- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
قرية جينوار للنساء: تأسيس جيب تقدمي وسط الحرب الأهلية السورية
قريةٌ للنساء في شرق سوريا تؤيّد المعتقدات السياسية الأساسية الخاصة بالأقلية الكردية هناك.
سارت فاطمة التي كانت تشعر بقدرٍ من الهدوء لم تختبره منذ سنوات – وهي في منتصف الثلاثينيات وأمٌّ لستّ فتيات – بضع خطواتٍ نحو المباني المدرسية على طرف قرية جينوار. وقبل وصولها إلى جينوار، عملَتْ لعدة سنوات كنائبة مدير "هيئة الشؤون الاجتماعية والعمل" في كوباني، وهي مدينة كردية تقع في شمال سوريا وحُرِّرَت من تنظيم "الدولة الإسلامية" في عام 2015. أما زوجها مصطفى، فقد قاتَلَ هذا التنظيم وتُوفي في الاشتباكات، وهو أحد مئات العناصر في "وحدات حماية الشعب"، أي القوة المقاتِلة الكردية المندرجة ضمن تحالفٍ أكبر يُدعى "قوات سوريا الديمقراطية"، وقد لقي حتفه لتحرير المنطقة الكردية السورية في شمال شرق البلاد من المجموعة القتالية.
بعد وفاته بوقتٍ قصيرٍ في عام 2016، سمعَتْ فاطمة عن قريةٍ مخصصةٍ لأرامل الجنود. ومنذ بضع سنواتٍ، ومع بدء العام الحادي عشر من الحرب الأهلية السورية، أصبحت تعيش هنا في جينوار، ملاذ النساء العربيات والكرديات اللواتي ما زلن يعانين من أثر احتلال تنظيم "الدولة الإسلامية" لجزءٍ كبيرٍ من شرق سوريا. وتستقبل قرية جينوار أيضًا النساء المقاتلات من "وحدات حماية المرأة" – وهي قوة مقاتِلة كردية تتألف كلها من النساء وتندرج ضمن "قوات سوريا الديمقراطية" – والنساء اللواتي يأملن الحفاظ على استقلاليتهن و"التغلب على الذهنية الذكورية للمجتمع ومحاولة فصل الدين عن السياسة"، حسب عبارات إحدى النساء. وشدّدت فاطمة على التضامن المتبادل بين المقيمات قائلةً: "كلُّ أمٍّ لها قصة مليئة بالشدائد والألم، لكنّ القرية تجعلهنّ ينسَيْن كافة مخاوفهنّ لأننا كلنا هنا معًا".
أتت بعض النساء من القرى المجاورة حيث هربنَ من الإساءة الأُسَرية أو لم يعدن يملكن الوسائل لإعالة أولادهنّ. وبعض النساء الأخريات هنّ زوجات الشهداء الذين ماتوا وهُم يحاربون تنظيم "الدولة الإسلامية"، على غرار فاطمة. حتّى أنّ قسمًا آخر منهنّ يأتي من الشتات الدولي غير الكردي وقد التقينَ نساء كرديات في بلدانٍ كإسبانيا أو ألمانيا، مثل العربيات والأرمينيات والشركسيات.
على طول الطريق، أشارت فاطمة إلى عدة مبانٍ مدرسيةٍ كانت مهجورة وأصبحت تُستخدَم على حدود القرية، وهي مطلية باللونين الأزرق والأحمر الفاتحَين والمتدرجَين، وتقع خلفها أرضٌ زراعيةٌ بريةٌ، وعلى مسافة أبعد، بعض الجبال التي تطلّ على تركيا. وقالت فاطمة فيما بدأت تعود أدراجها باتجاه وسط القرية حيث تجمّعت نساءٌ أخريات: "جينوار هي قرية رائعة لأنها مستقلة ولأننا نحكم أنفسنا". وأضافت: "لا نعتبر أنفسنا غريبات. فنحن نساءٌ وندرك كفاح بعضنا البعض". ويتماشى هذا الوصف الذي قدّمته فاطمة مع الهدف الرسمي للقرية كما يرد على موقع هذا التجمع المحلي وهو: "توفير مكان بديل يسوده السلام للعيش المشترك بين النساء، بعيدًا عن كل أشكال العنف" وسط الحرب الأهلية في البلاد.
شرحت إحدى المقيمات في القرية، وهي شابةٌ في أواخر العشرينيات تُدعى زينب جعفري وآتية من كوباني، قائلةً: "نسعى إلى تنفيذ هذه الطريقة من العيش في كامل سوريا؛ فليس الأكراد في روج آفا وحدهم بحاجة إلى الحرية والبيئة المحمية والمساواة". وأضافت: "نريد أن تعيش كامل سوريا، بما فيها الأكراد والعرب والأشوريون وكل الآخرين، بحرية وانسجام. نحن ضدّ انقسام سوريا".
لا تُعتبَر جهود جينوار من دون أثر؛ فتتمتع منطقة شمال شرق سوريا، حيث تقع قرية جينوار، بالحكم الذاتي ضمن سوريا الأوسع. واستولت المعارضة السورية على المنطقة في عام 2012 بعد انسحاب قوات بشار الأسد، وفي حين أنّ "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" تشرف عليها رسميًّا، يطلق عليها الكثير من الأكراد اسم روج آفا. ويمكن القول إنّ الأبعاد الثورية والتحررية لروج آفا تبرز بالشكل الأفضل هنا في جينوار، حتى فيما تواجه منطقة روج آفا ككل الضغوطات لإنشاء تسوية مع نظام الأسد والإدارة الأمريكية وبينما تدافع عن حدودها في وجه تهديد القوات التركية والروسية. وحسب السردية الرسمية، ستستمر حكومة روج آفا في العمل إلى جانب النظام إلى أن يتقدّم لها حلّ أكثر استقرارًا، لكنّ الواقع هو أنّ الأمور تتفلّت وبدأت جيوبٌ من الانفصاليين الطائفيين تنشأ. وتجد هذه المنطقة نفسها تحت الضغط، بعد أن كانت يومًا رائدة في الإصلاح الديمقراطي في الدولة.
من جهة، يمكن لأي جهود لإعادة الإعمار تحدث في المنطقة الجنوبية الغربية التي يسيطر عليها النظام أن تطبّق فعلًا النموذج الكونفدرالي الديمقراطي المنفَّذ في روج آفا. فقد نجح هذا النموذج حتى الآن ليس للأكراد فحسب، بل أيضًا للأتراك وقوى النظام العاملة هناك. لكنّ ما يبقى قيد النقاش هو كيف سيواصل العرب والأكراد والأشوريون والتركمان العيش معًا في هذه الأنظمة الكونفدرالية في الشمال الشرقي، فيما يواجهون تهديد نظام الأسد الذي يستعيد نشاطاته عقب سنواتٍ من السلام المطوّل.
ترتبط نساء جينوار بشكلٍ جوهري بهذه العملية الأوسع نطاقًا من إعادة التوطين وإعادة البناء. فقد أدّت النساء دورًا حيويًّا في الدفاع عن سوريا وتحريرها، وأمامهنّ الآن فرصة غير مسبوقة للمشاركة في إنشاء أمّةٍ خاليةٍ من القواعد الذكورية السابقة. وعلى صعيدٍ أشمل، يجسّد هذا الموطن معتقد الأكراد الذين يعيشون في المدن الشمالية الشرقية من البلد، حيث عارضت بعض النساء منذ زمنٍ طويلٍ نزعة ارتداء الحجاب. كما أنه يقرّ بالصدمة التي تعاني منها النساء اللواتي يواجهن جرائم الشرف في أراضي النظام بسبب زلّات في "الإيمان". وتشكّل النساء اللواتي يبنين جينوار مجموعة تقدمية تمثّل طليعة جديدة في هذه المنطقة من سوريا.
أخبرتني جعفري ما يلي: "رأى الجميع حين أتى تنظيم ’ الدولة الإسلامية ‘أنّ ترامب لم يتدخّل أبدًا لحماية الشعب، كما غابت البلدان الأخرى أيضًا، لكننا دافعنا عن أنفسنا بأنفسنا من دون أسلحة، وبواسطة الرفوش". وتابعت قائلةً: "نحن مَن دافعنا عن هذه الأرض، ونحن مَن حررناها، وسنستمر في حمايتها من الآن فصاعدًا. وتفكّر نساء جينوار بالطريقة نفسها: فيقلن إننا لن نترك موطننا، وسنموت هنا، وسندافع عن أنفسنا، لكننا لن نغادر".
بدأت جينوار – التي يشتقّ اسمها من كلمة "النساء" الكردية – عملية البناء في عام 2016، وافتُتحَت في 25 تشرين الثاني/نوفمبر 2018، بالتزامن مع اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة. ويؤدي طريقٌ ترابيٌّ يتفرّع من الطريق العام الأساسي، ويمتدّ وراء قرية أتشان، إلى بوابة معدنية للمواشي كُتب عليها "جين" و"وار" للإشارة إلى المدخل. وفيما يُروَّج لهذا المخيّم على أنه يتألف بأكمله من النساء، يتمركز حارسان من الذكور في منزل حراسة خلف البوابة الأمامية. وهما يغادران في الليل، وتتولى النساء القيام بالدوريات في القرية.
رغم أنّ قرية جينوار ليست الأولى من نوعها، فهي تمثّل إحدى القرى القليلة التي تتألف بأكملها من النساء والتي تشكّلت كاستجابة للقواعد الذكورية، والعنف ضدّ النساء، وعدم استقرار البلدان في الحرب. ففكرة الانفصاليين الذين يتألفون جميعهم من النساء موجودة في أرجاء القارة الأمريكية وتعود إلى عام 1860، حين تواجدت أراضي "النساء". لكنّ نهج جينوار مستمَدٌّ من أوموجا، وهي قرية كينيّة تأسست عام 1990 كملجأٍ للنساء اللواتي نجون من العنف الجنسي.
تشغل نساء جينوار البالغ عددهن أربعًا وعشرين امرأةً مع أولادهنّ مباني القرية الخمسين، التي تشمل المنازل، والمباني المدرسية، وحديقة مجتمعية نامية، وساحة لعبٍ للأولاد، وموقع اجتماعات عامة، وفرن "آشنان" ومتجر "أختنا"، والمركز الصحي الطبيعي "شفى جين"، و"أكاديمية جينوار". وفي الأكاديمية، تسمع النساء المحاضرات ويعطينها حول مواضيعٍ مثل "علم المرأة" (jineology)، وهو تعليمٌ نسوي خاص بمؤسس "حزب العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان وأساليب التعافي الطبيعية.
تستمتع عدة نساء بالمشهد، فيما يتابعن بشوقٍ لعبة كرة القدم الجارية بين عددٍ من الأولاد الذين يتعالى صوت صيحاتهم وصرخاتهم المرحة. وكانت جميلة تزور ابنتها الأرملة أميرة وأولادها الخمسة، مع أنها ليست من سكّان جينوار. وكان العام الذي فصل بين وفاة زوج أميرة وعثورها على جينوار مليئًا بالاضطراب، لكنّ جميلة قالت إنّ حياة ابنتها أصبحت مستقرّة الآن، وهي تعمل في متجر القرية وفرنها. ومع ذلك، ترى جميلة أنّ حياة ابنتها كانت أفضل حين كان زوجها حيًّا، بما أنها لم تكن تواجه الأنواع نفسها من عدم الاستقرار التي تستمر في مواجهتها اليوم.
بدرة التي تجلس إلى جانب جميلة هي حارسة ليلية في القرية. وهي أمٌّ لأربع فتيات وثلاثة صبيان تتراوح أعمارهم من سنتين إلى إحدى عشرة سنة ويعيشون معها. وحين كانت تعيش في قريتها الأم الشدادية – قبل أن تترمّل بسبب القتال ضدّ تنظيم "الدولة الإسلامية" – لم يكن بإمكانها الخروج لأنه طُلب منها البقاء في الداخل كربّة منزل. وقالت: "لم يكن يساعدني أحد". أمّا الآن، فها هي تنظر إلى الساحة التي يلعب فيها أولادها تحت السماء الزرقاء الصافية.
على أحد الجدران داخل القرية، يظهر الشعار الآتي: "ستبقى الحرية غائبة إلى أن تقوم النساء بثقيف وتمكين أنفسهنّ"، وتتخلله بضع زهرات نامية برّية من دوار الشمس. ويرفرف كذلك بشكلٍ رمزيّ في أحد المنازل جرسٌ هوائيٌّ مصنوعٌ من نبتة الحرمل السورية. فقد استخدم الشيشانيون والسريان والأشوريون الحرمل السوري، وهي نبتة شعبية في المنطقة تتسبب بالهلوسة، من أجل معالجة الأمراض المتراوحة من الألم في القلب إلى سرطان الجلد. وأصبحت هذه النبتة أيضًا رمز جينوار، إذ تعني إزالة الأفكار السلبية.
خرجَت من "أكاديمية جينوار" مجموعةٌ من النساء السوريات الكرديات والأوروبيات بعد حضور صفوف فترة بعد الظهر. وكنّ يتعلّمن عن الخصائص الشاملة للنباتات والأعشاب، مثل الحرمل السوري. وقالت إحدى المقيمات في القرية، وهي طالبة جامعية من فرانكفورت، إنها تعلّمت "كم أنه من الرائع أن تستطيع النساء تنظيم حياتهن بأنفسهنّ. فالجميع معًا" ويفكر بغاية مشتركة. ونوجين ديريا القادمة من مدينة إسن الألمانية هي قرويةٌ أخرى خرجت من الأكاديمية وقد تواجدت في القرية منذ افتتاحها رسميًّا في تشرين الثاني/نوفمبر. وقالت نوجين: "حين قدمتُ إلى هنا، ظننتُ أنني سأبقى ربما لنحو بضعة أشهرٍ، لكنني حائرة حقًّا الآن بعد أن اشتدّ انخراطي في هذا المكان. ولا أريد أن أغادر".
في صفّ ذلك اليوم، كانت المقيمات في القرية يتعلّمن عن كريمات معالجة الحروق والجروح. كما بدأن بصنع خل التفاح والبلسم من زيت الزيتون والبيض وشمع النحل. وتشبّه ديريا، التي يبلغ عمرها عشرون عامًا، الدرسَ بما ترغب في أن يتعلّمه المزيد من الناس من العيش المستدام وقوة روابط المجتمع القوي لتخفيف الشدائد.
فقالت هذه الشابة: "تتعدد الأمور التي يفكّر فيها الناس [في بلدي]، لكنهم لا يجدون الحلول أبدًا". وتابعت قائلةً: "كان تنظيم ’ الدولة الإسلامية ‘يتواجد على بُعد بضعة كيلومترات. وقُتل الكثير من النساء، واغتُصب عددٌ كبيرٌ منهنّ، وأسيئت فعلًا معاملة نساءٍ كثيراتٍ. إلا أنّ النساء لم يقلْنَ سوى حسنًا، سنبني هذه القرية".