- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
مطالبة إيران بالقضية الفلسطينية، من منظار الفلسطينيين
يضمّ النقاش الراهن حول الاتفاق النووي الإيراني قدراً كبيراً من التكهّنات بشأن كيفية تأثير هذا الاتفاق على دولٍ أخرى في المنطقة، بدءاً بسوريا واليمن ووصولاً إلى البحرين وإسرائيل. وقد كُتب الكثير عن نظرة الإسرائيليين إلى إيران اليوم، لكنّ جانباً واحداً مثيراً للاهتمام من جوانب هذه المعضلة بالكاد استرعى الاهتمام، على الرغم من أهمّيته المحتملة بالنسبة إلى إسرائيل والمنطقة بأسرها وهو: كيف ينظر الفلسطينيون إلى إيران وخصومها في سعيها إلى بسط النفوذ في المنطقة؟
فالاتفاق الإيراني جزءٌ من سياقٍ أوسع قوامُه سياسات القوّة في الشرق الأوسط، مع مصاعبَ تطرحها مسائل الهوية العرقية بين فارسي وعربي والطائفية بين شيعي وسنّي، وتُضاف إلى اهتمامات إسلامية ووطنية وجيوسياسية متعدّدة. وفي هذا السياق، تُصرّح إيران بمناصرتها "المقاومة" الفلسطينية في وجه الاحتلال أو القمع، بينما تحاجج الحكومات العربية أنّ القضية الفلسطينية تخُصّهم، وتقاوم "التدخّل" الإيراني في الشؤون العربية. وتُعدّ نظرة الفلسطينيين أنفسهم إلى هذا الصراع مؤشّراً مهمّاً لكيفية احتمال تطوّر الأحداث في المنطقة في المستقبل، لا سيّما عندما ينتهي النقاش حول الملف النووي.
وقد جاء استطلاعٌ للرأي العام الفلسطيني، بتكليفٍ من معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى في الشهر الماضي، بينما كان الاتفاق الإيراني يشارف على الانتهاء، ليقدّم بعض البيانات الموثوقة والفريدة من نوعها حول هذه المسألة. تألّف استطلاع الرأي، الذي أجراه "المركز الفلسطيني لاستطلاع الرأي" ومقرّه بيت ساحور قرب بيت لحم في الضفة الغربية، من مقابلات شخصية مع عيّنىة احتمالية تمثيلية جغرافية مؤلفة من 919 شخصاً شملهم الاستطلاع، وأوجد هامش خطأٍ إحصائي بنحو 3،5 في المائة.
وردّاً على سؤالٍ حول نظرة المُستَطلَعين إلى السياسات الإيرانية، أعطت أغلبية ضئيلة ردّاً إيجابياً: 55 في المائة في الضفة الغربية ونسبة متطابقة إحصائياً وصلت إلى 57 في المائة في غزة. غير أنّ قلّةً وحسب تعطي السياسات الإيرانية تصنيف "جيّد جداً"، إذ وصلت هذه النسبة إلى 29 في المائة لدى سكّان الضفة الغربية، ولم تتعدَّ 13 في المائة فقط لدى سكان غزة. وقد أعطت نسبة كبيرة من الفلسطينيين في كلا المنطقتين، وصلت إلى 45 في المائة في الضفة الغربية و43 في المائة في غزة، السياسات الإيرانية تصنيف "سيّئة إلى حدٍّ ما" أو حتى "سيئة جداً".
وعلاوةً على ذلك، قلّما يلجأ الفلسطينيون إلى النماذج الدينية، الإيرانية والأخرى على حدٍّ سواء. وتَعتبر نسبةٌ ملحوظة وصلت إلى 75 في المائة لدى كلّ من سكان الضفة والقطاع أنّ "إصلاح الإسلام أو تفسيره بطريقة أكثر اعتدالاً وتسامحاً وحداثةً" يُعدّ "فكرةً جيّدة". ولم تختر إلّا نسبة 10 في المائة فقط من سكان غزة ونسبة أقلّ منها أيضاً من سكّان الضفة الغربية "أن يكون المرء مسلماً جيّداً" بوصفه أولويتهم الشخصية القصوى. وظلّ هذا الخيار بعيداً فيما فضّل المُستَطلَعون "عيش حياة عائلية جيّدة" أو "جني ما يكفي من المال لعيش حياة كريمة". أمّا نسبة التأييد التي يحظى بها تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش») أو «الدولة الإسلامية»، فظلّت ضئيلةً للغاية ولم تتعدَّ الأرقام الأحادية المتدنّية في كلّ من الضفة الغربية وقطاع غزة، تماماً كما هو الحال في كلّ مجتمعٍ عربي آخر جرى فيه مؤخّراً استطلاعٌ للرأي.
ومن أجل أن نتوصّل إلى فهم كاملٍ للموقف الفلسطيني تجاه إيران، من المفيد أن نتطرّق إلى الطريقة التي ينظر بها الفلسطينيون إلى السياسات الإيرانية وإلى حلفاء إيران العرب الرئيسيين. فـ «حزب الله»، على سبيل المثال، يحظى بنسبةٍ ملحوظة من التأييد تصل إلى 69 في المائة لدى سكّان الضفة. أمّا لدى سكان قطاع غزة، فتنخفض هذه النسبة إلى حدٍّ ما، بيد أنّها تبقى مثيرةً للإعجاب إذ تناهز 57 في المائة. ويُشار إلى أنّ شعبية «حزب الله» أعلى بأشواط لدى الفلسطينيين منها لدى أيّ جمهور عربي آخر تمّ مؤخّراً استطلاع رأيه. والتفسير الأكثر قبولاً هو أنّ الكثير من الفلسطينيين لا يزالون يشدّدون على سجلّ «حزب الله» ويبدون إعجابهم به وبمعارضته العنيفة لإسرائيل من دون هوادة، في حين بات عربٌ كثيرون آخرون مستائين من تبعية «حزب الله» لإيران ودعمه تابعاً آخر لإيران، أي الرئيس بشار الأسد بدكتاتوريته الوحشية في سوريا.
أمّا الجماعة الأخرى التي تحظى بتأييد كبير، فهي موكَّلٌ إيراني آخر متطرّفٌ، وفي رصيده اعتداءات أصغر ضدّ إسرائيل: المنظمة الإرهابية الصغيرة إنّما الناشطة، التي تتّخذ من غزة بشكل خاصّ مقرّاً لها وكثيراً ما تتردّد إلى إيران، والمعروفة باسم «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين». وتحظى هذه الجماعة بتصنيف إيجابي تصل نسبته إلى 71 في المائة في الضفة الغربية و84 في المائة في قطاع غزة، وهي نسبةٌ مذهلة. وتفوق شعبية «حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين» بأشواط شعبية حركة «حماس»، وهي الفصيل الفلسطيني الذي يحكم قطاع غزة، لا بل أنّ جزءاً من هذه الشعبية ربما يعكس نوعاً من "التصويت الاحتجاجي" ضدّ فشل «حماس» وسوء حكمها والقمع الذي تمارسه.
وعلى نطاق أوسع، تظهر المواقف الفلسطينية تجاه إسرائيل بعض الانسجام مع موقف إيران الرافض (أو على الأقل التضارب معه). فبخلاف إيران، يقول نحو نصف سكّان الضفة والقطاع إنّهم يقبلون بمبدأ "حلّ الدولتين" للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني وسيوافقون على بعض التنازلات التكتيكية مع إسرائيل. حتى إنّ نحو نصفهم سيوافق على الاعتراف بإسرائيل "كدولة للشعب اليهودي"، وهذا على طرفي نقيض مع الموقف الإيراني الرسمي أو حتى موقف السلطة الفلسطينية. ومع ذلك، عندما سُئل المُستَطلَعون عن رؤيتهم على المدى البعيد، أفادت أغلبية واضحة في كلّ من الضفة الغربية وقطاع غزة أنّ حلّ الدولتين لا ينبغي أن يُشكّل نهاية النزاع، وأنّ الكفاح (بما في ذلك الكفاح المسلّح) "لتحرير كلّ فلسطين" ينبغي أن يستمرّ حتى يظفر يوماً ما.
لكن، من أجل أن نضع هذه الصورة في نصابها الصحيح، لا بدّ من مقارنة شعبية إيران في الشارع الفلسطيني مع شعبية القوى الإقليمية الأخرى، بما فيها الدولتان المجاورتان اللتان أرستا سلاماً رسمياً مع إسرائيل، وهما مصر والأردن. تسجّل سياسات مصر الأخيرة معدّل التأييد نفسه تقريباً الذي حظيت به سياسات إيران، أي 57 في المائة لدى سكّان الضفة و54 في المائة لدى سكّان القطاع. ومن المستبعد كثيراً أن يلقي الفلسطينيون اللوم على مصر عوض إسرائيل، أو حتى «حماس» أو السلطة الفلسطينية، بسبب الوتيرة البطئية لإعادة إعمار غزة بعد الحرب في خلال العام المنصرم. وبالإضافة إلى ذلك، يُسجّل الأردن نسباً أفضل من مصر، إذ يحظى بتصنيف إيجابي تصل نسبته إلى 62 في المائة في غزة، و74 في المائة في الضفة، وهي نسبةٌ مثيرة للإعجاب.
ومع ذلك، ينال عددٌ من منافسي إيران الإقليميين الآخرين تصنيفات أعلى، فقد وصلت نسبة الآراء المؤيدة لقطر إلى 72 و73 في المائة في كلّ من الضفة والقطاع على التوالي. أمّا السعودية، وهي ربما خصم إيران اللدود، فتسجّل نسبة تأييد تبلغ 83 في المائة في الضفة وأقلّ بشيء بسيطٍ في غزة مع نسبة 73 في المائة. والأفضل من ذلك كلّه أنّ تركيا، وهي دولة غير عربية، تحظى بنسبة تأييد تصل إلى 84 في المائة لدى سكان الضفة ونسبةٍ هي الأعلى في الرسوم البيانية تبلغ 89 في المائة في غزة، حيث حاول الأتراك جاهدين على مدى السنوات القليلة المنصرمة، وإن بنجاحٍ متفاوت، أن يوفّروا الدعم السياسي والمادي الرفيع.
واستناداً إلى هذه الأدلّة، يمكن استخلاص الاستنتاجات الآتية. أوّلاً، عندما يكون المرء سنّياً يبدو أن ذلك عاملاً يدخل في الحسابات؛ ولا تستطيع إيران أن تُعدّ، على المدى البعيد، مناصراً شعبياً للقضية الفلسطينية. ثانياً، وما له علاقة في هذا الموضوع، يُعدّ الشارع الفلسطيني لقمةً سائغة، في ما يتعلّق بالشركاء الإقليميين، عرباً وغير عربٍ، أو حتى في ما يتعلّق بإسرائيل. فالفلسطينيون يستجيبون لأيّ حزبٍ يرون أنّه يعكس أولوياتهم أو يلبّي احتياجاتهم، ولديهم اندفاعات معتدلة وراديكالية على حد سواء. أمّا إمكانية أن تستغلّ إيران هذه النقطة، فتقترن على الأرجح بالبدائل التي يعتقد الفلسطينيون أنّهم يتمتّعون بها. لذا، بغضّ النظر عمّا يحدث في النقاش الدائر حول الاتفاق بشأن الملف النووي الإيراني، ينبغي على الأطراف المعنية جميعها، أي الإسرائيليين والفلسطينيين والعرب والأطراف الأخرى، أن تعمل بجدٍّ لتجعل من التعايش الكريم خيارها الأكثر واقعيةً وجاذبية.
ديفيد بولوك هو زميل كوفمان في معهد واشنطن ومدير منتدى فكرة. غيث العمري هو زميل أقدم في المعهد. وقد تم نشر هذه المقالة في الأصل من على منتدى فكرة.
"منتدى فكرة"