- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مرشح مصر لمنصب مدير عام "منظمة التجارة العالمية" هو المرشح التكنوقراط الكفيل بإجراء الإصلاحات اللازمة
تجري التحضيرات لانتخابات عالمية مؤثرة وسط تصاعد التوترات بين الولايات المتحدة والصين، حيث ستتم إعادة انتخاب مدير عام جديد لـ"منظمة التجارة العالمية". وكان اليوم الأخير للرئيس الحالي – المدير العام روبرتو أزيفيدو – في 31 آب/أغسطس، ليكون بذلك قد ترك منصبه قبل انتهاء ولايته. وكانت التغيرات الجيوسياسية التي تسببت بها قوتان عظمتان متنافستان جعلت الدول الأخرى رهينة حربهما التجارية بسبب نظام تجارة متعدد الأطراف ويخضع بشكل متزايد لتأثير العولمة. وبالنسبة لمعظم الأعضاء في هذا النظام، يبدو أنهم أحيانًا يتخبطون في الوضع القائم إلى حين تراجع حدة التوترات. غير أن قيادة جديدة في "منظمة التجارة العالمية" قد تعيد إحياءها في وقت تحاول فيه تخطي التحديات التجارية المتنامية التي تواجهها الدول الأعضاء.
فـ"منظمة التجارة العالمية" لا ترتبط بنظام عالمي، بل هي مركز التجارة العالمية حيث يتمّ وضع القواعد والأنظمة. مع ذلك، بالنسبة للعديد من الدول الأعضاء، ثمة شعور متنامٍ بأن العقد الذي اعتمدته المنظمة في القرن العشرين لا يمكنه مجاراة تحديات القرن الواحد والعشرين التجارية التي تواجهها هذه الدول وسط تغير العوامل الجيوسياسية – ولا سيما الآن بعدما كشف فيروس "كوفيد-19" أوجه قصور القواعد المتعددة الأطراف في وجه الرياح المعاكسة، وفي وقت تضيف فيه الوتيرة السريعة للتطور التكنولوجي تعقيدات جديدة. ولا يزال إطار عمل المنظمة ضروريًا كما كان دائمًا، بحيث يلعب دورًا رئيسيًا في جمع الدول الأعضاء من أجل مناقشة الخلافات والتفاوض والتعاون. علاوةً على ذلك، إن المخاوف التي ساهمت في المقام الأول في تأسيس "منظمة التجارة العالمية" في تسعينيات القرن الماضي – بما في ذلك الحاجة المتنامية إلى تنظيم الساحة الدولية التي تخضع بسرعة لتأثير العولمة وإيجاد حكم يفصل بالنزاعات – قد تكون أكثر إلحاحًا اليوم.
ويرى العديد من المحللين أن المنافسة بين الولايات المتحدة والصين تمثل حربًا باردة جديدة. مع ذلك، خلال تلك الفترة، كان من السهل نسبيًا التمييز بين السياسة والتجارة بسبب طبيعة العولمة المحدودة نوعًا ما. لكن العالم الذي نعيش فيه اليوم مختلف تمامًا، وقد تغير منذ العام 1995، حين تمّ وضع كتاب قوانين "منظمة التجارة العالمية". فاليوم نتعامل مع مصالح وطنية متضاربة وقومية تتغلغل في نظام التجارة المتعدد الأطراف وتهدد بسيناريو تكون فيه كافة الأطراف خاسرة.
وكان المدير العام لـ"منظمة التجارة العالمية" أزيفيدو المستقيل شدد في 23 تموز/يوليو على أن المنظمة ترزح تحت وطأة ضغوط هائلة من أجل مواكبة اقتصاد اليوم المعولم، ودعا إلى وضع قواعد وإصلاحات جديدة وتطبيق مبدأ تعددية الأطراف لمواجهة هذه التحديات. وأضاف أنه "من أجل ضمان مستقبل المنظمة، من الضروري أن تؤمن الدول الأعضاء حقًا بالحاجة إلى تحديث النظام. فالبعض قد لا يزال يعتقد أن الضغوط المفروضة على المنظمة ذات طابع محلي، وبالتالي مؤقتة. أريد أن أؤكد لكم أنها ليست كذلك".
وتشير تعليقات أزيفيدو التحذيرية إلى أنه يجب تسليح المدير العام العتيد بما يلزم للانخراط على المستوى الفني بإصلاحات جذرية تطال المنظمة، على ألا تغيب عن باله التحديات الاستثنائية التي تواجه الدول النامية العالقة بين عملاقي التجارة. لكن إن لم تترافق هذه الرؤية مع تطبيق فعال ستكون لعبة خاسرة. فهذا المنصب الرفيع في "منظمة التجارة العالمية" يختلف عن نظيره في "صندوق النقد الدولي" أو "البنك الدولي" من حيث أن إدارة المنظمة تقوم على توافق الأعضاء وتتطلب رئيسًا يمكنه القيادة من الخلف للمواءمة بين مصالح الدول الأعضاء المتضاربة. وبحسب القانون التأسيسي للمنظمة، يجب أن توافق الدول الأعضاء البالغ عددها 164 بالإجماع على أي تغييرات ستطرأ على عقدها. غير أن هذه التعديلات التعاقدية الصعبة هي التي شدد أزيفيدو على ضرورتها، وهي ما تعتبرها الدول الأعضاء ضرورية لبقاء المنظمة.
وكانت تمّت تسمية ثمانية مرشحين لمنصب الرئيس، يتحدرون من أمريكا الجنوبية وأوروبا وأفريقيا وآسيا. وستبدأ عملية الاختيار بمشاورات بين 7 و16 أيلول/سبتمبر، على أن تليها جولتان إضافيتان سيتمّ خلالهما تقليص عدد المرشحين من ثمانية إلى خمسة، ومن ثم إلى اثنين استعدادًا للجولة الأخيرة. وإذ إن كافة المرشحين يتمتعون بكفاءة عالية، لكل منهم خلفية سياسية باستثناء واحد؛ رجل دولة كرس مسيرته المهنية لنظام التجارة المتعدد الأطراف.
ورجل الدولة هذا ليس إلا عبد الحميد ممدوح، مرشح مصر، الذي نشأ في ظل نظام التجارة العالمي وأمضى معظم سنوات حياته في جنيف يعمل وفق مبدأ تعددية الأطراف. وممدوح هو محامٍ متخصص في شؤون التجارة الدولية يتمتع بثلاثين سنة من الخبرة تشمل الصياغة القانونية "لاتفاق إنشاء منظمة التجارة العالمية"، والاضطلاع بدور الأمين العام الرئيس في صياغة "الاتفاقية العامة لتجارة الخدمات"، كما شارك في تحويل "الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة" إلى "منظمة التجارة العالمية". وعلى مرّ السنوات، كان ممدوح يقود مفاوضات متعددة الأطراف ويسدي المشورة في إجراءات حل الخلافات. كما كان مستشارًا موثوقًا للعديد من حكومات الدول الأعضاء في "منظمة التجارة العالمية" في الشؤون المرتبطة بعمل المنظمة.
وفي وقت تعتبر فيه القومية والحمائية اتجاهات عالمية، يصبح ضمان التزام الدول تجاه بعضها تعهدًا دقيقًا بشكل متزايد. وعليه، أصبح الآن وجود وسيط لا يرتبط بالضرورة بعالم السياسة حيث التوترات والارتياب والتحيز عند أعلى مستوياتها أهم من أي وقت مضى. وبفضل مسيرته المهنية، يُعتبر ممدوح خبيرًا فنيًا يفهم كافة تفاصيل وخبايا النظام وساهم في صياغة والتفاوض بشأن العقود منذ تأسيس المنظمة. ورغم أن كافة المرشحين لمنصب المدير العام ليس لديهم انتماءات سياسية، إلا أنهم مرتبطون بدولهم، ولا بدّ من تسليط الضوء على قدرة مصر على تسيير علاقات تجارية مع الولايات المتحدة والصين من دون تعريض العلاقة الثنائية المؤسسية لأي منهما للخطر. كما تتميز مصر بأنها تربط بين أفريقيا والشرق الأوسط ولديها علاقات وطيدة مع الطرفين.
وكان ممدوح صرح للمؤلفين: "تواجه "منظمة التجارة العالمية" حاليًا تحديات غير مسبوقة، كما أن فعالية وموثوقية وظائفها الحيوية – بما فيها التفاوض وحل الخلافات والإشراف – تتراجع. وهذا ما يلحق الضرر بكافة الدول الأعضاء، لكنه يؤثر سلبًا بشكل خاص على الاقتصاديات النامية الأصغر حجمًا التي تعتمد على أمن قواعد التجارة العالمية". وعلى المنظمة تعيين خبير في المجال لضمان الدراية الفنية ولأن وجود مستشار داخلي موثوق للمساعدة على توفير إجماع الدول الأعضاء يكتسي أهمية.
وممدوح شخص عصامي شق طريقه بنفسه في نظام التجارة المتعدد الأطراف. فقد بدأ العمل كمفاوض مصري شاب مناضل تمّ تعيينه ليمثل دولة نامية تواجه تحديات التخاطب والتفاوض والاجتماع مع دول متقدمة تتشارك معها نظرة واحدة. وبما أنه يعتبر في الوقت الراهن مستشارًا موثوقًا بسبب تحويله "منظمة التجارة العالمية" خلال صفقة جولة الأوروغواي، وإسدائه نصيحة مفيدة إلى المفاوضين الساعين إلى التوصل إلى هدف مشترك للدول الأعضاء وحلول قانونية، تثبت قدرته على تولي مناصب مختلفة في مجال التجارة المتعددة الأطراف – سواء في "منظمة التجارة العالمية" أو في قانون التجارة – إمكانية أن يكون حبل الإنقاذ للدول الأعضاء في المنظمة التي تغرق أكثر فأكثر في النظام.
وعمومًا، من المرجح أن تستفيد الدول الأعضاء من روابط تجارية عميقة مع الولايات المتحدة والصين على السواء. غير أنه على الهيئة الجامعة العمل على تحرير قضية التجارة من قبضة التوترات الوطنية الأكبر كي تستفيد هاتان القوتان العظمتان وكذلك الدول التجارية الأصغر حجمًا. وبعد التعامل مع هذه المسائل لسنوات عديدة، إن حظوظ ممدوح في بناء توافق مرتفعة بفضل مسيرته المهنية البعيدة عن السياسة وقدرته على الموازنة بين التوترات القائمة بين الولايات المتحدة والصين التي تنعكس أيضًا في الموازنة الناجحة التجارية التي حققتها مصر بين الدولتين العظمتين. فقد كانت قناة السويس المصرية نقطة دخول رئيسية للبضائع الصينية إلى المنطقة، كما كانت الصين أبرز شركاء مصر من حيث الاستيراد، في وقت حافظت فيه القاهرة على روابط تجارية وعسكرية متينة مع الولايات المتحدة.
وفي وقت تحتدم فيه التوترات الاقتصادية، من الضروري وجود ممثل يتمتع بالقدرة والموارد لإرساء التوازن بين هاتين القوتين العظمتين من خلال تعديلات تعاقدية من شأنها أن تترك آثارًا متسلسلة إيجابية في أرجاء المنظمة. فضلًا عن ذلك، إن قدرة البلاد على المواءمة بين اقتصادين عالميين يتمتعان بهيكليات مختلفة – أي اقتصاد الولايات المتحدة المفتوح واقتصاد الصين الخاضع بشكل رئيسي لسيطرة الدولة – تشير إلى أنه يمكن إقامة التوازن ذاته على نطاق أشمل في نظام التجارة المتعدد الأطراف.
وفي مواجهة الرياح الجيوسياسية المعاكسة وتيارات القومية، أمام "منظمة التجارة العالمية" مسار صعب إنما غير مستحيل. وبعد إدراك التغييرات الإدارية والفنية الواضحة التي يتعين على المنظمة إجراؤها، يتضح أكثر فأكثر أن ممدوح، وهو رجل دولة يعمل ضمن الأنظمة المتعددة الأطراف والحكومية، يتمتع بالسمات الضرورية لضمان التوافق ويملك في الوقت نفسه الأدوات اللازمة لإدخال إصلاحات على عقد المنظمة خلال الفترة العسيرة القادمة.