- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 2679
«معركة التوأم» في ليبيا: مواجهة تنظيم «الدولة الإسلامية» ودعم الوحدة الوطنية
في الأول من آب/أغسطس، بدأت الولايات المتحدة بشن غارات جوية على معقل تنظيم «الدولة الإسلامية» في ليبيا. وبالرغم من أن الانتصار البارز على التنظيم يبدو مضموناً إلا أن شرعية "حكومة الوفاق الوطني" مهدّدة نتيجة التناحر السياسي مع السلطة الحاكمة السابقة، أي مجلس النواب، الذي مقرّه في شرق البلاد. وقد تُحدّد الأسابيع القليلة المقبلة ما إذا كانت ليبيا ستنجح في الحفاظ على ما يشبه بالوحدة الوطنية أم تنخرط في حرب أهلية أخرى، تترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية عودة تنظيم «الدولة الإسلامية» إلى الواجهة، وهذا هو السبب بالذات الذي دفع الولايات المتحدة إلى شن هجومها هذا الصيف.
الإنجازات العسكرية
استهدفت الغارات الأمريكية التي بدأت في الأول من آب/أغسطس المواقع تحت سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» والمعدات العسكرية الثقيلة في مدينة سرت الساحلية وسط ليبيا، التي سيطر عليها تنظيم «الدولة الإسلامية» وحكمها منذ أوائل عام 2015. وقد بدأت الغارات الجوية بسبب فشل ميليشيات مصراتة في الاستمرار في عملياتها بعد أن أجبرت التنظيم على التراجع إلى وسط المدينة في أوائل تموز/يوليو، وبدأت تعاني من خسائر كبيرة في صفوفها من قبل القناصة وبسبب العبوات الناسفة (انظر "الولايات المتحدة تقصف مواقع تنظيم «الدولة الإسلامية» في ليبيا"). وكان الدافع وراء قرار الولايات المتحدة هو طلب خاص من رئيس الوزراء الليبي فايز السراج بمساعدة القوات الليبية المحلية في جهودها الرامية إلى تحرير المدينة. وبالتالي فقد كان للعملية هدفين هما، هزيمة تنظيم «الدولة الإسلامية» في ليبيا ودعم السراج و"حكومة الوفاق الوطني".
وقد تم تنفيذ الغارات الجوية ضد التنظيم من قبل مروحيات "كوبرا" هجومية وطائرات نفاثة من طراز "مارين إيه في-8 بي هارير" وطائرات بدون طيّار من طراز "أم كيو 9 ريبر". وتقلع الطائرات المأهولة من حاملة الطائرات "يو أس أس واسب"، قبالة السواحل الليبية، بينما يتم إطلاق الطائرات بدون طيّار من طراز "أم كيو 9" من الأردن ومن قاعدة "سيغونيلا" الجوية في إيطاليا، بعد موافقة السلطات الإيطالية على استخدام تلك القاعدة في وقت سابق من هذا الشهر.
واعتباراً من 21 آب/أغسطس، نفّذت الولايات المتحدة عملية عسكرية أُطلق عليها «عملية برق أوديسا» - نسبة إلى «عملية فجر أوديسا»، التي نُفذت في آذار/مارس 2011، قبل قيام حلف "الناتو" بـ "عملية الحامي الموحّد" التي تولت مهمة حماية المدنيين ضد قوات الزعيم السابق معمر القذافي. وقد شَنّت «عملية برق أوديسا» 74 غارة استهدفت مجموعة من الدبابات والمركبات القتالية المدرّعة والسيارات المفخّخة والمواقع العسكرية. وعلى الرغم من استمرار المعركة على سرت، وحيث لا تزال تشمل مقاومة عنيفة من قبل مقاتلي تنظيم «الدولة الإسلامية» الذين شنّوا خمس هجمات بسيارات مفخّخة في 17 آب/أغسطس وحده، إلا أن مسار المعركة قد تغيّر بعد أن تمكنت الميليشيات المحلية من السيطرة على "مركز واغادوغو للمؤتمرات" في 10 آب/أغسطس. سيتعيّن على "حكومة الوفاق الوطني" والدول المناصرة لها محاربة النسخة الثانية من تنظيم «الدولة الإسلامية» الذي سيبقى قادراً على تنظيم هجمات مميتة على أهداف ليبية أو تونسية أو ربما أوروبية من مناطق غير خاضعة لسيطرة الحكومة في جنوب ليبيا.
وقد نفت وزارة الدفاع الأمريكية قيام قواتها البرية بتقديم الدعم المباشر إلى «عملية برق أوديسا»، بالرغم من دخول عدد محدود من "القوات الخاصة الأمريكية" إلى ليبيا ومغادرتها منذ بداية هذا العام، بهدف جمع المعلومات الاستخبارية عن الميليشيات المختلفة والحلفاء المحتملين. ووفقاً لتقرير صحيفة "واشنطن بوست" من 9 آب/أغسطس، فبالرغم من عدم مشاركة القوات الأمريكية في وحدات التحكم الجوي على الخطوط الأمامية، إلا أنه من المرجح أنها تتولى تنسيق الأهداف من أحد مراكز عمليات الميليشيا، بمساعدة أصول الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع. بالإضافة إلى ذلك، ووفقاً للمصادر المباشرة، قدمت "القوات الخاصة البريطانية" دعماً فعلياً في المهام القتالية والاستشارية إلى الميليشيات.
وتجسّد معركة سرت جزءاً صغيراً بل أساسياً من الجهود التي تبذلها الإدارة الأمريكية لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية»، وهو الأمر بالنسبة لعملية «العزم التام» في العراق وسوريا. وعلى سبيل المقارنة، استتبعت العمليات العسكرية في العراق وسوريا شن 349 غارة جوية (180 في سوريا و169 في العراق) منذ بداية آب/أغسطس، ويساوي هذا الرقم تقريباً خمسة أضعاف وتيرة العمليات العسكرية التي تضمنتها «عملية برق أوديسا». إلا أن أوجه التباين بين المهمتين العسكريتين عديدة وأوّلها النطاق الجغرافي. فسوريا والعراق تتمتعان بمساحات شاسعة على العكس تماماً من المناطق الحضرية المحاصرة في مدينة سرت. كذلك، لدى الولايات المتحدة عشرات من القوات على الأرض في العراق وتحظى بدعم تحالف دولي واسع يزوّدها بالطائرات والجنود. كما تتضمن الغارات [في العراق وسوريا] قذائف موجهة عن بعد، التي ليست سمة من سمات «عملية برق أوديسا». ومع ذلك، فإن المقارنة مفيدة في توفير المعلومات حول عدد الإنجازات التي يمكن تحقيقها في وقت قصير باستخدام الدعم السياسي والقوى المحلية على الأرض بصورة منسَّقة وصحيحة. هذا، وقد بدأت عملية «العزم التام» في أواخر عام 2014 ولم تحقق إنجازات مهمة سوى خلال الأشهر القليلة الماضية.
شرعية "حكومة الوفاق الوطني" معرضة للخطر
إذا كان تحقيق النصر الوشيك على تنظيم «الدولة الإسلامية» يهدف إلى مساعدة "حكومة الوفاق الوطني"، فإن تلك الاستراتيجية قد تلقت ضربة قوية في 22 آب/أغسطس بعد أن عقد مجلس النواب الليبي، بصورة مفاجئة، جلسة مكتملة النصاب القانوني للمرة الأولى منذ أشهر، وصوّت ضد تشكيل مجلس وزراء "حكومة الوفاق الوطني". ومن المحتم أن يثير هذا القرار تفسيرات متعددة. فالمعارضين المحليين لـ "حكومة الوفاق الوطني" سينادون بضرورة حل مجلس الوزراء فوراً وتعيين رئيس وزراء جديد، كما يجب أن تتم الموافقة على حكومة رئيس الوزراء من قبل مجلس النواب. أمّا الداعمين لـ "حكومة الوفاق الوطني"، فسيحتجون على التصويت حيث لم يكن بنداً مدرجاً على جدول أعمال جلسة مجلس النواب وهو بالتالي غير قانوني. وسيجادلون أيضاً على أن التصويت جاء متأخراً وغير مهيأ - بإشارتهم إلى مرور أشهر لم يتم خلالها اكتمال النصاب القانوني لعقد جلسات مجلس النواب، والخطوات المحددة التي اتُخذت من قبل رئاسة مجلس النواب لعرقلة الأصوات المحتملة التي من شأنها معارضة مصالحها، والبند في "الاتفاق السياسي الليبي" لعام 2015 المبرم بوساطة الأمم المتحدة والذي ينص على منح الصفة الرسمية لـ "حكومة الوفاق الوطني" على أثر فشل مجلس النوب في عقد جلسة مكتملة النصاب القانوني لفترة دامت شهر واحد بعد قيام السراج بتعيين وزراء حكومته في شباط/فبراير.
ومن السابق لأوانه التنبؤ بالتأثير الكامل الذي سيخلِّفه التصويت الذي جرى في 22 آب/أغسطس، ولكن من المؤكد أن تساهم التطورات في تفاقم الخلافات بين "حكومة الوفاق الوطني" في طرابلس ومجلس النواب في شرق البلاد. كما سيساهم التصويت في تعقيد الجهود الرامية إلى إحداث نوع من تسوية مؤقتة بين مختلف القوات المسلحة في ليبيا، بما فيها ميليشيات مصراتة التي تحملت العبء الأكبر من القتال في سرت، بالإضافة إلى أقسام من "الجيش الوطني الليبي" بقيادة اللواء خليفة حفتر الذي لا يزال يعارض "حكومة الوفاق الوطني" ويدعم أطراف مجلس النواب. ويقود حفتر حملة عسكرية منفصلة ضد الميليشيات الإسلامية في بنغازي.
كما أن تصويت مجلس النواب سيعرض للخطر الاتفاقية الأخيرة بين "حكومة الوفاق الوطني" وإبراهيم الجضران، آمر جهاز "حرس المنشآت النفطية" الليبية، وموضوعها إعادة فتح ثلاث محطات رئيسية لتصدير النفط. ونظراً للفائدة التي تعود بها الاتفاقية على "حكومة الوفاق الوطني"، هددت قوات حفتر جهاز "حرس المنشآت النفطية" وحذّرت ناقلات النفط المقتربة من شحن النفط الليبي. وحالياً، تقوم إحدى ناقلات النفط المذكورة بشحن النفط المخَزَّن منذ فترة طويلة في ميناء الزويتينة، حيث توجد خطط لنقله إلى مصفاة التكرير في غرب ليبيا. وإذا نفّذ حفتر تهديداته، ستتم عرقلة الجهود المحتملة لإنعاش الاقتصاد الليبي بشكل هائل؛ وإذا تراجع عنها، فستجسّد تلك الخطوة مثالاً آخر عن فشل اللواء في الالتزام بوعوده تماماً، كما سبق أن فشل في الماضي في تحقيق الانتصارات العسكرية التي وعد بها. ومرة أخرى، قد يكون مصير ليبيا رهن قرارات رجل واحد غريب الأطوار.
خيارات للمستقبل
لا تزال سياسة الولايات المتحدة تجاه ليبيا تواجه سلسلة أخرى من الخيارات المعقّدة. والأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي، هل يتعيّن على الولايات المتحدة الاستمرار في دعم "حكومة الوفاق الوطني" بقيادة السراج بغض النظر عن تصويت مجلس النواب؟ هل يتعيّن على واشنطن الإقرار بأن التصويت يعرقل جهود الدعم في تشكيل "مجلس الرئاسة" الحالي في عهد السراج، فيعيد بالتالي فتح النقاش بموجب "الاتفاق السياسي الليبي" حول كيفية تنفيذ آلية نقل السلطة الليبية؟ وعلى نطاق أكثر شمولية، هل يتعيّن على الولايات المتحدة تعزيز تحالفاتها السياسية مع الأطراف الليبية والجهات الفاعلة الخارجية ذات الصلة، والتي تشمل اللاعبين الإقليميين، أو يجب عليها أن تتوقف عن التدخل وتترك الشعب الليبي يقرّر الطريق الناجع للمضي قُدُماً؟
الوقوف مع أحد الجانبين؟ تكمن الميزة الرئيسية في مواصلة دعم السراج في العلاقة الوطيدة التي تربط واشنطن برئيس الوزراء. ومهما كان الجهاز الحاكم بقيادة السراج ضعيفاً، يمكن تعزيزه تدريجياً بتقديم الدعم التقني واعتماد رسالة واضحة بأن الدعم العسكري الأمريكي سيتوفر عن طريق السراج وحده. (تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الجهود لبناء القدرات تواجه عراقيل سببها غياب الاجتماعات المنعقدة بصورة منتظمة وجهاً لوجه بين الموظفين [الرسميين] الأمريكيين والمسؤولين الليبيين، وذلك لأن السفارة الأمريكية في البلاد تنفذ أعمالها من تونس ولأن الدبلوماسيين الأمريكيين لم يزوروا طرابلس منذ عامين). أما عامل الخطر الرئيسي في هذه المقاربة، فيتجسّد في عزل قطاعات رئيسية في البلاد، وخاصة في الشرق، مما يؤدي بالتالي إلى وضع السراج في موقف أكثر هشاشة وإظهاره كدمية تحرّكها دول الغرب، وهذه هي الصورة التي بدأ السراج يقاومها بالفعل.
تجديد الدبلوماسية. في إطار سيناريو مثالي، قد تنجم عن المحادثات الإضافية بين الفصائل في ليبيا، بوساطة الأمم المتحدة، اتفاقية يقرّ بموجبها مجلس النواب بـ "الاتفاق السياسي الليبي"، مع إدخال تغييرات متواضعة على الحكومة، ويوافق على استلام مهام الهيئة التشريعية متيحاً في الوقت نفسه لـ "مجلس الرئاسة" باستلام مقاليد الحكم. ولكن، في أغلب الظن، تتطلب هذه العملية عدة أشهر من المفاوضات وسيتعيّن على الحكومة الجديدة البدء بمعالجة التحديات التي تواجهها ليبيا من موقف أقل ضعفاً من ذلك الذي وُضعت فيه الحكومة الحالية.
أمّا السيناريو الأكثر ترجيحاً، فيشير إلى استمرار الجمود في السياسة الأمريكية الحالية القائمة على: دعم السراج و"حكومة الوفاق الوطني" والبحث في الوقت نفسه عن صيغة لإشراك مجلس النواب وحفتر في العملية السياسية. وقد تبدو هذه المقاربة منطقية لو لم يكن تصويت المجلس النيابي في 22 آب/أغسطس سوى عقبة صغيرة. ولكن، إذا تحول ذلك التصويت إلى عائق كبير، فسيتعيّن على صانعي السياسة الأمريكيين إعادة تحديد مفهوم طبيعة الدعم الأمريكي الشامل لـ "حكومة الوفاق الوطني" أو على الأقل كيف تحدّد "حكومة الوفاق الوطني" موقفها من القوى السياسية في شرق ليبيا.
بين فيشمان، هو مساعد باحث سابق في معهد واشنطن، ومحرر كتاب "شمال أفريقيا في مرحلة انتقالية: النضال من أجل الديمقراطية والمؤسسات" الذي صدر عام 2015. وقدعمل ايضاً ضمن طاقم "مجلس الأمن القومي" الأمريكي في الفترة 2009-2013، من بينها مديراً لشؤون شمال أفريقيا والأردن.