- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3162
موجة الاحتجاجات الاجتماعية المتصاعدة في تركيا
منذ أن مُنيَ "حزب العدالة والتنمية" الحاكم بالهزيمة في انتخابات رئاسة بلدية اسطنبول في 23 حزيران/يونيو، شهدت تركيا تصاعداً في الاحتجاجات المناهضة للحكومة، تمحور معظمها حول القضايا البيئية. وتشير موجة التظاهرات السلمية - الموجة الأكبر في البلاد منذ احتجاجات "منتزه جيزي" ("حديقة جيزي") في عام 2013 - إلى حيوية جديدة في صفوف المعارضة، مع تبعات كبيرة محتملة بالنسبة للديمقراطية في تركيا.
من جيزي إلى استخراج الذهب
في أيار/مايو 2013، بدأت مجموعة صغيرة من دعاة حماية البيئة بالتظاهر في "حديقة جيزي" الواقعة في وسط مدينة اسطنبول، احتجاجاً على قرار الحكومة بتحويل الحديقة إلى مركز تسوّق. وسرعان ما أثارت الأعمال الوحشية التي ارتكبتها الشرطة بحق هذه المجموعة أكبر حركة احتجاج في تركيا في التاريخ الحديث - حيث انضم حوالي 2.5 مليون مواطن إلى التجمعات المناهضة للحكومة التي انطلقت في تسعٍ وسبعين من محافظات تركيا الواحد والثمانين واستمرت لمدة أسابيع. وقمعت الحكومة هذه التجمعات أيضاً، مما أسفر عن مقتل أكثر من اثنيْ عشر شخصاً من المحتجّين والشرطة على حدٍ سواء. وحين انتهت التظاهرات في شهر آب/أغسطس، بدأت حقبة جديدة في تركيا عندما بدأت الشرطة لاحقاً بقمع حتى أصغر تجمّعٍ مناهضٍ للحكومة.
ولكن قد يشهد الوضع تحولاً جديداً في هذا الصيف. ففي 26 تموز/يوليو، نظّمت مجموعة صغيرة من الناشطين احتجاجاً سلميّاً ضد مشروعٍ لاستخراج الذهب في "جبال إيدا" في غرب تركيا. ويقول دعاة حماية البيئة إن المنجم، الذي سيتم بناؤه من خلال شراكة بين القطاعيْن العام والخاص، سيتسبب بإزالة مساحات واسعة من الغابات، وتلويث الأرض وموارد المياه، وتدمير النظام البيئي المحلّي. وتفاقَمَ الغضب الشعبي عندما كشفت "مؤسسة تيما" - منظّمة تركيّة غير حكومية تشكّلت لمكافحة تآكل التربة - أن أكثر من 195,000 شجرة قُطعت قبل البناء - أي أكثر من أربعة أضعاف العدد الذي وعدت به شركة التعدين وأقرّته وزارة الطاقة والموارد الطبيعية.
وفي غضون أيام، توسّع التجمع ليضمّ عشرات آلاف الأشخاص، وبدأ المحتجّون يدعون إلى وقف أعمال البناء وإجراء المزيد من المشاورات العامّة بشأن القضايا البيئية. ولعبت المعارضة السياسية - التي أعطاها فوزها المشترك في انتخابات اسطنبول في 23 حزيران/يونيو زخماً جديداً - دوراً ناشطاً في المظاهرة، بمشاركة أعضاء من «حزب الشعب الجمهوري» و «حزب ديمقراطية الشعوب» («حزب الشعوب الديمقراطي»)، و«حزب الخير» ("الحزب الجيد" )("إيي"). ولم يمنح هؤلاء السياسيون الأهمية لانتماءاتهم الحزبية بل شكّلوا جبهةً موحَّدة عبر هذه المشاركة.
واحتلّت الاحتجاجات الصدارة في السياسة المحلّيّة في 5 آب/أغسطس حين نظّم الناشطون مسيرةً امتدّت على مسافة كيلومترٍ أطلقوا عليها تسمية "اللقاء الكبير حول المياه والوعي" بالقرب من موقع البناء. وما زال مئات الناشطين يخيّمون في المنطقة، وينظّمون في كل ليلة منتدياتٍ لمناقشة مطالبهم ويستقدمون المزيد من المتظاهرين يوميّاً من المناطق المحيطة. وفي غضون ذلك، أعرب عشرات الآلاف من الأتراك عن دعمهم على شبكة الإنترنت عبر هاشتاغ #KazdaginaDokunma ("لا تمسّوا ’جبال إيدا‘")، ووقّع ما يقرب من نصف مليون شخص على عريضةً لإيقاف المشروع. وبالفعل، جاء المشاركون في المظاهرة من كافة أنحاء تركيا، من بينهم سكّان محلّيّين وسياسيين ودعاة حماية البيئة ومنظماتٍ من المجتمع المدني وطلّاب وفنّانين.
وقد وحدت قضايا بيئية أخرى المعارضة مؤخّراً أيضاً. وأثار قرار الحكومة الصادر في حزيران/يونيو والذي قضى بالبدء بتعبئة "سد إليسو" في الجنوب الشرقي، انتقادات من تحالفٍ كبيرٍ من الناشطين والسياسيين القلقين من الضرر البيئي والثقافي الذي لا يمكن تعويضه والذي قد ينجم عن ارتفاع منسوب المياه. وعلى الرغم من الاحتجاجات، بدأت السلطات بالفعل بترحيل سكّان بلدة حصن كيفا التاريخية، التي ستغمرها المياه تماماً.
وفي تموز/يوليو، أعلنت وزارة البيئة والتخطيط العمراني عن خطط لبناء منتزه عام حول "بحيرة سالدا" في الجنوب الغربي، وهي منطقة تعرف باسم المالديف التركية بفضل شواطئها الرملية البيضاء ومياهها الزرقاء النقيّة. وجاء هذا الإعلان بعد أن خفّضت الحكومة تصنيف البحيرة على سلّم الحماية، فلم تعد تمنع كافة أعمال البناء في هذا الموقع. وشكّل الناشطون والمحامون وسياسيّو المعارضة جبهةً موحَّدة ضد مشروع التنمية الذي سيشمل بناء منازل شاطئية وحمّامات وغرف صلاة وكافيتريات، وذلك لكي يتمكّن الموقع في النهاية من استضافة المهرجانات، من بين أمور أخرى.
إن صور المجموعات المتنوّعة من المواطنين الموحَّدين ضد ما يعتبرونه لامبالاةً تُبديها الحكومة إزاء الرأي العام حول القضايا البيئية تستحضر إلى الذاكرة الاحتجاجات التي عمّت البلاد في عام 2013. وحتى الآن، لم تقمع أنقرة المجموعات المحتجّة على المشاريع في "جبل إيدا" أو "حصن كيفا" أو "بحيرة سالدا"، ولكنها أعادت التأكيد على نواياها بالمضي قدماً في كلٍ من هذه المشاريع.
اسطنبول كانت نقطة تحول
شكّلت انتخابات اسطنبول في 23 حزيران/يونيو دافعاً أساسيّاً للتجمعات الأخيرة، إذ ألحقت خسارة «حزب العدالة والتنمية» ضرراً بصورة الرئيس رجب طيب أردوغان على أنه "سياسي لا يُقهَر". فبعد سلسلة من الانتصارات الانتخابية، والنجاحات الاقتصادية، والمكائد القانونية منذ عام 2003، أصبح السياسي الأقوى في تاريخ الديمقراطية التركية المتعددة الأحزاب، والذي يمتد سبعين عاماً. وأصبح أردوغان حالياً وفي الوقت نفسه رئيس الدولة والحكومة والشرطة الوطنية والقوات العسكرية (بصفته القائد الأعلى) والحزب الحاكم في البرلمان. وتَسبب دمج السلطة هذا، فضلاً عن قمع المحتجين، بتثبيط عزيمة الكثيرين في المعارضة.
وعلى الأقل إلى حد ما جرى في اسطنبول. ففي آذار/مارس، انتُخب مرشّح المعارضة أكرم إمام أوغلو رئيساً لبلدية المدينة - وهو منصب في غاية الأهمية تقع على عاتق من يشغله مسؤولية ما يقرب من 20 في المائة من سكّان تركيا وكان في الماضي بمثابة نقطة انطلاق لتبوّؤ مكانة سياسية وطنية بارزة. وبعد أن شعر أردوغان بالتهديد إثر خسارة «حزب العدالة والتنمية»، استخدم نفوذه في مجلس الانتخابات والمؤسسات التركية الأخرى لإلغاء التصويت بناءً على "مخالفات" مزعومة، مما مهد الطريق لإجراء اقتراعٍ جديد في 23 حزيران/يونيو. ثمّ استخدم سيطرته على معظم وسائل الإعلام التركية وموارد الدولة لصالح مرشّحه. ومع ذلك، لم يفز إمام أوغلو في الجولة الثانية فحسب، بل زاد هامش نصره بشكلٍ هائل بنسبة بلغت خمسين ضعفاً بالمقارنة مع الجولة الأولى. وشكّلت النتيجة نقطة تحوّل بالنسبة للمعارضة، حيث يعتقد الكثيرون في صفوفها مجدداً أنه يمكن تحدي أردوغان سلميّاً.
ائتلاف المعارضة
عندما غيّر أردوغان النظام السياسي في تركيا في العام الماضي من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، لم يُدرك على الأرجح أنه قد يساعد المعارضة. ففي السابق، لم يفز في الانتخابات المتتالية لأنه حقق نموّاً اقتصاديّاً قويّاً فحسب، بل لأنه حظي بنعمة المعارضة المنقسمة أيضاً. ويعارض حوالي نصف مواطني تركيا الرئيس، ولكن كانت أعدادهم تنقسم حتى وقتٍ قريب بين مجموعات متباينة من القوميين الأتراك والأكراد، وفصائل يسار الوسط ويمين الوسط، والجماعات المحافِظة والليبرالية. ونظراً إلى هذا التنوع الأيديولوجي، غالباً ما كانت الفجوة بين جماعات المعارضة أوسع من فجوتها مع «حزب العدالة والتنمية» الذي يتزعمه أردوغان.
ومع ذلك، تعني بنية النظام الرئاسي الجديد أن معظم الانتخابات ستتحوّل الآن إلى سباقاتٍ بين حزبيْن. فإذا لم يحصل أي مرشح على أكثر من 50 في المائة من الأصوات في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، فعندئذ يدخل المرشّحان اللذان يحصلان على أعلى نسبة من الأصوات في جولة تنافسية ثانية - وهذا وضعٌ أرغم فصائل المعارضة المتخاصمة عادةً في تركيا على التعالي على الخلافات وتشكيل تحالفات انتخابية.
لقد فشل التحالف الأول في السباق الرئاسي في العام الماضي، ولكنّ إمام أوغلو فاز في اسطنبول باستخدام النهج نفسه، واحتشدت المعارضة التركية بأطيافها كافة خلفه. ودعمه كلٌّ من «حزب الشعب الجمهوري» الذي يمثّل الناخبين اليساريين والديمقراطيين الاشتراكيين، و«حزب الخير» الذي يمثّل الناخبين من يمين الوسط والقوميين الأتراك، و«حزب ديمقراطية الشعوب» الذي يمثّل الناخبين القوميّين والليبراليين الأكراد؛ حتّى أنه حصل على تأييد «حزب السعادة» الإسلامي المحافظ، ولو بشكلٍ غير مباشر. وقد أدى تباطؤ الاقتصاد التركي إلى تسريع هذه الوحدة والزخم.
الخاتمة
في المرة الأخيرة التي حدثت فيها تجمعات كبيرة مناهضة للحكومة في تركيا، تمكّن أردوغان من إخمادها ليس بفضل سلطته على الأجهزة الأمنية للدولة فحسب، بل لأن المعارضة افتقرت إلى برنامج وقيادة موحدتيْن أيضاً. وفي هذه المرة، يبدو أن المعارضة موحّدة أكثر مما كانت عليه في عام 2013، حتى أنه قد يكون لها زعيمٌ رمزي يجسّده شخص إمام أوغلو، وهو السياسي الوحيد الذي هزم أردوغان منذ عام 2003. ولكن من غير المعروف ما إذا كان أردوغان سيتخذ إجراءات صارمة ضد الموجة الجديدة من التجمعات أو سيحاول استمالة المعارضة وتقسيمها. وبرز الانشقاق حتى داخل حزبه الخاص، مع إعلان وزير الاقتصاد السابق من «حزب العدالة والتنمية» علي باباجان، وهو العبقري المسؤول عن "المعجزة الاقتصادية" " لتركيا في العقد الأول من القرن الحالي، أنه سيؤسس حركة سياسية جديدة. وأياً كان المسار الذي يختاره أردوغان، سيواجه معارضةً نشطة مصممة على ما يبدو على دفع الديمقراطية التركية إلى مرحلة جديدة.
سونر چاغاپتاي هو زميل "باير فاميلي" في معهد واشنطن ومؤلف الكتاب المرتقب "إمبراطورية أردوغان: تركيا وسياسة الشرق الأوسط". دنيز يوكسل هي مساعدة باحثة في المعهد.