- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
عندما فشلت الضمانات الدولية فشلاً ذريعاً
مع اقترابنا من الذكرى السنوية الخمسين لحرب عام 1967 التي تصادف الشهر المقبل، حري بنا ألا ننسى إحدى العبر الثابتة المستقاة من الفترة التي سبقت اندلاع الصراع. وتحديداً أنه لا بدّ من تقييم الاتفاقات بصورة موضوعية وكلية ولا يجب إسنادها إلى ضمانات دولية غير ملموسة بشأن المستقبل. وقد انطبعت هذه الفكرة في وجدان إسرائيل في أيار/مايو 1967. وعزّزت هذه العبرة المؤلمة الروح الصهيونية القائمة على الاعتماد على الذات. وفي هذا الإطار، قال مناحيم بيغن عبارته الشهيرة في وقت لاحق: "لا يوجد ضمانة تضمن ضمانة".
وفي 22 أيار/مايو 1967، أغلق الرئيس المصري جمال عبد الناصر مضيق (أو مضائق) تيران، مما شكّل ضربة موجعة لإسرائيل التي كانت تعتمد على واردات النفط من إيران. واعتقدت إسرائيل أنها تلقت ضمانة من المجتمع الدولي فى عام 1957 بأنه سيعيد فتح المضيق إذا أغلقه عبد الناصر مرة أخرى كما فعل في عام 1956.
وبعد أزمة السويس ("حملة سيناء") في عام 1956، وافق رئيس الوزراء الإسرائيلي ديفيد بن غوريون على مضض من حيث المبدأ على الانسحاب من شبه الجزيرة، لكنه طلب عدة ضمانات قبل أن تنفذ إسرائيل هذه الخطوة: ومن بين الضمانات التي طلبها كان عدم إغلاق مضيق تيران مرة أخرى، وتمكُّن السفن الإسرائيلية من دخول خليج العقبة والميناء الإسرائيلي في إيلات. كما طلب ضمانة بعدم سحب "قوات الطوارئ الدولية" التابعة للأمم المتحدة من سيناء بناء على طلب المصريين فقط.
وقد شعر الرئيس الأمريكي دوايت آيزنهاور بأن إسرائيل مرغمة على الامتثال لقرار الأمم المتحدة القاضي بالانسحاب، وتعجز عن فرض شروطها على عملية الانسحاب. وفي الوقت نفسه، أقرّ بأنه تساورها مخاوف مشروعة. وبغية حلّ هذه الأزمة في آذار/مارس عام 1957، عرض على إسرائيل نصاً عُرف على أنه مذكرة عبر وزارة الخارجية الأمريكية جاء فيها أنه "لا يحق لأي دولة أن تمنع بشكل قسري العبور الحر والبريء في الخليج وعبر المضيق الذي يتيح الوصول إليه"، وأن "الولايات المتحدة، نيابةً عن سفن السجل الأمريكي، مستعدة لممارسة حق المرور الحر والبريء والانضمام إلى الآخرين لضمان الاعتراف العام بهذا الحق"، بإشارته صراحةً إلى أن غلق المضائق غير مقبول. كما ألمحت المذكرة ضمناً من دون أي إشارة صريحة إلى أن الولايات المتحدة ستكون مستعدة لاستخدام الوسائل العسكرية لدعم كلامها.
وفي رسالة إلى بن غوريون بعد المذكرة، كتب آيزنهاور أن إسرائيل "لن يكون لديها ما يدعو الى الندم" على قرارها بالانسحاب. بدوره، أوضح بن غوريون لآيزنهاور أنه "يعتبر أن حرية الملاحة في المضيق وخليج العقبة مضمونة نوعاً ما".
وفي أعقاب خطوة عبد الناصر حول المضيق، أوفد رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي إشكول وزير خارجيته آبا إيبان في جولة مكوكية إلى باريس ولندن وواشنطن، ليرى ما إذا كان المجتمع الدولي سيُعيد فتح المضائق وتجنب الحرب. غير أن إيبان واجه سياقاً سياسياً متغيراً عن العقد السابق. ففي ذلك الوقت كانت فرنسا بزعامة شارل ديغول تتصالح مع العالم العربي بعد خروجها من الجزائر ولم تعد منبوذة كما كانت عليه خلال خمسينيات القرن الماضي. وقد أكّد ديغول لإيبان بأنه تم التعهد بإبقاء مضيق تيران مفتوحاً. وكما كتب [عضو الكنيست الإسرائيلي] مايكل أورين في كتابه "ستة أيام من الحرب"، أعلن ديغول آنذاك إنه "كان ذلك عام 1957"، مضيفاً "نحن الآن في عام 1967". أما الرئيس الأمريكي جونسون فكان منشغلاً في فيتنام، واضطر مساعدوه إلى التوجه بسرعة إلى مقر تقاعد آيزنهاور في غيتيسبيرغ في ولاية بنسيلفانيا، لمعرفة ماهية الوعد الذي قطعه.
[وقد عُرضت] فكرة بريطانية تمثلت بـ"سباق السفن" أو إبحار مجموعة سفن من دول مختلفة عبر المضيق لإرغام عبد الناصر على إعادة فتحه، لكنها لم ترق للجنرال ايرل ويلر رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية في عهد الرئيس جونسون. ولدى سؤاله عما سيحصل إذا أطلقت مصر النيران على الجيش الأمريكي في حال شق طريقه بالقوة عبر المضيق في مثل هذه الحالة، كان ردّه "هذا يعني الحرب". إلا أن فكرة سباق السفن لم يُكتب لها النجاح.
ومع ذلك، لا ينبغي الخلط بين الفكرة بأن الضمانات الدولية ليست حازمة مع التفكير القائل بأنه يجب على إسرائيل الاعتماد فقط على القوة. فقد صمدت معاهدة السلام الموقعة بين مصر وإسرائيل عام 1979 ومعاهدة السلام بين الأردن وإسرائيل عام 1994 في وجه صدمات إقليمية وثنائية هائلة خلال العقود القليلة الماضية.
وقد سخر النقّاد من كل معاهدة معتبرين أنها مجرد سلام بارد. غير أن هذه الاتفاقات درّت على إسرائيل عائدات كبيرة جاءت من عملية السلام.
ففي الفترة التي أعقبت حرب عام 1973، قدّرت الأرقام الرسمية الأمريكية أن إسرائيل قد خصصت نصف ناتجها القومي الإجمالي للنفقات العسكرية. واستناداً إلى هذه الحسابات، فإن هذا سيعني أن إسرائيل ستنفق اليوم ما يقرب من 150 مليار دولار سنوياً. وفي الواقع، تقلّ نفقات إسرائيل العسكرية عن 19 مليار دولار، وفقاً لـ "المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية" الذي مقره في لندن. (وتأتي 3.1 مليارات دولار من أصل هذا المبلغ من الولايات المتحدة بالإضافةً إلى 500 مليون دولار كدعم لنظام الدفاع الصاروخي الإسرائيلي. والتزمت الولايات المتحدة بزيادة هذا المبلغ إلى 3.8 مليارات دولار اعتباراً من عام 2018). ومن الواضح أن الفرق بين الرقمين هائل للغاية - أي إن العائدات من السلام تتجاوز 130 مليار دولار سنوياً. وبدلاً من ذلك، يُخصص هذا الإنفاق للطرق والمدارس والعيادات وعدد كبير من البرامج الأخرى التي أدّت إلى تحسّن نوعية حياة الإسرائيليين بشكل هائل.
كما يعني السلام أن العلاقات العسكرية والأمنية الثنائية بين إسرائيل ومصر وبين إسرائيل والأردن عند أعلى مستوياتها بسبب التهديدات المشتركة التي يطرحها تنظيم «الدولة الإسلامية» («داعش») وحركة «حماس» وغيرهما من الجهاديين. وخلاصة القول إن الاتفاقات ذات الأسس السليمة كانت ذات أهمية كبيرة لأمن إسرائيل وصمدت أمام اختبار الزمن. إن الاتفاقات الناجحة هي التي تخدم مصالح الطرفيْن.
ويختلف ذلك اختلافاً جوهرياً عن الوعود العامة بتدخل دولي من أطراف ثالثة في الأزمات المستقبلية حيث لا يوجد تحالف تعاقدي. وكان هناك العديد من العوامل التي ساهمت في حرب حزيران/يونيو 1967، أحدها أن الضمانات الدولية قبل عقد على هذا التاريخ كانت سريعة الزوال وعابرة. فحين تغيّر السياق السياسي للأطراف الخارجية، تبددت الضمانات.
ولكي نكون منصفين، تختلف الضمانات الدولية عن الترتيبات الأمنية. فهل يجب أن تحول دروس عام 1967 دون إمكانيات إجراء ترتيبات أمنية بقيادة حلف "الناتو" أو الولايات المتحدة في وادي الأردن مستقبلاً في حال إحراز تقدّم على الجبهة الإسرائيلية-الفلسطينية؟ لقد أصبحت المسألة نظرية للغاية فى الوقت الحالي لعدة أسباب، من بينها الفجوات الهائلة حول القضايا بين إسرائيل والفلسطينيين وعدم الاستقرار الشامل الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط خلال فترة ما بعد "الربيع العربي". وبطبيعة الحال، هناك الكثير من العوامل التي يجب أخذها في الاعتبار، ولا شكّ في أن مذكرة من آيزنهاور بشأن سيناريو مستقبلي نظري ستكون مختلفة للغاية عن ترتيبات أمنية مفصلة وملموسة ومستمرة تتمكن بموجبها إسرائيل من العمل بنجاح بمفردها إذا انهارت هذه الترتيبات.
ولا يزال التردد في الفترة التي سبقت حرب عام 1967 يعطي درساً تحذيرياً هاماً، يُظهر مكامن فشل الضمانات الدولية بالكامل. وإذا ساءت الأمور، يجب أن تكون إسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها بنفسها.
ديفيد ماكوفسكي هو زميل "زيغلر" المميز ومدير مشروع عملية السلام في الشرق الأوسط في معهد واشنطن. وتشمل منشوراته المذكرة السياسية لعام 2017 "نحو صيغةٍ جديدة لمعالجة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني" (التي شارك في تأليفها دينيس روس).
"جيروزاليم بوست"