- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3033
قناة المشتريات الإيرانية (الجزء الثاني): عامل السرية
كما هو موضح في الجزء الأول من هذا المرصد السياسي، سوف تؤدي العقوبات الأمريكية التي من المقرر أن تدخل حيز التنفيذ في 5 تشرين الثاني/نوفمبر إلى عرقلة قناة المشتريات التي تم إعدادها لتنظيم واردات إيرانية معيّنة في أعقاب الاتفاق النووي. لكن خلال السنوات الثلاث تقريباً منذ تأسيسها، لم تسعَ القناة لإقناع المشككين بأن طهران قد تخلت عن طموحها لتطوير أسلحة نووية. وفي الواقع، يخشى الكثيرون من أن تؤدي العقوبات المتجددة إلى دفع إيران إلى تسريع جهودها لتحقيق هذه الغاية، سواء من خلال مواصلة الأنشطة النووية غير المعلنة أو تخزين مكوّنات من أجل تعزيز برنامجها المُعلن إذا انهارت «خطة العمل الشاملة المشتركة» كلياً. وإذا ما حصل ذلك، فمن المرجح أن يستخدم النظام قنوات سرية، تماماً كما فعل في الماضي عندما قام بشراء معدات لتخصيب اليورانيوم وتقنيات أخرى.
من العالم النووي خان إلى كوريا الشمالية والصين
كان بالإمكان تطوير جزء كبير من البرنامج النووي الإيراني الحالي بفضل مساعدة شبكة أنشأها العالِم النووي الباكستاني عبد القادر خان. وجاءت هذه الشبكة لانتشار الأسلحة النووية امتداداً للنظام الذي بدأ خان في تأسيسه خلال سبعينيات القرن الماضي، عندما كان يحاول بناء محطة لتخصيب اليورانيوم في باكستان مستخدماً تكنولوجيا الطرد المركزي الأوروبية. وقد شملت شبكته الأصلية رجال أعمال وَدودين، وشركات صديقة كانت مستعدة لغض الطرف عما كانت تصنعه وتزوده، والتعتيم على عناوين التسليم، مما يخفي واقع أن باكستان كانت المستخدم النهائي المزمع. وللالتفاف على الضوابط، تمّ إطلاق تسميات مضللة عمداً على الكثير من المواد أو حتى إرسالها عبر حقيبة دبلوماسية.
واستخدمت إيران أساليب مماثلة عندما أطلقت برنامجها النووي الخاص في التسعينات، فأسست شركات واجهة وطلبت إمدادات بحجة أنها لغرض أبحاث جامعية أو للاستعمال التجاري، وأعادت شحن المكوّنات عبر دول ثالثة. ومن خلال هذه الموارد، تمكّن النظام من شراء عناصر أجهزة الطرد المركزي، ووثائق تصميم مُطلِقات النيوترون، ومعدات إنتاج الزركونيوم، وتصاميم الصواريخ، وأشكال مختلفة من اليورانيوم وغيرها من المواد الضرورية، بطريقة غير شرعية. وعلى الرغم من أن معظم هذه المكونات جاءت من خان ومصادر باكستانية أخرى، إلا أن إيران حصلت على بعضها من كوريا الشمالية والصين. ولا تزال الجمهورية الإسلامية تستخدم اليوم مثل هذه القنوات غير المشروعة، كما يتضح من تقرير الأمم المتحدة من حزيران/يونيو هذا العام الذي كشف عن شحنات متعددة من المواد ذات الاستخدام المزدوج التي لم تنل الموافقة من خلال قناة المشتريات المفوّضة من قبل الأمم المتحدة.
تجنب القناة
يُعتبر انخفاض حجم الشحنات التي تتم عن طريق القناة الرسمية مؤشراً آخر على استمرار المشتريات السرية. وكما هو موضح في الجزء الأول من هذا المرصد السياسي، تلقّت القناة سبعةً وثلاثين طلباً فقط لعمليات نقل بين فترة تأسيسها عام 2016 وتوقيت تقريرها الأخير الصادر عن الأمم المتحدة في حزيران/يونيو المنصرم (ومعظمها من ألمانيا) بشأن التقدم المحرز. وكان القسم الأكبر من هذه الطلبات يتعلق بالبضائع ذات الاستخدام المزدوج، والتي يمكن أن يكون لها أهداف نووية، لكن بدا أنها أُرسِلت لاستخدامها التجاري المعلن في قطاعات السيارات والنفط/الغاز والأدوية والطب والبناء. وكان من بينها طلب أو اثنان يتضمنان مواد في طريقها إلى برنامج إيران النووي المعلن. وعلى الرغم من أنه جرى تقليص البرنامج بموجب الاتفاق النووي وبالتالي أصبح يتطلب عدداً أقل من المواد اللازمة لتشغيله، إلا أن الفكرة القائلة بأنه يحتاج إلى عدد قليل جداً من العناصر على مدى العامين والنصف الماضيين تبدو بعيدة المنال.
وبالفعل، تمّ رفض طلب رسمي واحد عبر القناة على الأقل: فقد أوقفت بريطانيا عقداً لكازاخستان أمده ثلاث سنوات يقضي ببيع 950 طناً من كعكة اليورانيوم الصفراء إلى إيران. علاوةً على ذلك، هناك بعض المواد التي تتلقاها إيران لاستخدامها في محطاتها النووية في "فوردو" و"آراك" مُعفاة من المرور عبر قناة المشتريات. ولكن حتى مع أخذ هذه العوامل في الاعتبار، لا يزال عدد الطلبات التي يتم تقديمها عبر القناة منخفضاً بشكل يثير الشكوك، إذ يبدو أن احتياجات التشغيل والصيانة الروتينية وحدها تتطلب حجماً أكبر. وقد تقوم إيران أيضاً بشراء مواد بمستويات أدنى من العتبات الضرورية للمرور عبر القناة؛ وهي استراتجية قد تكون فعالةً وإن كانت غير كفوءة بعض الشيء.
ويتمثل سيناريو محتمل وأكثر مدعاة للقلق في قيام طهران باستغلال ثغرة في قناة المشتريات - أي منفذ يضع المسؤولية عن طلب الموافقة على المزوّد بدلاً من إيران. وبشكل أساسي يسمح هذا البند للنظام بتجنب القناة، ومن ثمّ التظاهر بالغباء عند انكشافه. وكما هو موضح في الجزء الأول من هذا المرصد السياسي، تحدثت واشنطن والإمارات مؤخراً عن شحنات متعددة من المواد ذات الاستخدام المزدوج تمّ إرسالها إلى إيران دون موافقة. وفي نيسان/أبريل 2017، أبلغت الإمارات الأمانة العامة للأمم المتحدة أنها صادرت أربع شحنات في أيار/مايو 2016، ونيسان/أبريل 2017، وتموز/يوليو 2017 وكانون الأول/ديسمبر 2017، تحتوي كل منها على مواد كان يفترض أن تخضع لعملية تقديم الطلب إلى قناة المشتريات. وبعد أسبوع، أعلنت الولايات المتحدة أنه قد تم نقل المزيد من المواد المزدوجة الاستخدام دون موافقة.
إنّ كافة المواد المحدّدة في هذه التقارير مثيرة للقلق من منظور الانتشار النووي. فالتنجستن الذي وُجد في المضبوطات [التي صادرتها] الإمارات يمكن استعماله كبديل لليورانيوم في اختبار تصاميم الأسلحة، وكعاكس داخل سلاح نووي عامل، وكمكوّن في برنامج الصواريخ الباليستية. وقد سبق لإيران أن اشترت التنجستن بصورة غير مشروعة من شركة صينية، وإن لم يكن ذلك في الشكل الأسطواني الذي اكتشفته الإمارات.
كما أن المادتين اللتين أبلغت عنهما الولايات المتحدة تشكلان معضلةً أيضاً. فيمكن استخدام ألياف الكربون لصنع دوارات ومنافخ لأجهزة الطرد المركزي. وبالفعل، بدأت إيران باستخدام ألياف الكربون في أجهزتها المتقدمة للطرد المركزي حين تمّ فرض عقوبات على المادة المفضلة لديها، الصلب المارتنسيتي المُصلّد. كما يمكن الاستفادة من ألياف الكربون في برنامج صاروخي. أما المادة الثانية، وهي سبائك الألمنيوم، فيمكن استعمالها على نحو مماثل لبناء أجهزة الطرد المركزي. وتبرز هذه السبائك بصورة أكثر من المواد الأخرى المعلن عنها، لأنها مصنفة كمواد نووية بدلاً من مواد ذات استخدام مزدوج إذا كانت تستوفي معايير معيّنة لقوة الشد.
وتجدر الإشارة إلى أنّ تقرير الأمم المتحدة لا يحدّد الدول التي زوّدت هذه المواد. ومن شأن التقرير المقبل، المزمع صدوره في كانون الأول/ديسمبر، توفير المزيد من التفاصيل.
الاستخبارات مقابل الاعتراضات
إنّ واقع ما كشفت عنه أبوظبي لم يظهر إلى العلن إلا بعد مضي عاميْن على المصادرة الأولى يشير إلى أن السلطات الإماراتية كانت تراقب قناة الإمدادات الخاصة بإيران منذ بعض الوقت دون الإبلاغ عنها. ويدل توقيت تقرير واشنطن إلى أن السلطات الأمريكية كانت تفعل الشيء نفسه.
إن هذا التكتم الواضح عن كشف المعلومات هو بمثابة تذكير جيّد بأن اعتراض الشحنات وجمع المعلومات الاستخباراتية يمكن أن يخدم أهدافاً متعددة، ومتضاربة أحياناً. ويُكلَّف وكلاء الجمارك بمهمة إيجاد أمثلة للأنظمة أو القوانين التي يتم خرقها، والتدخل في الوقت المناسب، ومعاقبة المذنبين عند الضرورة. وفي المقابل، يهتم ضباط الاستخبارات بصورة أكثر بمراقبة ما يتمّ شراؤه، وبالكميات التي يتمّ شراؤها، من أجل تكوين صورة شاملة عن نشاط انتشار الأسلحة النووية في بلد ما. وعلى هذا النحو، غالباً ما يسعون إلى تجنّب الإبلاغ عن المذنبين، ويعود ذلك جزئياً إلى أن إغلاق قناة ما قد يدفع المشاركين فيها إلى إنشاء مسار بديل يستغرق اكتشافه وقتاً طويلاً.
فعلى سبيل المثال، إذا قامت السلطات الغربية بقمع شبكات المشتريات بشكل صارم، فقد تتخلى شركات الهندسة والتكنولوجيا الإيرانية عن أي أمل في إنشاء مسارات بديلة في أوروبا أو الولايات المتحدة (حيث سيكون من السهل نسبياً مراقبتها)، والتقرّب بدلاً من ذلك من الصين أو روسيا (حيث قد تقوم السلطات بغض الطرف). وبالفعل، فقد أثبتت بكين استعدادها لتزويد إيران بالمواد والمعدات النووية خلال الأيام الأولى من برنامجها، تماماً كما زوّدت تصاميم الأسلحة النووية والصواريخ القادرة على حمل رؤوس حربية إلى برنامج باكستان الناشئ.
إن الصين وروسيا معفاتان اليوم إلى حد كبير من استعمال قناة المشتريات، إذ إن مشاريعهما الرئيسية المعلن عنها مع إيران تخدم أهداف حظر الانتشار النووي، كما هو موضّح في الجزء الأول من هذا المرصد السياسي. وعلى الرغم من أنه يتعين على الولايات المتحدة دعم هذه الأهداف، إلّا أن المفارقة هي أن بكين وموسكو هما الدولتان نفسهما اللتان ساعدت مساعدتهما السرية والعلنية على إدارة الكثير من أنشطة الانتشار النووي الإيراني في الماضي.
وبالفعل، فإن تاريخ المجتمع الدولي المتمثل في منع البلدان من الحصول على تكنولوجيا نووية حساسة أمر مخيّب للآمال - وعادة ما تكون النتيجة هي التأخير بدلاً من المنع الفعلي. وصحيح أنه تمّ تعطيل واردات باكستان من أجهزة الطرد المركزي اعتباراً من عام 1978، لكن مع ذلك حققت البلاد القدرة على صنع قنبلة نووية بدءاً من منتصف ثمانينيات القرن الماضي. ولا شك في أن المسؤولين الإيرانيين يدركون هذا الواقع، وسيكون من الحكمة أن تولي واشنطن هذا الأمر اهتماماً الآن في ظل تطبيق العقوبات مجدداً. ومن الناحية العملية، يعني ذلك الإقرار بأن منع الانتشار النووي يتطلب جهداً عميقاً ومستمراً وفعالاً لجمع المعلومات الاستخباراتية - أي مسعى يتخطى الحظر الدوري للشحنات الفردية ذات الاستخدام المزدوج.
إلينا ديلوجر، هي زميلة أبحاث في "برنامج برنستاين لشؤون الخليج وسياسة الطاقة" في المعهد، ومحللة نووية سابقة في "مكتب مكافحة الإرهاب" التابع لـ "إدارة شرطة مدينة نيويورك". سايمون هندرسون هو زميل "بيكر" ومدير "برنامج برنستاين".