- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
رصد ردود الفعل الوطنية حول تقييم "هيومن رايتس ووتش" بالمغرب
من الواضح أن العلاقة بين منظمة هيومن ومؤسسات الدولة المغربية تعرف كثير من التوتر في الآونة الأخيرة، ويعود ذلك على الأرجح إلى طبيعة مواقف المنظمة وتقييماتها للأوضاع الحقوقية بالمغرب، والتي لا تساير بالضرورة توجهات الدولة وتقديراتها وتأويلاتها لمنظومة حقوق الإنسان.
تميزت العلاقة بين الدولة المغربية والمنظمات الحقوقية الدولية على مر السنوات بالمد والجزر، فمنذ السنوات الأولى لاستقلال المغرب؛ مارست منظمات المجتمع المدني الدولي العديد من الضغوط من أجل اعتراف الدولة بمنظومة حقوق الإنسان كاملة، وإذا كان المغرب قد استجاب نسبيا لتلك المطالب في سياقات معينة من خلال إجراء بعض التعديلات في القوانين أو إنشاء بعض الهياكل الرسمية ذات الطابع الحقوقي، فإنه كثيرا ما أبدى رفضه لرؤية ومطالبات المنظمات غير الحكومية الدولية، حتى إن العاهل الراحل الحسن الثاني قال بمناسبة إنشاء المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان سنة 1990: "هذا هو عملكم، وهذه هي مهمتكم، ومهمتكم هي أن تغسلوا للمغرب وجهه، لأنه لكل سبب تأتي منظمة العفو الدولية وتمارس علينا الرقابة وكأننا لا زلنا تحت الحماية".
في هذا السياق، تبرز منظمة هيومن رايتس ووتش كإطار حقوقي أنتج وأصدر مجموعة من الأعمال المنشورة (تقارير، مذكرات، رسائل مفتوحة...) بخصوص المغرب، تلك المواقف التي لم تحظ جميعها بتأييد الدولة المغربية، حيث كان بعضها سببا في توتر العلاقة بين الطرفين، وكنموذج على ذلك التقرير السنوي الأخير للمنظمة الصادر يوم 24 يناير 2024، والذي سيكون موضوعا لهذا المقال، حيث سيتم فيما يلي رصد وتحليل المواقف والردود الوطنية الصادرة بخصوصه.
من الواضح أن العلاقة بين منظمة هيومن ومؤسسات الدولة المغربية تعرف كثير من التوتر في الآونة الأخيرة، ويعود ذلك على الأرجح إلى طبيعة مواقف المنظمة وتقييماتها للأوضاع الحقوقية بالمغرب، والتي لا تساير بالضرورة توجهات الدولة وتقديراتها وتأويلاتها لمنظومة حقوق الإنسان. جرت العادة أن تصنف مؤسسات الدولة -كما يتبدى من الرد الأخير للمندوبية الوزارية لحقوق الإنسان- منظمة هيومن ضمن التوجه الحقوقي الراديكالي المدعوم من فعاليات حقوقية محلية والادعاء بأن المنظمة " تمعن في حملاتها العدائية ضد بلدنا وتعتمد مقاربة لتقييم وضعية حقوق الإنسان في المغرب تتجاوز عمدا القواعد والمعايير المنهجية الرئيسية المتعارف عليها في عمل المنظمات غير الحكومية، ألا وهي الحياد والموضوعية والمهنية". من جهتها، تعتقد منظمة هيومن أن الوضع الحقوقي بالمغرب في حاجة إلى كثير من الإصلاحات الجوهرية، مثل ضمان وحماية حرية التعبير للمعارضين والمدافعين عن حقوق الإنسان والاعتراف القانوني بالحريات الفردية وحقوق المهاجرين واللاجئين.
وكما هو حال المرات السابقة، فقد كان تخصيص هيومن في تقريرها السنوي لشق خاص بتقييم ونقد الوضع الحقوقي بالمغرب سببا في صدور عدة ردود فعل داخلية "غاضبة"، وهي تتوزع عموما بين مواقف رسمية تمثلت في "بلاغ استنكاري" للمندوبية الوزارية المكلفة بحقوق الإنسان عبرت فيه عن "رفضها التام للادعاءات الواردة في تقرير المنظمة لسنة 2023 بخصوص المغرب..."، وبين مواقف غير رسمية متجسدة في بعض الفعاليات الأكاديمية والمدنية والإعلامية "المساندة" لمسارات وخيارات الدولة السياسية والحقوقية.
غير أن ما يمكن ملاحظته في سياق التقرير الأخير لهيومن أن حجم التفاعل بخصوصه لم يكن حادا، بالمقارنة مع تقرير صيف عام 2022 بعنوان " (سينالون منك مهما كان) دليل أدوات قمع المعارضة في المغرب"، والذي عرف جدالا دام أسابيع عديدة ، حتى أن مؤسسات عديدة مثل رئاسة الحكومة المغربية والناطق الرسمي باسمها والمندوبية الوزارية لحقوق الإنسان ونقابات صحفية وتنظيمات مدنية مثل الجمعية المغربية لحقوق الضحايا ، كلها انخرطت في سياق الرد على التقرير.
ربما كان من دواعي النقاش المثار حول التقرير الأخير لمنظمة هيومن هو تزامنه مع سياق انتخاب المغرب لرئاسة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في مطلع سنة 2024، وإذا كان هذا الحدث عاديا من منظور بعض الفعاليات الحقوقية التي لا ترى فيه مؤشرا على تقدم الوضع الحقوقي بالبلاد استنادا إلى التجارب الرئاسية السابقة للمجلس، فإن بعض المواقف الرسمية وغير الرسمية الرافضة للتقرير استحضرت بقوة هذا الحدث كونه مؤشرا يبرز مقومات المغرب في مجال حقوق الإنسان ، واعتبرت تجاهل المنظمة له دليلا على "استهداف" الدولة ومؤسساتها.
يضاف لما سبق ارتباط صدور التقرير بحدث آخر هو احتفال المغرب بـ "عشرينية تأسيس هيئة الإنصاف والمصالحة"، ومن الجدير بالذكر أن تأسيس الهيئة المذكورة تم سنة 2004 بعد مسار سياسي عسير، وقد كان الهدف من خلقها آنذاك هو تسوية ملف "الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان" في فترة ما سمي في أدبيات الحركة الحقوقية المغربية بـ "سنوات الجمر والرصاص"، وإذا كانت الدولة تعتبر ما تحقق خلال العقدين الأخيرين تقدما في مسار "التحول" الديمقراطي والحقوقي، فإن بعض الفعاليات الحقوقية المحلية والدولية ترى أن ما حصل خلال الفترة الزمنية المذكورة هو تعبير عن "الردة" أو “الانتكاسة الحقوقية".
هذين الموضوعين –أي مسار هيئة الإنصاف والمصالحة وانتخاب المغرب على رأس مجلس حقوق الإنسان- ترددا بقوة في النقاش الدائر حول تقييم هيومن رايتس ووتش، لا سيما من حيث موضوعية ذلك التقييم واستناده على معطيات واقعية وميدانية وفق ما ورد في رد المندوبية الوزارية المشار إليه سلفا.
أثار التقرير السنوي -من منظور منتقديه- الكثير من الجدل في ثلاث قضايا أساسية على الأقل، يمكن عرضها تباعا كما يلي:
1-استنساخ الموضوعات من تقارير سابقة: يعيب بلاغ المندوبية الوزارية ومؤيدوه على تقرير هيومن كونه "اجتر" معطياته من تقارير سنوية سابقة، مما جعلهم يستنتجون أن التقرير فاقد للموضوعية والمصداقية. وبالرجوع إلى تقرير هيومن يتبين أن الموضوعات المقصودة هنا هي: الأحكام القضائية المنفذة في حق نشطاء الريف والصحراء والصحفيين والمدافعين عن حقوق الإنسان، القيود القانونية على الحريات الجنسية، تقييد الحريات الجمعوية، الهجرة واللجوء.
قد يكون من أسباب التكرار الوارد في التقرير السنوي لمنظمة هيومن (وتقارير سنوية سابقة) هو افتقاده لمعطيات جديدة حول تلك الموضوعات أو لكون الأخيرة لم تلق حلا "عادلا" و"نهائيا"، مما يبرر استحضارها باستمرار من أجل لفت انتباه الفاعلين الحقوقيين المحليين والدوليين حولها، أو أن هؤلاء الفاعلين أنفسهم يقدمون الموضوعات المذكورة باعتبارها ذات أهمية وأولوية في أجندة الإصلاح الحقوقي.
وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن منهجية "استنساخ" القضايا الحقوقية معمول بها في تقارير مجموعة من المنظمات الحقوقية مثل "العفو الدولية"، بل وحتى تقارير وزارة الخارجية الأمريكية حول حقوق الإنسان بالعالم لم تسلم من هذه المنهجية في الشق المتعلق بالمغرب.
2-حرية التعبير: يخصص تقرير هيومن محورا لموضوع حريات التعبير، ويورد بعض حالات سجن الصحفيين والمعارضين والناشطين الحقوقيين، معتبرا ذلك يدخل في سياق "التكتيكات الملتوية" والوسائل "القمعية" التي تستخدمها السلطات المغربية في حق معارضيها ومنتقديها، وهي التكتيكات التي تبدأ من المحاكمات والملاحقات الجنائية الجائرة، ثم المراقبة الرقمية والاستخباراتية واستهداف الأقارب ، وتصل إلى مضايقتهم في الإعلام "الموالي" للدولة وفق تقرير المنظمة.
طبعا لم يستسغ بلاغ المندوبية توظيف التقرير لعبارات من قبيل: التكتيكات الملتوية، البيئة القمعية، الانتقام من المعارضين، استغلال النصوص القانونية لملاحقة المواطنين وسجنهم، معتبرا إياه يفتقد للغة والمنهجية الحقوقية.
3-قضية الصحراء: اعتادت تقارير هيومن –أسوة بتقارير منظمات دولية أخرى- أن تتعاطى مع موضوع حقوق الإنسان في الصحراء بعيدا عن "رواية الدولة"، وإذا كانت الأخيرة حدد معالمها العاهل المغربي في إحدى خطاباته بكون الصحراء هي "منظار" المغرب إلى العالم، وبالتالي المحدد الأساسي لمواقفه وسياساته وشراكاته وعلاقاته الخارجية، فإن تقرير هيومن سينطلق من اعتبار منطقة الصحراء "متنازع عليها" وواقعة تحت "سيطرة" المغرب. وسينتقد في الوقت ذاته السياسات الرسمية في الأقاليم الصحراوية. ستكون هذه المعطيات سببا في تناسل مجموعة من الانتقادات اللاذعة للتقرير، حيث ركزت خصوصا على قضية "التغاضي" عن الخوض في ما يعتبره منتقدو التقرير "تجاوزات جبهة البوليساريو" لحقوق الإنسان والقوانين الدولية.
ختاما، إن فهم التوتر الحالي بين الدولة المغربية ومنظمة هيومن رايتس ووتش، يتطلب فهم التاريخ المعقد بين الجانبين، إذ انطلاقا من التجارب السابقة؛ فإنه كثيرا ما تتبع العلاقة بين الدولة والمنظمات الحقوقية بشكل عام منطق الأخذ والرد، وقد اشتدت حدة الصراع في الآونة الأخيرة بخصوص قضايا حقوقية محددة مثل حريات التعبير، والتي لا يبدو أنها ستجد تسوية مستقبلا إلا بإحداث مساحات للنقاش والحوار الفعال بين الطرفين، وذلك كما حدث "نسبيا" في قضايا أخرى مثل الأحوال الشخصية وحقوق النساء والأمازيغية.