لا يُعد تقليص برامج المساعدات خطأً بحد ذاته، لكن تطبيقه دون إجراء تقييم شامل لمدى تأثيره على الحلفاء الإقليميين وحياة الأمريكيين قد يكون له عواقب وخيمة على السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.
بعد أسبوعين فقط من تولي مهامها، شرعت إدارة ترامب في تنفيذ أكثر الإصلاحات جذرية لبرنامج المساعدات الخارجية الأمريكية منذ عقود. وستؤدي التخفيضات المقترحة في التمويل والموظفين إلى تداعيات واسعة النطاق حول العالم، لا سيما على استثمارات الولايات المتحدة في استقرار الشرق الأوسط.
تفويض فوري للتغيير
في أحد أوامره التنفيذية الأولى التي أصدرها عند توليه منصبه، فرض ترامب تجميداً مؤقتًا لمدة تسعين يومًا على جميع المساعدات الخارجية إلى أن يقرر المسؤولون أن كل برنامج "يتوافق تمامًا مع السياسة الخارجية لرئيس الولايات المتحدة". وأكد وزير الخارجية ماركو روبيو بعد ذلك أن برامج المساعدات يجب أن تجعل أمريكا أكثر أمنًا وقوة وازدهارًا، وإلا ستخضع للمراجعة. على سبيل المثال، بعد تعيينه مديراً بالوكالة للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في 3 فبراير/شباط، منح روبيو معظم الموظفين المحليين والخارجيين إجازة إدارية، وصار مستقبل الوكالة الآن محط تساؤلات، يتجاوز مسألة التمويل.
ويتيح الأمر التنفيذي الذي أصدره ترامب لروبيو استثناء بعض البرامج من التجميد المؤقت لمدة تسعين يومًا. إذ شمل هذا الاستثناء في البداية المساعدات العسكرية المقدمة لإسرائيل ومصر، وكذلك المساعدات الغذائية في جميع أنحاء العالم. وفي 28 كانون الثاني/يناير، أصدر روبيو إعفاءً إضافيًا شمل "المساعدات الإنسانية المنقذة للحياة"، مما ترك مديري برامج المساعدات والشركاء المحليين في حالة من عدم الوضوح بشأن الأنشطة التي تندرج ضمن هذا التصنيف. علاوة على ذلك، قد يؤدي إلغاء المساعدات إلى فقدان الإدارة الأمريكية أداة حيوية لتعزيز مصالحها، خاصة فيما يتعلق بقراراتها الاستراتيجية المقبلة بشأن العراق والأردن ولبنان وسوريا ودول أخرى في الشرق الأوسط.
الأرقام
في السنة المالية 2022/2023، أفادت التقارير أن الحكومة الأمريكية أنفقت 11 مليار دولار على المساعدات العسكرية والاقتصادية في الشرق الأوسط، معظمها في شكل مساعدات ثنائية. وذهبت الغالبية العظمى من المساعدات العسكرية البالغة 5.5 مليار دولار - المصنفة رسمياً كتمويل عسكري أجنبي - إلى إسرائيل ومصر (دون احتساب الأموال التكميلية لإسرائيل). أما معظم المبلغ المتبقي فقد تم تخصيصه لدعم القوات المسلحة في العراق والأردن ولبنان. وبدون هذا التمويل، سيفتقر شركاء الولايات المتحدة إلى المعدات والقدرات والتدريب الضروري لمواجهة الجماعات الإرهابية والجهات المعادية في المنطقة. كما يوفر التمويل العسكري الخارجي فرص عمل في الولايات المتحدة من خلال دعم إنتاج المعدات الأمريكية محلية الصنع، ومنع الدول من الاعتماد على الصين أو روسيا لشراء هذه المعدات.
وعلى الصعيد الاقتصادي، أنفقت الحكومة حوالي 5.6 مليار دولار لدعم برامج الصحة والرعاية الاجتماعية وغيرها من برامج المساعدات في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في السنة المالية 2022/23.. وتعمل بعض هذه البرامج بشكل مستمر منذ سنوات، مما يجعلها هدفاً للتخفيض. غير أن إلغاء شبكة الأمان هذه قد يقوض الاستقرار الاجتماعي في الدول الحليفة للولايات المتحدة. حاليًا، يشمل أكبر المستفيدين من المساعدات الاقتصادية الأمريكية في الشرق الأوسط الاتي:
- الأردن: 1.3 مليار دولار
- سوريا: 900 مليون دولار
- اليمن: 833 مليون دولار
- لبنان: 454 مليون دولار
- العراق: 342 مليون دولار
- مصر: 224 مليون دولار
- المغرب: 175 مليون دولار
- تونس: 150 مليون دولار
- الضفة الغربية وغزة: 112 مليون دولار
- ليبيا: 73 مليون دولار
تتلقى الجزائر ودول الخليج تمويلاً محدوداً فقط، يركز بشكل أساسي على المشاركة في برامج التدريب.وتخصص الولايات المتحدة الجزء الأكبر من مساعداتها الاقتصادية للمساعدات الإنسانية، بينما يوزع المتبقي على الفئات التالية:
- التنمية الاقتصادية: 1.1 مليار دولار
- التعليم والخدمات الاجتماعية: 383.7 مليون دولار
- السلام والأمن: 271.4 مليون دولار
- الديمقراطية وحقوق الإنسان والحكم: 264.9 مليون دولار
- الصحة: 224.6 مليون دولار
- البيئة: 15.15 مليون دولار
- القطاعات المتعددة: 12.85 مليون دولار
تخضع جميع هذه البرامج حاليًا للمراجعة الدقيقة إن لم يكن للإلغاء الكامل. ويواجه مبلغ 270 مليون دولار المخصص لدعم وإدارة برامج المساعدة خطرًا متزايدًا. كما تتعرض صناديق الديمقراطية والصحة والبيئة لخطر الإلغاء، إما لتعارضها مع سياسات الإدارة المحلية في بعض الحالات، أو سعياً لتوزيع الأعباء العالمية في حالات أخرى. في المقابل، تتمتع صناديق السلام والأمن - المتضمنة برامج مكافحة الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، والتدريب الأمني - بفرص أكبر للاستمرار.
وقد تؤثر هذه التخفيضات أيضاً على قدرة واشنطن وقدرتها على تقديم المساعدات الطارئة في حالات الإغاثة العاجلة. ففي أيلول/سبتمبر، أعلنت الإدارة الأمريكية السابقة عن تخصيص مساعدات إنسانية إضافية بقيمة 535 مليون دولار لسوريا و336 مليون دولار للضفة الغربية وغزة (بالإضافة إلى مبلغ 404 مليون دولار الذي تلقته المنطقتان الأخيرتان في حزيران/يونيو). وفي أيار/مايو، تمت الموافقة على 220 مليون دولار كمساعدات إنسانية إضافية لليمن.
غير أن الإنفاق لا يمثل سوى جزء من المشهد، فالإدارة الأمريكية تحتاج إلى حسم قضايا جوهرية في سياساتها تجاه عدة دول قبل اتخاذ قرار بشأن رفع التجميد أو تعديله أو إلغاء المساعدات.
لبنان
أثار دعم الولايات المتحدة للقوات المسلحة اللبنانية جدلاً متزايداً خلال العقدين الماضيين وذلك بعد تواطؤ الجيش في استيلاء "حزب الله “على البلاد بحكم الأمر الواقع. ومع القضاء على حزب الله عسكرياً من قبل إسرائيل، بات ضرورياً الحفاظ على - أو زيادة - المساعدات البالغة 130 مليون دولار للجيش اللبناني. ففي غياب هذه المساعدات، سيواجه الجيش صعوبات في الحفاظ على جاهزيته وتحفيز قواته أثناء تنفيذ مهامه الواسعة ، بدءاً من التنفيذ الكامل لوقف إطلاق النار مع إسرائيل وصولاً إلى نزع سلاح "حزب الله" في جميع أنحاء البلاد.
وفي ضوء الدور الذي تلعبه "القوات المسلحة اللبنانية" في تحقيق هدف استراتيجي للأمن القومي الأمريكي، يتعين على الوزير روبيو منح إعفاء فوري لضمان استمرار المساعدات إلى هذه القوات. ومن شأن ذلك أن يساعد في طمأنة أفراد القوات المسلحة اللبنانية بأنهم لن يُتركوا وحدهم، في الوقت الذي تطلب فيه واشنطن وشركاؤها منهم تولي مهمة خطيرة ومحفوفة بالمخاطر السياسية تتمثل في مواجهة "حزب الله".
العراق وسوريا
أظهرت الحكومة الأمريكية اهتماماً طويل الأمد بدعم قوات الأمن العراقية، حيث استثمرت 1.25 مليار دولار لتحسين قدراتها منذ عام 2015. وفي السنة المالية 2022/23، تلقت بغداد 250 مليون دولار من المساعدات العسكرية. ومن المتوقع أن يؤدى تقليص هذا الدعم إلى زيادة تفاقم المخاطر المحلية على المصالح الأمريكية والأفراد الأمريكيين، لا سيما في ظل تصاعد تهديدات الميليشيات المدعومة إيرانياً، التي لا تزال تشكل عائقًا رئيسيًا أمام الاستقرار الإقليمي، والتي سبق أن أضرّت بسمعة إدارة ترامب ووجهت تهديدات علنية.
أما في سوريا، فيتحتم على واشنطن أن تتبنى نهجًا جديدًا لدعم البلاد خلال مرحلة تحولها العميق بعيدًا عن حقبة الأسد، بدلًا من السعي إلى قطع المساعدات. فالولايات المتحدة لديها مصلحة أمنية قومية واضحة في تقديم مساعدات عاجلة ومشروطة بشكل معقول في مجال الحكم للقيادة الجديدة والفاعلين المحليين خلال سعيهم لإرساء ترتيب مستقر بين الفصائل في البلاد. والأهم من ذلك أنه يجب إعادة توفير جميع الخدمات إلى معتقل "الهول" من أجل الحد من نفوذ تنظيم "داعش" على الآلاف من نزلاء المخيم، الذين يرتبط الكثير منهم بالتنظيم أو يتعاطفون مع أيديولوجيته. ومع ذلك، من شبه المؤكد أنه سيتم تجميد برامج المساعدات الإنسانية الأخرى التي تهدف الى معالجة العنف القائم على النوع الاجتماعي . ويقال إن ترامب يسعى أيضاً إلى سحب القوات الأمريكية من شرق سوريا، حيث كان لمهمتها دور محوري في إضعاف تنظيم"داعش" – وهي مسألة منفصلة لكنها حاسمة، سيتم مناقشتها في تحليل سياسي مستقبلي.
الضفة الغربية وقطاع غزة
من المتوقع أن تخضع المساعدات المقدمة للفلسطينيين لتدقيق غير مسبوق بسبب حرب غزة. فقانون "تايلور فورس" لعام 2018 يحظر بالفعل تقديم المساعدات الأمريكية المباشرة إلى السلطة الفلسطينية إلى أن تتوقف عن دفع رواتب السجناء العنيفين وعائلات ”الشهداء" المرتبطين بأعمال إرهابية. ومع ذلك، ترى المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن دعم قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية يصب في مصلحتها لأنها تقلل الحاجة إلى قيام إسرائيل ببعض العمليات العسكرية الخاصة. كما يظل السؤال الاستراتيجي حول الجهة التي ستتولى إدارة وتأمين غزة وحكمها بعد الحرب قائمًا، وأي قرارات جديدة بشأن المساعدات قد تؤثر بشكل مباشر على قدرة السلطة الفلسطينية على تعزيز وجودها في القطاع كبديل محتمل لـ "حماس".
وبالطبع، أعلنت الحكومة الإسرائيلية الحالية مرارًا وتكرارًا رفضها عودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، كما أن تصريح الرئيس ترامب الأخير حول إمكانية إخلاء القطاع من السكان يزيد المشهد تعقيدًا. ومع ذلك، فإن وقف المساعدات عن قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية في ظل تصاعدالاضطرابات في الضفة الغربية سيكون خطوة محفوفة بالمخاطر. وبدلاً من ذلك، ينبغي تأجيل قرارات التمويل إلى أن يتسنى لمبعوث الرئيس ترامب للشرق الأوسط ستيف ويتكوف الوقت الكافي للتفاوض بشأن مستقبل غزة.
الأردن
يُعد استقرار الأردن ركيزة أساسية لاستقرار منطقة الشرق الأوسط وأمن إسرائيل على حد سواء. وسيحظى الملك عبد الله الثاني بفرصة مهمة لإيصال هذه الرسالة مباشرةً إلى ترامب عندما يعقدان محادثات في البيت الأبيض في 11 شباط/فبراير - وهو أول لقاء للرئيس مع زعيم عربي خلال ولايته الجديدة. إلا أن الملك لا يمكنه اعتبار العلاقة الثنائية القوية تاريخياً أمراً مسلمًا به، فالأردن يعتمد بشكل كبير على دعم الولايات المتحدة لاقتصاده وجيشه حيث يتلقى حوالي 780 مليون دولار سنوياً كدعم مباشر للميزانية، وهو مستوى من الدعم لا يحظى به أي بلد آخر باستثناء أوكرانيا.
وخلال فترة رئاسته الأولى، أعرب ترامب عن اعتراضه على تكلفة المساعدات المقدمة للأردن لكنه قرر في نهاية المطاف عدم قطعها. وقد يشير التجميد الجديد للمساعدات إلى أن الرئيس يعيد النظر في هذا القرار. علاوة على ذلك، تحدى ترامب علناً الهوية السياسية للمملكة من خلال اقتراحه أن يستقبل الأردن ومصر اللاجئين من غزة - وهي قضية وجودية حساسة بالنسبة لعمان. وإذا هدد ترامب بقطع المساعدات عن الأردن خلال زيارة الملك أو بعدها، فقد يؤدي ذلك إلى إحداث تصدع في العلاقة، مع تداعيات غير واضحة على قدرة عمّان ،ناهيك عن استعدادها لاستقبال المزيد من اللاجئين.
وفي الواقع، يجب أن تكون السياسة هي العامل المحدد لمستويات المساعدات الأمريكية، وليس العكس. ومهما كان قرار الرئيس، فإن الاعتراف بأهمية الدور الأردني في استقرار المنطقة يُعدّ الخطوة الأولى نحو صياغة سياسة متماسكة وفعالة.
خاتمة
اختارت إدارة ترامب إجراء مراجعة شاملة لمؤسسة المساعدات قبل اتخاذ أي قرارات سياسية كبيرة. ومع مضي الإدارة الأمريكية قدماً في عملية المراجعة هذه، سيتعين عليها تحديد القضايا والدول التي تمثل أولوية بالنسبة للولايات المتحدة، وبالتالي الأكثر استحقاقاً للدعم الأمريكي. ويستلزم ذلك وضع معايير محددة لتعريف مفهوم السياسة الخارجية "الأكثر أمناً وقوة وازدهاراً" بشكل عملي، لا سيما فيما يتعلق بالقضايا الاستراتيجية. ومن ثم، يمكن لعملية مراجعة المساعدات الخارجية أن تسهم في تحديد البرامج الحالية التي تعزز أمن الولايات المتحدة واستقرارها وازدهارها، وأيها يمكن إلغاؤه بأمان دون تعريض الحلفاء أو الأمريكيين للخطر.