- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
قاآني وصراعات القيادة المتنامية في عالم ما بعد سليماني
بعد مقتل قائد فيلق القدس قاسم سليماني، ورث إسماعيل قاآني أمرا ربما لم يكن مستعدًا له، حيث جلب نمطاً جديداً من القيادة إلى فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني تسبب في خلق خلافات بين شركائه.
بعد مقتل قائد فيلق القدس سليماني، سرعان ما حل محله إسماعيل قاآني وفقا لوصية سليماني نفسه. ومع ذلك، فإن فهم موقف قاآني خلال فترة ولاية سليماني سيساعد في تفسير بعض القرارات التي اتخذها لاحقًا كقائد لفيلق القدس، وفهم التحديات التي يواجهها حاليًا قاآني في هذا المنصب.
خلال فترة ولاية سليماني تركز دور قاآني في الغالب على إدارة الشؤون الداخلية لفيلق القدس، وبالتزامن كان مسؤولاً عن شؤون أفغانستان وباكستان في فيلق القدس، وبما أن إدارة الشؤون الداخلية لفيلق القدس الذي يضم حوالي 33 ألف عسكري إيراني (في كافة الأقسام مع احتساب العاملين في صناعات فيلق القدس والتدريب العسكري) وكذلك يدعم المجموعات النيابية التي تخضع مباشرة لإدارة فيلق القدس (وهي مجموعات تديرها الجمهورية الإسلامية من خلال حزب الله)، لذلك كان الأمر بحاجة إلى حضور دائم وكان قاسم سليماني إما مسافرا أو في الحفلات والاجتماعات مع أشخاص مختلفين، فترك الشؤون الإدارية والداخلية لقاآني.
ورغم أن فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني يضم مكونات ومراتب مختلفة، والتي تعرف بـاسم وحدات 400، 340، 12000، 700 وغيرها، إلا أن لكل منها مهام في مناطق جغرافية مختلفة وأبعاد مختلفة. إلى ذلك تقع مسؤولية إدارة هذه المراتب على عاتق مجلس قيادة لفيلق القدس، والذي غالبا ما يعقد جلساته على شاكلة مجلس الوزراء لمناقشة القضايا المهمة مثل صنع السياسات في البلدان المستهدفة، والعمليات، والميزانيات، وتشكيل مجموعات جديدة، وتقييم الأنشطة، والصناعات العسكرية، الخ، وكان إسماعيل قاآني أيضاً حاضراً في هذا المجلس بصفته نائب قائد فيلق القدس.
لكن قاسم سليماني تصرف مثل الأب الروحي في شبكات أشبه بالمافيا بطريقة فردية، في حين أن العديد من هذه الشبكات لا تندرج تحت صفوف فيلق القدس، كما هو الحال في العراق على سبيل المثال، فأن الوحدة الـ 400 في فيلق القدس بالإضافة إلى كونها مسؤولة عن المجموعات العراقية وإدارتها، لكن في الوقت نفسه، أنشأ قاسم سليماني شبكة قوية من مختلف الأشخاص بميزانيات وأهداف منفصلة..وبهذه الطريقة فقد اعتمد أشخاص مختلفون ومجموعات مختلفة على سليماني، وبذلك تمكن من إنشاء منظمة متماسكة دون تسجيلها في فيلق القدس، والتي كانت تتألف من آلاف الشركات والأفراد والمجموعات الصغيرة. علاوة على ذلك، كان لسليماني لقاءات شخصية متكررة وودية حتى مع القادة من الرتب المتوسطة في الفصائل الوكيلة لإيران
وعلى صعيد آخر استطاع سليماني خلق التوازن بين المجموعات النيابية، بحيث اعتقدت كل مجموعة من المجموعات الوكيلة أن سليماني لديه أفضل العلاقات معها فقط، وهكذا بلغ مستوى التنسيق والاعتماد على سليماني إلى أعلى المستويات، ولذلك عندما تولى قاآني المسؤولية، لم يكن للعديد من هذه الجماعات أي صلة به ولم يعرفوا عنه الكثير، ولم يكن لدى قاآني نفسه معرفة ميدانية وموضوعية بهذه الجماعات، خاصة وان دوره كان يتركز على الشؤون الداخلية لفيلق القدس.
ومنذ ذلك الحين، لا يبدو أن الوضع قد تحسن بشكل ملحوظ، حيث كان قاآني لا يجتمع مع القادة في الفصائل الوكيلة لإيران إلا في إطار معين وفي جو رسمي للغاية، مما تسبب في فتور العلاقات بينه وبين الجماعات التابعة لإيران في المنطقة والتي تفضل التعامل مع الأشخاص المقربين من سليماني، وخاصة الوحدة 400 التي يتنافس أعضاؤها تنظيميا مع قاآني.
كان قاسم سليماني مصاب بوهم القوة وكان يعتقد أنه بسبب تكلفة قتله لن يقدم أحد بمثل هذا الإجراء، لكن قاآني قلق للغاية بشأن تصفيته، ولهذا السبب بات أقل نشاطًا، ولهذا السبب تم تنفيذ العديد من مهام سليماني السابقة بواسطة مؤسسات أخرى.. خاصة بعد أن هاجمت إسرائيل هدفا في لبنان، تصادف أنه كان قريبا من مكان تواجد قاآني، ومنذ ذلك الحين أصبح قلقا أكثر من ذي قبل. وأثر ذلك على استعداده لتحسين علاقاته من خلال الاجتماع مع قادة الفضائل الموالية لإيران وجها لوجه.
علاوة على ذلك، كان لإخفاق قاآني في إقامة علاقات وثيقة مع تلك الفصائل أثره على قدرة فيلق القدس على ممارسة التنسيق والسيطرة، حيث لم يتمكن قاآني أبداً من إقامة علاقات وثيقة مع قادة تلك الفصائل، وخير مثال على ذلك أحداث ما بعد الانتخابات العراقية، حيث لم يستطع قاآني لعب دور حاسم مثل سليماني لتحقيق التوازن بين الجماعات التابعة لطهران. تجدر الإشارة إلى أنه بلغت الأمور درجة هاجمته فيه كل من قوات عصائب أهل الحق ومنظمة بدر بشكل غير مباشر، ولم يسمح له مقتدى الصدر بالدخول إلى بيته عدة مرات، مما بُبرز مدى السيطرة المحدودة التي يمتلكها الرجل.
كان لهذا الواقع الجديد في نهاية المطاف تأثير على كيفية إدارة طهران لعلاقاتها مع الفصائل الموالية لها بشكل عام، ففي فترة ولاية سليماني كانت الأمور المتعلقة بالدول التي تتمتع الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالنفوذ فيها مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن، تدار من قبل فيلق القدس وسليماني نفسه، سواء كانت على الصعيد السياسي حيث كان فيلق القدس يعين السفير فيها ويدير الشؤون المتعلقة بالعلاقات المالية والتجارية والعسكرية. لكن قاآني لم يتمكن من لعب مثل هذا الدور بتاتا، ولهذا السبب تدخلت مراكز قوة إيرانية أخرى في المشهد وتسببت هذه القضية في العمل المتوازي ونقص التخطيط والتناقض والارتباك في السياسة الخارجية للدول المستهدفة من قبل إيران.
وبالمثل يواجه قاآني تحديات في الداخل؛ حيث لم يكن له اليد العليا في الصراعات الداخلية في فيلق القدس إطلاقا، لأن أشخاصا مثل يوسف شهلائي المسؤول الأول على ملف اليمن في فيلق القدس ومجيد نواب( قائد الوحدة ٤٠٠ ونائب قائد الوحدة 340) ،ومحمد رضا محمدي (قائد العمليات في فيلق القدس) وسعيد رضائي (القائد السابق لجهاز حماية استخبارات فيلق القدس) وسيد رضوى (المسؤول المالي الحالي لفيلق القدس و رئيس الخدمات اللوجستية سابقا في العراق)، كانوا في صراع مع قاآني وبلغ الأمر ذروته عندما قام أعضاء في القيادة بعرقلة جهود قاآني لإحالة ستين عنصرا بارزا في فيلق القدس للتقاعد القسري، و كانوا أعضاء في دائرة سليماني.
في واقع الأمر، لم تكن شبكات سليماني السرية على صلة بقاآني بتاتا، بل ظلت ضمن اختصاصات العديد من المقربين من سليماني، ولكن باستثناء حزب الله اللبناني حيث كان قادته جميعهم من منتسبي فيلق القدس ولهم رتب عسكرية وأسماء إيرانية أحيانًا، لذا دعموا قاآني، وحاولوا تعزيز موقعه، وجعلوا علاقاته مع الجماعات الفلسطينية أقوى من ذي قبل. ويعتقد بعض المطلعين على بواطن الأمور أن هذا التقارب كان له تأثير على قرار حماس بمهاجمة إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر. بعد بدء حرب غزة، صرحت مصادر تابعة لما يسمى بمحور المقاومة، لم يتم الإفصاح عن هويتها لأسباب أمنية، للكاتب أن قاآني كان قد خطط لهذه العملية مباشرة مع الفلسطينيين، فهم يرون أن العملية قد تم تنفيذها استنادًا لخطة وضعها عماد مغنية منذ سنوات وتم تحديثها بمساعدة حزب الله اللبناني. وتعتقد تلك المصادر أن قاآني أخبر حزب الله ومجلس قيادة فيلق القدس أن هذا الهجوم لن يحدث قريبا، وأن التدابير المتخذة كانت مجرد إجراءات تحضيرية بطبيعتها.
تحدثت تلك المصادر أيضا عن حدوث صراع داخل قيادة فيلق القدس على خلفية الهجوم والتساؤل لماذا أمر قاآني بالهجوم عبر الالتفاف على مجلس القيادة- وكيف حاول تبرئة نفسه من خلال التأكيد على أن محمد الضيف ويحيى السنوار هم من قاموا بتنفيذ الهجوم الذي وقع خارج نطاق قيادته.
هذا هو فهم العديد من المنتسبين لمحور المقاومة على الأقل لكيفية تطور أحداث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، حيث يؤكد الانفصام بين قاآني وبين عناصر آخرين من قيادة الحرس الثوري الإيراني في الفترة الزمنية التي سبقت وأعقبت تلك العملية الكبيرة التي قام بها وكيل إيراني، على حالة الاضطراب السائدة داخل قيادة الحرس الثوري في فترة ما بعد سليماني، كما يُبرز آرائهم حول ما يمكن أن تُفضى إليه هذه التوترات أو تسمح به من حيث سيطرة إيران الأوسع على مجموعاتها الوكيلة. وهناك من يرى أن هجمات 7 أكتوبر/تشرين الأول أثارت الكثير من الانتقادات لقاآني من داخل الحرس الثوري الإيراني وبين الجماعات الوكيلة أيضا، حيث تعتقد تلك المصادر أن قيادة فيلق القدس قامت بتوبيخ قاآني في اجتماع عُقد في 14 تشرين الأول/أكتوبر حضره رئيس أركان القوات المسلحة الإيرانية اللواء الجنرال باقري وقائد المقر المركزي لخاتم الأنبياء غلام علي رشيد وشيرازي رئيس المكتب العسكري لمحسن قمي وعدد من أعضاء الحكومة.
وفى السياق نفسه، يشير كلا الاحتمالين الى وجود فشل في القيادة، فإذا كان قاآني حقا متورطًا بشكل مباشر في تلك الهجمات لكنه لم يبلغ قيادة الحرس الثوري الإيراني، سيعنى ذلك أما أنه فشل في إبلاغ القيادة مسبقًا بحدوث هجوم لتقوم بدورها بتوفير البنية التحتية السياسية والعسكرية والاقتصادية لذلك، أو أن العملية تمت دون علمه، وهو ما يُعتبر فشلاً ذريعاً لقائد مسؤول عن سلوك الجماعات التي تتلقى رواتب شهرية من إيران، وهو ما يحمل إيران المسؤولية السياسية الناجمة عن تلك التصرفات.
علاوة على ذلك، وفرت تصريحات غير عادية من قبل المرشد الأعلى سياقًا للتأكيدات التي تشير إلى وجود توتر كبير داخل قيادة الحرس الثوري الإيراني خلال الأشهر السابقة، ففي كانون الأول/ديسمبر 2023، شعر آية الله خامنئي بأنه مضطر لدعم قاآني علناً خلال لقائه مع عائلة قاسم سليماني. كما نُشرت رسالة الدعم هذه على حسابات خامنئي المختلفة على موقع "أكس" بعدة لغات بما في ذلك الفارسية والعربية والإنجليزية. ومن النادر أن يمتدح المرشد الأعلى قائداً حياً، إلا أن الخروج عن هذه القاعدة يشير إلى أن قاآني كان بحاجة إلى هذا الدعم، حيث دفع الانقسام العميق داخل الحرس الثوري الإيراني، وما يواجهه قاآني من تحدى لمنصبه، آية الله خامنئي للدفاع عنه علناً.
رؤية قاآني للمستقبل
إن التناقض بين قيادة سليماني وقيادة قاآني ملفت للنظر، حيث ركزت قيادة سليماني على تطوير علاقات عميقة وشخصية مع الجهات الفاعلة في الميليشيات، في حين أدى سلوك قاآني البارد والرسمي إلى نفور المؤيدين السابقين لسليماني منه. كان يهم سليماني جدًا أن يكون ذو نفوذ والشخص الأول في المنطقة، وحاول تقديم نفسه على أنه الرجل الشمولي في المنطقة، بينما يحاول قاآني ترسيخ موقعه كقائد لفيلق القدس. وحاول سليماني على الظاهر عدم التدخل في شؤون إيران السياسية الداخلية والبقاء على مسافة واحدة من التيارات السياسية في إطار الجمهورية الإسلامية الإيرانية، لكن قاآني حافظ بقوة على علاقات وثيقة مع تيار إبراهيم رئيسي ويقيم تعاون أوثق مع وزارة الاستخبارات مقارنة بعلاقته مع استخبارات الحرس الثوري الإيراني، فهو الذي ينسق بشكل وثيق لتصفية الناشطين السياسيين في الخارج مع وزارة الاستخبارات، بينما في فترة سليماني كان ذلك يتم عن طريق استخبارات الحرس الثوري الإيراني.
فمن ناحية، لا شك أن قاآني هو زعيم أقل تأثيرا. لكن افتقاره للسيطرة على وكلاء إيران يحمل في طياته بعض المخاطر، كما أن قاأني لم يكن أقل مثيرا للحروب من سليماني، وهو أحد الذين يؤيدون بشدة امتلاك الأسلحة النووية. علاوة على ذلك، إن إخفاق قاآني في السيطرة على الإمبراطورية التي أسسها سليماني سيكون له عواقب، خاصة على أولئك الذين تستهدفهم هذه الميليشيات، حيث تتآكل قدرة إيران على السيطرة بشكل منهجي على هذه القوات من خلال تشرذم التنسيق.
في الوقت الحالي، صار مستقبل قاآني غير واضح، فمن المرجح أن تتم إقالة قاآني بعد انتهاء الحرب بين إسرائيل وحماس، إذا تكشف بالفعل انه المهندس الرئيسي لهجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر. ولكن إذا تمكن من الاحتفاظ بمنصبه، سيقوم بإجراء تغيير هيكلي واسع النطاق في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني يؤدى إلى إخراج فيلق القدس من عصر سليماني إلى دور مختلف في المنطقة يتناسب مع نمط قيادة قاآني الخاصة والقيود التي يواجهها.