- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
معركة واحدة، ولكن 'ست حملات'
الخبر السار هو أن القوات العراقية ودول التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة بدأت تشن هجوماً نهائياً على تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») في الموصل. وقد استقطب هذا الصراع اهتماماً إعلامياً بالغاً، حتى لم يسلم من الحملات الرئاسية الأمريكية، ولأسباب وجيهة. فالأمور الموجودة على المحك كمّاً (حجم قوات التحالف، وحجم المدينة وعدد السكان) ونوعاً (المغزى الرمزي من الموصل، التي أعلن فيها زعيم تنظيم «الدولة الإسلامية» أبو بكر البغدادي خلافته؛ ومخاوف دبلوماسية وسياسية وإنسانية معقدة لها أثرها على المعركة) هي أكبر اليوم من المعارك السابقة ضد تنظيم «داعش».
أما الخبر (المحتمل) السيء فهو أن الموصل هي أكبر بكثير من مجرد صورة مكبّرة عن المعركة الأخيرة لاستعادة السيطرة على الفلوجة. فإلى جانب المعركة بحد ذاتها والصراعات التي ستخلفها في "اليوم التالي"، هناك أربعة عناصر استراتيجية متداخلة في هذه المعركة، هي: استعادة المصداقية العسكرية الأمريكية، والقضاء على تنظيم «الدولة الإسلامية» بشكل نهائي، وردع إيران، وإنقاذ العراق. ولهذا السبب، ثمة ست حملات تتوقف على ما سيحدث في الموصل.
ويستدعي فهم الحملات الاستراتيجية الأخذ بأساسيات الشرق الأوسط كنقطة انطلاق، وتشمل هذه: الفوضى الإقليمية التي تؤججها القوى الإسلامية العنيفة المناهضة لنظام الدولة والنظام الدولي بصبغتها المتطرفة السنية (تنظيم «الدولة الإسلامية»، تنظيم «القاعدة») والشيعية (إيران وحلفائها) من جهة، وفشل الولايات المتحدة في فهم المنطقة (إدارة بوش الأولى) أو في الحفاظ على النظام (إدارة أوباما، بصرف النظر عن الاتفاق النووي الإيراني، وفي بعض الأحيان، مكافحة الإرهاب) من جهة أخرى.
وسيؤدي الانتصار في الموصل بقيادة الولايات المتحدة إلى "الفوز" بالحملة الاستراتيجية الأولى - وتحديداً استعادة أمريكا لسمعتها كاللاعب العسكري الأكثر فعالية. بيد أن الدفاع بنجاح عن النظام الإقليمي يستلزم ما هو أكثر من مجرد قوة. فسوف يتطلب دبلوماسية وسياسة بشأن الطاقة وقيم وما إلى ذلك، إلا أن القوة تبقى الركيزة الأساسية التي تقوم عليها سائر الأمور الأخرى. وباستثناء ليبيا، لم تستخدم إدارة الرئيس أوباما القوة إلا ضد الجماعات الإرهابية وبشكل عشوائي أحياناً (خطة الانسحاب من أفغانستان ورد الفعل الأولي الشاحب تجاه تنظيم «الدولة الإسلامية»)، ولكنها لم [تفلح في] احتواء مطامع إيران الإقليمية أو تتعامل مع الرئيس السوري بشار الأسد أو ترد على نحو فعال على الدخول الروسي إلى سوريا.
وصحيحٌ أن الانتصار في الموصل لن يحلّ جميع هذه المشاكل، ولكنه سيعيد للولايات المتحدة سمعتها العسكرية و"يوازن" الدمار المرعب الذي تعرضت له حلب على يد السوريين والإيرانيين والروس.
أما الحملة الاستراتيجية الثانية فهي ضد تنظيم «الدولة الإسلامية». ولا يشكل تنظيم «داعش» الصراع الأكبر في المنطقة - بل إيران المُمَكّنة من قبل روسيا [هي جوهر] هذا الصراع. ولكنه الأكثر إلحاحاً والتهديد الأكثر مباشرةً على "الأمة" الأمريكية، والأكثر شعبية على الصعيد الدولي. وهو أيضاً صراعٌ يسهل على الولايات المتحدة وحلفائها الفوز به. وكما قال مؤخراً مبعوث الرئيس الأمريكي الخاص للتحالف الدولي ضد تنظيم «داعش» بريت ماكغورك، لدى الولايات المتحدة الآن اندفاعٌ لمحاربة تنظيم «الدولة الإسلامية». إن الانتصار في الموصل لا يعني نهاية تنظيم «داعش» ولكنه سيقيّد التنظيم ويمهّد الطريق للمعركة النهائية في عاصمته السورية، الرقة.
إن الإدارة الأمريكية الراهنة لم تنخرط فعلياً في الحملة الاستراتيجية الثالثة والأكثر أهمية، وهي احتواء إيران - المتحالفة حالياً مع روسيا - في كافة أنحاء الشرق الأوسط. وفي حين يتعين على الإدارة الأمريكية القادمة التعامل مع هذا الأمر، إلا أن القيام بذلك يتوقف بالدرجة الأولى على " تطهير الطوابق" [من بقايا] تنظيم «الدولة الإسلامية» ودوره في تشتيت انتباه الولايات المتحدة. وفي حين أن تنظيم «داعش» هو أقل تهديداً في النهاية، إلا أن قدراته الإرهابية يجب أن تجعل منه أولوية. ولكن في ظل الظروف الراهنة، من السهل على روسيا والرئيس الأسد وإيران أن يشهدوا زوراً أن أولويتهم هي محاربة تنظيم «الدولة الإسلامية» وأن يبرروا حملتهم الوحشية في سوريا عبر تصنيف جميع المعارضين لهم كـ "إرهابيين". ومن هنا الحاجة الملحة إلى تنفيذ عملية الموصل في الوقت الحالي.
والحملة الاستراتيجية الرابعة مخصصة للعراق. فمعركة الموصل وتداعياتها ستحدد ما إذا كانت البلاد ستبقى متماسكة أم لا، حيث أن المكونات العراقية الثلاثة - أي العرب السنة والعرب الشيعة والأكراد - كانت تناور بجنودها حول المدينة قبل بدء العملية. إن هذه المعركة ستحدد أيضاً دور الولايات المتحدة في العراق بعد [إبعاد] تنظيم «الدولة الإسلامية» عن البلاد، فالعراق بثروته النفطية ودستوره الديمقراطي يشكل طرفاً رئيسياً في أي صراع إقليمي بين إيران وروسيا من جهة والدول العربية السنية وتركيا وإسرائيل من جهة أخرى. من هنا، إذا حافظ العراق على تماسكه وعلى توازنه المزعزَع بين إيران والولايات المتحدة والدول السنية، قد يسهم ذلك في وقف انزلاق المنطقة نحو كارثة سنية - شيعية ويساعد أمريكا على احتواء إيران. ولكن إذا سقط الجنوب العراقي الشيعي الغني بالنفط في يد إيران، فمن شأن الحصيلة المجتمعة بين الطرفين من نفطٍ وغاز طبيعي أن تلقي بظلالها على نفط المملكة العربية السعودية وغازها وأن تتسبب بإعادة تنظيم المنطقة وفقاً لما يروق لإيران.
إلا أن الشرط الأساسي لنجاح الولايات المتحدة في هذه الحملات الاستراتيجية الأربع هو نجاحها في الحملتين العملياتيتين، أي تحرير الموصل أولاً ثم تفادي الكارثة الإنسانية وضمان الأمن والحكم في المدينة في اليوم التالي. وقد تكون الحملة الأولى أسهل [من غيرها]. فالقوات العراقية الهائلة والقوة العسكرية الأمريكية تنتشر بكثافة ضد قوة من تنظيم «الدولة الإسلامية» يقل عدد أفرادها على الأرجح عن 5,000 آلاف مقاتل. ومع ذلك، من الممكن أن يقاتل تنظيم «داعش» بضراوة، في حين أن القوات العراقية منقسمة ما بين جيش وشرطة وميليشيات شيعية مدعومة من إيران وبيشمركة كردية وعناصر من «حزب العمال الكردستاني»/ «حزب الاتحاد الديمقراطي» وسكان عرب سنة مدعومين من تركيا. ولذلك، لن يكون توحيد الجهود سهلاً. وهناك على الأقل احتمال ضئيل بانهيار هذا التحالف.
ومع ذلك، سيكون لهذه الانقسامات أهمية أكبر في اليوم التالي. وفي تلك المرحلة، يجب على الولايات المتحدة والحكومة العراقية ضمان أمن الموصل من متمردي تنظيم «الدولة الإسلامية» وتأمين الإغاثة الإنسانية - على الرغم من أن الاستعدادات لا تزال غير كافية - لما يقرب من مليون عراقي، فضلاً عن ضبط الأتراك والحلفاء الآخرين، من بينهم مختلف الفصائل الكردية والميليشيات الشيعية المدعومة من إيران. إنّ التحديات الإنسانية والسياسية رهيبة على السواء، ولكنها لا تشكل حالة مستعصية. والسبيل هنا هو نشر الإيمان في المنطقة بأن أمريكا منخرطة "بصورة كاملة" على المدى البعيد. وبما أن الحملات الاستراتيجية الأربع تتوقف على نجاح الولايات المتحدة في المعركة وفي المرحلة التي تليها، يجب على الرئيس الأمريكي إيلاء اهتمامه الكامل لهذين الجانبين.
جيمس جيفري هو زميل متميز في زمالة "فيليب سولوندز" في معهد واشنطن وسفير الولايات المتحدة السابق لدى تركيا والعراق. وفي معهد واشنطن يركز جيفري على الاستراتيجية الإقليمية والدبلوماسية والعسكرية للولايات المتحدة وكذلك على تركيا والعراق وإيران. وقد شغل سابقاً منصب مساعد الرئيس الأمريكي ونائب مستشار الأمن القومي في إدارة جورج دبليو بوش، حيث كان يركز على إيران بشكل خاص.
"سايفر بريف"