. انطلقنا في جولتنا من زقاق القديس جرجس، وما فاجأني أنه في بداية هذا الزقاق الصغير المليء تقريبًا بمصريين أقباط والذي يربط بين عدد من الكنائس القبطية وكنيس يهودي، لاحظت وجود كتب إسلامية على غرار الخلافة الفاطمية في مصر، والخلافة الأموية وكتب عن صلاح الدين الأيوبي وشخصيات بارزة في الإسلام.
وواصلنا جولتنا على صوت أم كلثوم الذي كان يصدح من أحد المتاجر بينما كنا أنا وصديقتي نتوجه لزيارة الكنيسة المعلقة وبعدها كنيسة مار جرجس ومن ثم كنيسة أبو سرجة (أو "القديسين سرجيوس وباخوس"). ولم يرمق أحد صديقتي التي كانت ترتدي الحجاب بنظرات غريبة أو يتهامسون عليها خلال زيارتنا لمعظم كنائس "مجمع الأديان" – في ردّ فعل شكّل مفاجأة سارة لي. حتى أن أحدًا لم يوجه لنا أي تعليق أو سؤال مباشر باعتبارنا شاب وشابة مسلمين حول رغبتنا في دخول الكنائس أو التجول فيها.
وناهيك عن المعلومات التاريخية والدينية التي اكتشفناها، سررت أكثر عند رؤية المسلمين يزورون المجمع ويتجولون بين مختلف معالمه الدينية بهدف التعرف إلى المواقع التاريخية الموجودة في بلادهم، وهم مسرورون ويلتقطون الصور. وأردنا أيضًا زيارة كنيس بن عزرا، المسمى تيمنًا بعزرا الكاتب، أحد أعظم كهنة اليهود، ولكننا عجزنا عن ذلك لأن الكنيس كان مقفلًا لمدة ثمانية أشهر بسبب فيروس كورونا.
ويبعد جامع عمرو بن العاص مسافة أقل من 50 مترًا عن الكنيس، وهو أحد أقدم الجوامع في القاهرة وقد يكون البناء الإسلامي الأول في مصر. ولسوء الحظ، ورغم أن الجامع كان مفتوحًا لأداء الصلوات الخمس، أبلغنا الحارس عند البوابة أن التجول في الداخل لرؤية الخصائص التاريخية الشهيرة ممنوع أيضًا بسبب فيروس كورونا.
مع ذلك، وخلال تجولنا في جوار الكنيس، تذكرت تصريحات الشخصية الإعلامية البارزة ماجدة هارون، رئيسة الطائفة اليهودية في مصر، حين قالت "كنت متزوجة من رجل مسلم وأنجبت منه ابنتين مسلمتين، ومن ثم تزوجت مرة ثانية من رجل كاثوليكي". وتابعت أنه في عائلتها، "يحتفلون بكافة المناسبات الدينية. نحتفل بالمناسبات اليهودية مع والدتي. ونذهب إلى الصلاة في الكنيسة في 24 كانون الأول/ديسمبر، عشية عيد الميلاد، كما نحتفل بشهر رمضان". وبالتالي، إنها مثال عن أسرة مصرية تجمع الأديان الثلاثة معًا.
وعلى غرار جزء كبير من تاريخ مصر، يُعتبر "مجمع الأديان" مجمعًا أثريًا قديمًا تمكن من جمع معالم الأديان الثلاثة جميعها بسلام وتسامح لمئات السنين. وهو برهان على ماضي مصر الديني المشترك أكثر منه بناء حديث مصمم لجمع مواقع دينية مقدسة لأهداف سياحية؛ لا بل أعتقد أنه يمكن اعتبار المجمع رمزًا لمصر اليوم: فقد أوجد الله الأديان الثلاثة لنشر التسامح والمحبة بدون تمييز، وتقع علينا مسؤولية التعايش معًا تمامًا كهذه المواقع المقدسة. ورغم أن هذا المجمع لا يحظى، لسوء الحظ، بالتغطية الإعلامية المحلية أو الدولية التي يستحقها، يجب اعتباره رمزًا للسلام؛ سواء للمصريين أو للعالم الأشمل.