- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
مواجهة أزمة الغذاء في سوريا
في عام 1974، عرفت الأمم المتحدة الأمن الغذائي على أنه " توفر الغذاء الكافي خلال كل الأوقات"،" وبحسب هذا التعريف، تواجه سوريا أزمة كبيرة تتمثل في انعدام الأمن الغذائي، في ما يستمر مستوى المعيشة في التدهور في مواجهة الصراع المستمر.
يجدر التنويه إلى أن الخبز هو مصدر الغذاء الأساسي وهو مصدر وحيد لنسبة كبيرة من السوريين الذين لم يعد بمقدورهم توفير سِواهُ لأطفالهم. وفي هذا السياق، يعد الافتقار إلى القوت اليومي الكافي والظروف المعيشية الطاحنة سمة موحدة للحياة في بلد مقسم إلى مناطق نفوذ متنافسة مثل سوريا.
مع بداية عام 2022 حذر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش من تفاقم المشكلة بشكل لا يمكن تداركه في سوريا مشيراً إلى أن 90 بالمئة من السوريين يعيشون في فقر؛ وأن ٦٠ بالمائة منهم يعانون من انعدام الغذائي.
وبالمثل، ركزت التقارير الدولية التي تخص الشأن السوري على أزمة الغذاء، حيث أفاد برنامج الأغذية العالمي أن 11.1 مليون شخص في سوريا يحتاجون للمساعدات الإنسانية، وما يقارب 9.3 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي بشكل حاد، وأن الحاجات الإنسانية تتزايد باستمرار نتيجة طول مدة النزاع في سوريا وأن الكارثة الأكبر لم تحصل بعد، وخاصة فيما تواجهه الأمم المتحدة من عجز وقصور حيال ذلك. ومن ثم، فإن غياب المشاركة الدولية الفعالة في تلك الأزمة من شأنه أن يفاقم أزمة الغذاء الحالية في سوريا. وفي حين حاول كل طرف من الأطراف الحاكمة في سوريا معالجة القضية بشكل مختلف، إلا أن الحلول الحقيقية للازمة لا تزال بعيدة المنال.
وفي عام 2021، تم تحديد مخصصات مادة الخبز في مناطق النظام بربطة واحدة لكل عائلة أي أقل من رغيفين للفرد يومياً إذا كان عدد أفراد الأسرة أربعة أشخاص، وتحتوي ربطة الخبز المسموح بها حسب البطاقة الذكية على سبعة ارغفة بوزن 1100غ للربطة، أي 275غ للفرد يومياً، ويجب التنويه ان الخبز هو المادة الغذائية الوحيدة لكثير من العائلات.
وللحصول على تلك المخصصات الشهرية يشترط حيازة ما يسمى بـ" البطاقة الذكية" التي تصدرها شركة "تكامل" المقربة من زوجة رأس النظام أسماء الأسد. وإلى جانب استخدامها للحصول على المخصصات الغدائية، تتيح "البطاقة الذكية" أيضًا الوصول إلى الضروريات الأساسية الأخرى والغير متوفرة، بما في ذلك الغاز والمحروقات. وتتاح تلك المزايا فقط للأشخاص الذين يحملون تلك البطاقة والذين يستوفون معايير معينة، حيث تستثني تلك المعايير بعض شرائح السكان، مثل الأشخاص الذين يمتلكون سيارات خاصة أو غير هؤلاء الذين لا يمتلكون البطاقة المعادلة لبطاقة الضمان الاجتماعي. كما تستثني تلك المعايير على وجه الخصوص أطفال معظم اللاجئين الفلسطينيين الذين يعيشون في سوريا.
هناك أيضا شرط أخر يستثني الأشخاص الذين لا يعيشون في المناطق المسجلون فيها رسميًا كمقيمين، حيث يستبعد هذا الشرط في الواقع مئات الآلاف من العائلات التي نزحت بسبب الحرب والتي هي في أمس الحاجة للمساعدات.
أدى هذ النظام الى انتشار سوق سوداء للخبز في سوريا والتي تزيد فيها الأسعار خمسة أضعاف عن السعر الرسمي، وقد توضح مع الوقت أنها طريقة جديدة من طرق النظام السوري لاحتكار السوق السوداء لسحب العملة الصعبة والتضييق على المواطنين. لذلك، يتعين على جميع العوائل التي تم استبعادها من الدعم الحكومي الآن شراء الخبز والوقود من السوق السوداء، حيث ترتفع الأسعار عدة مرات، وتستمر في الارتفاع يومًا بعد يوم.
على الرغم من هذه الأزمات المتفاقمة والكارثية يصر نظام الأسد على التقليل من حجمها ويعزو وجود بعضها إلى العقوبات الدولية وخاصة الأميركية التي يسنها قانون قيصر لتحشيد الشعب، وإنكار حقيقة أن عقوبات قيصر قد استثنت المواد والحاجات الأساسية الغذائية والتموينية من بنودها.
أمّا مناطق الشمال السوري الخاضعة للمعارضة ليست بحال أفضل على الصعيد المعيشي، حيث أنها متاخمة لمخيمات النازحين من مختلف المناطق السورية المتضررة من جراء الغارات الجوية المتكررة للطيران الروسي، والمثقلة بأعداد كبيرة من السوريين فاقت قدرة استيعابها حيث تعتمد هذه المنطقة على المساعدات الدولية المحدودة التي تصل من خلال المعابر الحدودية مع تركيا لتلبية احتياجات هذه الفئة الضعيفة من السكان.
وبالتالي، يتأثر واقع تلك المناطق الاقتصادي بالحالة السياسية وصراع الأحزاب في تركيا وخاصة أن العملة المتداولة حاليًا هي الليرة التركية، كما تتأثر المنطقة بأنواع الولاءات المختلفة بين القوى المسيطرة فيها على رأسها حكومة الجولاني المتشددة التي تستنزف السكان مقابل صراعها الدائم مع القوى الأخرى المتواجدة في المنطقة.
ومع ذلك، انعكست الأزمات الاقتصادية التي تواجهها تركيا على الوضع الاقتصادي في تلك المناطق، فالمناطق التي تسيطر عليها المعارضة تعتمد بشكل كبير على المنتجات التي يتم جلبها من تركيا، والتي يتم شراؤها عادة من السوق السوداء، حيث ترتفع الأسعار بشكل كبير. كما ارتفعت أسعار المنتجات المهربة من المناطق التي يسيطر عليها النظام، ما يعكس تأثير الأزمة الاقتصادية هناك وجشع الدوائر الفاسدة التي تتاجر حتى المنتجات التي تقدمها برامج الأمم المتحدة.
وقد أصدرت حكومة الإنقاذ في منطقة إدلب قرارا بتاريخ 24 تشرين الثاني /نوفمبر الماضي، حددت بموجبه سعر مبيع كيس الخبز المدعوم وزن 600 غرام وعدد سبعة أرغفة بـ 2.5 ليرة تركية، بينما حددت سعر الوزن ذاته للخبز الحر بـ 3.5 ليرة تركية هذا وتعادل الليرة التركية الواحدة اليوم 264 ليرة سورية كما وينطبق ذلك على مناطق سيطرة الحكومة المؤقتة التي تتبعها فصائل ما يسمى بالجيش الوطني في صراعها العلني على النفوذ والسيطرة على حساب الاحتياجات والقوت اليومي للسكان في خارج المخيمات وداخلها حيث يزداد الوضع سوءًا.
وفي منطقة شرق الفرات الواقعة شمال شرق سوريا، والتي تقع تحت سيطرة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية التي تتمتع بالحماية والدعم الأميركي، فيتأثر واقعها المعيشي بشكل كبير بحالة المناطق الخاضعة لنظام الأسد نتيجة عدم فك الارتباط المؤسساتي معه، فحتى اللحظة ما تزال صور الأسد الأب والابن على بعض المباني الرسمية وما يزال قطاع الماء والكهرباء والبريد وشركة الهاتف المحمول والأفران الآلية والمازوت والغاز تتبع مباشرة لنظام دمشق.
تتحكم الإدارة الذاتية باحتياجات المواطنين من خلال نقاط توزيع ومراقبة تدعى محليًا "الكومين" وذلك لإحكام سيطرتها على مفاصل الضروريات الحياتية، ويتدخل البطاقة الـكومين بالمسائل الداخلية في الأحياء مثل منح التراخيص وجمع الضرائب المضاعفة والرسوم المتزايدة التي تقدر بالملايين ويتم إرسالها إلى دمشق.
يقول شاهد من المنطقة "نحن ندفع الضرائب مرتين مرة للإدارة الذاتية والأخرى لنظام الأسد ورغم ذلك لا تتوفر لنا ابسط مقومات الحياة، ونعاني من انقطاع دائم للكهرباء رغم أننا مستمرين بدفع فواتيرها مضاعفة و رسوم تشغيل تفرض على كل بيت شهريا، ويضيف أن هناك وثائق تُثبت نقل أسبوعي لأكياس أموال كبيرة إلى المطار نحو دمشق، ويتابع إن الإدارة الذاتية عبارة عن جباه وحراس لنظام الأسد وأداة قمع لديه".
ويتساءل شاهد أخر من سكان المنطقة ماذا نستفيد من الوجود الفرنسي والأمريكي ما عدا تأمين بنادق مأجورة وتجنيد الشباب الذين في عوز وحاجة؟ لكن الواقع هو أن العديد من العائلات فقدت الشباب الذين احتاجوا لإعالتهم. وتسال هذا الشاهد، ولماذا لا يرعى التواجد الدولي التنمية في المنطقة ويمنع استحواذ نظام الأسد على الأموال التي يمكن أن تساهم في حل الأزمات المحلية!؟ و يبدو أن السكان في هذه المناطق يتوقعون مزيدًا من المشاركة من قبل المجتمع الدولي في تلك الأنشطة التنموية، وخاصة الولايات المتحدة وفرنسا، حيث يرون أن مثل هذه المشاركة ستمنح مزيدًا من الشرعية للوجود العسكري الأمريكي والفرنسي، وكذلك للحلفاء المحليين.
هذا وجدير بالذكر أن الطحين قد غدا مادة أساسية للتهريب نحو مناطق سيطرة النظام كما ويتجاوز سعر كيلو الخبز في محال بيع خبز التنور والصاج 1700 ليرة سورية، في حين أن الخبز الذي كانت تنتجه الأفران كان يُباع بـ250 ليرة سورية. وتحتاج العائلة المؤلفة من خمسة إلى سبعة أفراد إلى خمسة آلاف ليرة سورية، كحد أدنى، ثمنًا لاحتياجاتها من الخبز بشكل يومي في ريف دير الزور الواقع تحت سيطرة الإدارة الذاتية و قوات سوريا الديمقراطية.
سياسة الأرض المحروقة
قبل سنوات الحرب كانت سوريا تعتبر من البلدان الزراعية المهمة في الشرق الأوسط وكان 40% من سكانها يعملون في الزراعة وتربية المواشي والدواجن، هذا القطاع الرئيس في الإمداد الغذائي والذي يغطي حاجة السكان قد تضرر بشكل بالغ الأثر بسبب تدمير الأراضي وحرق المحاصيل المفتعل وخاصة محصول القمح أو بسبب غارات الطيران الروسي التي كانت تستهدف جميع المنشآت الحيوية في مناطق المعارضة.
ونتيجة لسياسات الحصار والإخلاء السكاني والتغير الديمغرافي المتعمد الذي كانت تقوده روسيا والمليشيات الإيرانية في مناطق أخرى، بالإضافة إلى التصحر والتغير المناخي الذي قضى على ما تبقى من أراض صالحة للزراعة، تدهور إنتاج سوريا من القمح والذي كان يقدر بنحو 4 مليون طن سنوياً، وكان يتم تخزين نصفها للاحتياطي أو التصدير، وتستهلك البلاد النصف الأخر في الخبز والصناعات الغذائية الأخرى. والآن، تقدر الأمم المتحدة، إنتاج سوريا من القمح بنحو 1.05 مليون طن في عام 2021.
ونتيجة لذلك، يتعين على النظام في دمشق استيراد القمح من شريكته روسيا. في ما صرّح رئيس مؤسسة الحبوب التابعة لنظام الأسد “يوسف قاسم” «المؤسسة قامت بإبرام عقود لاستيراد كميات من القمح هي قيد التوريد بنحو مليون طن ذي المنشأ #الروسي» وأضاف أنه «يجري لاحقاً الإعلان عن عقود جديدة بحسب الحاجة»، وأوضح أن «الإعلان في المناقصات يكون للقمح، والأفضلية للقمح ذي المنشأ الروسي دائماً».
تعيش منطقة الجزيرة والفرات شمال شرق سوريا التي تقع تحت سلطة الإدارة الذاتية، والتي كانت ومازالت تعتبر سلة سوريا الغذائية، ومصدرها الأول في إنتاج القمح فترة، حالة من الاستقرار النسبي تحت الحماية الأميركية، ولم تشهد أراضيها الزراعية تخريباً بفعل الحرب نتيجة ظروف سياسية مختلفة عاشتها، إلا أنها هي الأخرى تشهد تراجعاً في الإنتاج الزراعي نتيجة الجفاف، وصعوبة تأمين البذار، والخلافات بين المكون العربي والكردي في المنطقة.
إضافة إلى ذلك تعرضت المحاصيل للحرائق خلال السنوات الماضية، تلك الحرائق التي تمت بفعل فاعل، وتكثر الجهات التي لها المصلحة العليا في نشوئها، فالاحتلال الروسي تبدو مصالحه واضحة بافتعالها، بينما تظهر مصلحة الجانب الإيراني بحصول مجاعة واسعة في سوريا تسهل عليه عملية نشر التشيع بأسلوب ناعم عن طريق الإغداق المادي، وتركز هذه السياسة على استغلال العائلات التي تدعى نسبها للرسول (الأشراف) لمكانتها المؤثرة في المحيط الاجتماعي العشائري، وهي سياسة انتهجها إيران في سوريا منذ عقود. ومع وجود المساعدات الإيرانية في المنطقة التي غالبًا ما يتم تقديمها من خلال الأشراف، سمح ذلك لتلك العائلات بتوسيع نفوذهم وكذلك نفوذ المتبرعين الإيرانيين.
أما نظام الأسد ما يزال صاحب المصلحة العليا في حرق تلك المحاصيل وإتلافها، لأنه الطامع بعودة سيطرته العسكرية على كامل التراب السوري، وتعد أساليب الحصار والتجويع فكرة أساسية في طريقة تعامله مع الشعب، وقد انتهجها طويلا قبل الحرب السورية وخلالها، كما ويستخدم هذه الأزمات أوراق ضغط على المجتمع الدولي لتحقيق بعض الامتيازات وتحصيل التنازلات. وبالمثل، لا ينبغي تجاهل تنظيم "داعش" وذلك بالنظر إلى تاريخه الخاص في الاستهداف وإشاعة والدمار، لا سيما وأن التنظيم لديه تاريخ طويل في استخدام الحرق العمد كوسيلة للابتزاز والترهيب ضد المزارعين في العراق وسوريا.
رغم الهجمات التي شُنت على تلك المنطقة التي تعتبر سلة الغداء في سوريا، إلا أن الإمكانات المتوفرة في منطقة الجزيرة والفرات تجعلها قادرة على تمويل نفسها من خلال مصادر النفط فيها، وهي الواقعة جغرافياً بين أنهار الفرات والخابور ودجلة، ما يؤمن أراضٍ مروية واسعة، وبهذا تبدو الفرصة متاحة لاستثمار مساحات الأراضي الزراعية هناك بشكل واسع وعلمي صحيح في حال وفرت القيادة الأميركية دعم ذلك، مما يساهم بتجنيب السوريين كارثة كبرى في أمنهم الغذائي، وتخفف بذلك الضغط على الأمم المتحدة التي تعاني أزمات خانقة في تقديم المساعدات الإنسانية للسوريين، تلك المساعدات التي تخضع لمزاج الفيتو الروسي في مجلس الأمن واشتراط الروس تقديمها عن طريق نظام الأسد وتقطع عليه طريق استخدام ورقة ضغط لتحقيق مصالح روسية في العالم والاستمرار في محاولات تعويم نظام الأسد الذي يقوم بسرقة أموال السوريين ولقمة عيشهم بعد أن شرد الملايين منهم، وهو المسبب الرئيس في كل ما يحصل من أزمات تنعكس على العالم كله.
إن تقديم الدعم بطريقة منهجية مدروسة لأهالي منطقة الفرات والجزيرة، واتباع سياسة التنمية من خلال تأسيس مشاريع زراعية صغيرة ومتوسطة وكبيرة وصناعات خفيفة مرتبطة بالتنمية الزراعية يفتح الباب لتغطية أزمة الجوع السورية المقبلة لكافة التراب السوري، فالمنطقة قادرة بإمكانياتها الطبيعية والبشرية، على سد أكثر من 60% من الاحتياجات الغذائية السورية عامة، مما سيعود بالنفع على أكثر من صعيد بالحد من تدخل دول الجوار وتعجيل الاستقرار الذي يشجع على عودة النازحين عرباً وكرداً لاستثمار أراضيهم ويخلق الفرص للاكتفاء الذاتي، و يساهم بإنجاح تجربة رائدة يمكن تقليدها في مناطق أخرى من سوريا الخصبة والغنية بمواردها كافة.