- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
رواية الإعلام الغربي المضللة عن قناة "الجزيرة"
في 5 حزيران/يونيو 2017، اندلعت أزمة خطيرة أخرى في الشرق الأوسط: قررت الرباعية العربية المؤلفة من السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولة قطر المجاورة. وأتى ردّ وسائل الإعلام الأمريكية والغربية إزاء هذه المسألة محيّرًا إن لم نقل مضللًا: حيث أشارت خطأً إلى المقاطعة بأنها "حصار"، ويبدو أن محطات الأخبار الأمريكية والغربية تتبنى موقف قطر الذي يعتبر أن طلب الدول العربية الأربع بإغلاق قناة "الجزيرة" المملوكة للدولة القطرية يشكّل مسعىً لقمع حرية التعبير. وإن تقديم الصراع بهذا الشكل ينذر بالخطر ليس لأن اتهامات قطر وحديثها عن انتهاكات هو نفاق فحسب، بل أيضًا لأن التغطية بحدّ ذاتها تدعم استراتيجية "فرّق تسد" التي تنتهجها الدوحة وتعجز عن تحديد بعض أهم العوامل الكامنة وراء الأزمة، على غرار الحملة الدعائية برعاية قطر.
وإن الادعاء، كما تفعل الدوحة على ما يبدو، بأن الصراع بشأن "الجزيرة" يتمحور حول الحق في حرية التعبير، ليس خاطئًا فحسب، بل مثير للسخرية إلى حدّ كبير أيضًا. فغير أنها بعيدة كل البعد عن حرية التعبير، تُعتبر "الجزيرة" - الناطقة باسم العائلة الملكية القطرية - متعهدة الإسلام المتطرف والجهادي والسلفي. فمن بين أمور أخرى، بثّت القناة مقابلةً مع قائد "جبهة النصرة"، وهي أحد فروع تنظيم "القاعدة". فضلًا عن ذلك، وفي مرحلة ما، أعلن أحد الضيوف في البرنامج الحواري الذي يتمتع بنسبة مشاهدة عالية "الاتجاه المعاكس"، وهو نسخة عن البرنامج الأمريكي "كروس فاير" (Crossfire)، ولاءه لقائد "الدولة الإسلامية" أبو بكر البغدادي. ولم يكن من المفاجئ أنه خلال أحداث "الربيع العربي"، لم تقف "الجزيرة" في صف الثوار بل انحازت إلى الإسلاميين.
وبشكل عام، ليست قطر في موقع يخوّلها إعطاء محاضرة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. فمنذ فترة ليست ببعيدة، حكمت السلطات القطرية على شاعر قطري بالسجن لمدة 15 عامًا لإلقائه قصيدة تنتقد أمير قطر السابق حمد آل ثاني. وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن هذا الأمير السابق، وهو والد حاكم قطر الحالي تميم، تولى السلطة فعليًا بعدما أطاح بوالده في انقلاب من داخل القصر. وصدق القول "الابن سرّ أبيه"، فقد حذا حمد حذو والده خليفة الذي بدوره انتزع العرش من ابن عمه أحمد.
لهذه الأسباب، من غير الصائب التحدث عن "الجزيرة"، وهي جوهرة إمبراطورية الإعلام القطري، باعتبارها صوت الذين لا صوت لهم ومنصة ًلترويج الديمقراطية وسيادة القانون والتنوّع والتسامح. ففي الواقع، تستخدم الدوحة قناة "الجزيرة" لتشريع السياسة المتعرجة في خضم الأزمة الحالية. لكن هذا التكتيك ليس بجديد البتة. فخلال الحرب التي قادتها الولايات المتحدة على العراق، على سبيل المثال، كانت القناة تمثّل الناقد الأكثر شراسةً للولايات المتحدة ومساعي الحرب، غير أنها لم تأتِ مطلقًا على ذكر أن الطائرات الحربية الأمريكية كانت تشنّ غاراتها في العراق انطلاقًا من قاعدة عسكرية مقرها في قطر. علاوةً على ذلك، وفي حين اعتمدت نبرةً حزينة عند الحديث عن إصابات وضحايا الحرب، قدّمت "الجزيرة" أيضًا للرئيس العراقي السابق صدام حسين منصةً إعلامية متعاطفة، حيث أحجمت عن ذكر السجل الإرهابي الكبير للدكتاتور الراحل. ويمكن أن نعذر المشاهدين إذا عجزوا عن تحديد الجانب الذي وقفت في صفه "الجزيرة".
إذًا قطر هي ببساطة دولة مستبدة غنية بالنفط وتتطلع - رغم صغر مساحتها - إلى ترسيخ مكانة لها في الساحة الإقليمية والدولية. ومن أجل تحقيق هذه الغاية، لا ترحب بوجود قواعد عسكرية أجنبية على أراضيها فحسب، بل تتصرف أيضًا بطريقة مخادعة تجاه الدول المجاورة. وبالفعل، اعتادت قطر على طعن نظيراتها العربية في الظهر، داعمةً الجماعات المتمردة التي تحاول الإطاحة بحكومات بلادها ومستخدمةً البترودولارات للتدخل في شؤون تلك الدول. وعليه، لا يحق لقطر الادعاء بأن هذا الحظر هو اعتداء على سيادتها. فعند الحديث عن السيادة، لا بدّ من الإشارة إلى أن قطر تموّل وتسلّح وتدعم وتحتضن الميليشيات والمنظمات الإسلامية في ليبيا وتونس واليمن وسوريا والعراق، والأهم في مصر.
ومع ذلك، ورغم أن الدعم الشائع والموثّق الذي تقدمه قطر إلى التطرف بكافة أشكاله وصوره ساهم في اندلاع الأزمة الحالية، لعبت عوامل أخرى، تغاضت عنها وسائل الإعلام الغربية، دورًا مهمًا في المسألة. فمنذ فترة طويلة، كانت قطر تزرع بذور الانشقاق والخلاف والانقسام في أوساط الدول الأعضاء في "مجلس التعاون الخليجي" الذي يضمّ الإمارات العربية المتحدة والسعودية والبحرين والكويت. وقد تطوعت الدولة العضو الوحيدة في المجلس غير المشاركة في النزاع، ألا وهي الكويت، للاضطلاع بدور الوسيط بين الرباعية العربية وقطر. لكن وللمفارقة، واستنادًا إلى أحد أبرز المسؤولين الإعلاميين الكويتيين، كانت الكويت فعليًا ضحية الحرب الإعلامية التي شنتها قطر بقيادة قناة "الجزيرة" لأكثر من اثنتي عشرة سنة. وبالطبع، إن الكويت ليست الدولة الوحيدة على الإطلاق التي تستهدفها قطر. فمصر هي الدولة الأخرى التي غالبًا ما تكون موضع انتقاد قناة "الجزيرة". واستنادًا إلى تقارير (مشكوك فيها) صادرة عن القناة، إن نظام الرئيس السيسي هو دائمًا على شفير الانهيار والمجتمع المصري مشؤوم (في هذا السياق، لا بدّ من ذكر أن قطر هي أحد حلفاء جماعة "الإخوان المسلمين"، وهي منظمة تتهمها السلطات المصرية بالتواطؤ في حرب إرهابية كبرى خبيثة ضدّ الجيش والشرطة والشعب في مصر).
وعليه، يبدو أن قطر اعتمدت استراتيجية السياسة الخارجية الإيرانية القائمة على فكرة أنه من الأسهل أن تحافظ على قوتك عندما تكون الدول المجاورة ضعيفة ومنقسمة. ولسوء الحظ، حين يتعلق الأمر بقطر، تميل الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية إلى الاكتفاء بالحديث وعدم دعم أقوالها بأفعال. وفي حين يحض الغرب الدوحة على التوقف عن دعم الإرهاب وتمويله، فإن قطر قادرة مع ذلك تفادي الوقوع في المشاكل من خلال الاستثمار في الأسواق الغربية والموافقة على استقبال قواعد عسكرية أجنبية. لكن في الوقت الذي تواصل فيه قطر ضخ الأموال في مراكز الفكر ومنظمات الضغط الأمريكية، تسير "الجزيرة" قدمًا بأجندتها الانقسامية.