- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
روسيا تبحث عن شراكات استراتيجية مع دول شمال إفريقيا: التوازن بين الجزائر والمغرب
دار في الآونة الأخيرة الكثير من الجدل حول طبيعة الدور الروسي في منطقة شمال إفريقيا وخاصة بعد نجاح الاستراتيجية الروسية في إدارة الصراع في سوريا. هذا النجاح العسكري والدبلوماسي النسبي، فتح المجال للروس مجددا للتفكير في إعادة لعبة التوازنات الاستراتيجية والاهتمام مجددا بمنطقة شمال إفريقيا لبسط نفوذ موسكو على القارة الأفريقية ومنافسة الاتحاد الأوربي والولايات المتحدة الأمريكية والصين في اكتساب شراكات جديدة في القارة. ومع ذلك، تعمل روسيا على إعادة إحياء نزعتها القديمة التي تتمثل في استغلال الفراغات والتراجعات الغربية عن دعم دول شمال إفريقيا بشكل خاص.
وعلى الرغم من محاولة روسيا ممارسة نفوذها في شمال إفريقيا لعدة عقود من الزمن، إلا أن قوتها الناعمة تراجعت بشكل ملحوظ هناك وفى أماكن أخرى أيضا. فمع انتهاء الحرب الباردة فقدت روسيا قدرتها على توفير الدعم الاقتصادي للقوى الإقليمية. لكن في العقد الأخير، ومع صعود فلاديمير بوتين إلى مسرح الأحداث، بدأنا نشهد عودة الدفء تدريجيا للعلاقات الروسية -الإفريقية.
وتأتي مصر في مقدمة الدول التي تهتم بها روسيا في منطقة شمال إفريقيا، ويعزى ذلك إلى العلاقات الثنائية القوية بين البلدين خلال الحقبة الناصرية، إضافة إلى دور مصر التاريخي في قلب العالم العربي. ومؤخرًا، عملت روسيا على دعم علاقتها مع القاهرة من خلال إبرام عقود وصفقات أسلحة مع القاهرة وإنشاء مفاعلات نووية ودعم العلاقات الثنائية على الصعد العسكرية والاقتصادية والثقافية وغيرها. كما تتشارك كلا من موسكو والقاهرة الرأي حول عدد من القضايا الإقليمية، أهمها المسألة السورية. وتعتبر موسكو القاهرة البوابة الحقيقية لتمدد النفوذ الروسي نحو إفريقيا جنوب الصحراء وخاصة نحو السودان، من خلال الرغبة الروسية في الحصول على صفقات التنقيب عن المواد الخام والثروات الطبيعية.
ومع ذلك، يجب ألا يحجب إبراز اهتمام روسيا بمصر جهود الأولى وسعيها لتقوية علاقاتها مع دول شمال أفريقيا الأخرى، فالتبادلات الدبلوماسية العديدة بين روسيا والمنطقة - بما في ذلك زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الأخيرة إلى تونس والجزائر والمغرب في أواخر كانون الثاني /يناير 2019 – هي بمثابة مؤشر واضح على اهتمام روسيا بالتقارب مع هذه الدول. كما يؤكد ذلك استمرار النهج الروسي الذي يؤمن بملأ الفراغات الاستراتيجية ويحاول استغلال التردد الأمريكي في ما يتعلق بدورها في المنطقة.
تتمسك الاستراتيجية الروسية بالكثير من الواقعية والبرغماتية في التقارب مع دول الشمال الأفريقي دون المساس بالقضايا المصيرية التي تشكل قطب الرحى لسياسات هذه الدول مع أخد المساحة الكافية منها واتباع سياسة الحياد الإيجابي وخاصة بالنسبة لقضية الصحراء التي تشكل نقطة خلاف صدامية بين المغرب والجزائر كانت وما زالت السبب الرئيسي في توتر العلاقات بين البلدين الجارين لفترة امتدت لأكثر من أربعين عاماً. ومع ذلك، ساهمت المفاوضات المباشرة التي عُقدت بين المغرب وجبهة البوليساريو في كانون الأول/ديسمبر 2018 في جنيف - وهي الأولى من نوعها خلال ست سنوات – إضافة إلى المحادثات القادمة التي ستتم خلال عام 2019، في تسليط الضوء على القضية. كما تبدو روسيا متحمسة لاستغلال تلك التطورات لتقوية علاقاتها مع كلاُ من المغرب والجزائر.
تواصل موسكو تعزيز حلقات التعاون الثنائي مع الجزائر والذي بدأته منذ الخمسينات من القرن الماضي، وتستمر في تزويد النظام الجزائري بصفقات من الأسلحة الروسية المتطورة مع دعم النظام السياسي في البلاد. وعلى الرغم من أن الشراكة الاقتصادية بين موسكو والجزائر مازالت غير ناجعة ودون المستوى المطلوب مقارنة مع شريك اقتصادي للجزائر كفرنسا، إلا أن لافروف قد شدد أثناء زيارته للجزائر لحضور الاجتماع التاسع للجنه الروسية - الجزائرية المشتركة الاقتصادية، على اهتمامه بتعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
تاريخيا، كان الموقف الروسي دائما ما يتقاطع مع نظيره الجزائري بخصوص قضية الصحراء، فإلى جانب علاقة موسكو الراسخة مع الجزائر، هناك أيضا علاقات دافئة بين موسكو و "جبهة البوليساريو" الانفصالية التي رحب قيادييها بروسيا للعب دور الوساطة بين فرقاء النزاع ومسك ورقة ضغط إضافية توظفها إزاء المغرب في التوقيت المناسب.
ومع ذلك، أدرك المغرب مؤخراً أهمية الدور الذي يمكن أن تلعبه روسيا في الوساطة في هذه القضية على المستوى الإقليمي الأوسع، حيث حاولت الحكومة المغربية الاستفادة من لعبة تناقض المصالح بين واشنطن وموسكو، لإحراز المزيد من الدعم الروسي لقضاياه الوطنية بما في ذلك مطالبتها بالسيادة في الصحراء الغربية.
كما ترى الرباط أنه من المناسب استشعار الموقف الروسي من المفاوضات المباشرة القادمة التي سيرعاها الأمين العام للأمم المتحدة، وإقناع الطرف الروسي بالموقف المغربي، في حين تحرص موسكو على الوقوف على الحياد ودعم المسلسل الأممي واستصدار قرارات متوازنة في صالح كل الأطراف، متماشية مع التصور والقناعات الروسية التي تعتبر أن الجزائر والمغرب شريكين استراتيجيين رئيسيين، حيث وقعت معهما موسكو على التوالي اتفاقيتين للشراكة الاستراتيجية سنتي 2001 و2002.
يعكس التقارب الروسي مع المغرب تحولاً واسعا في الديناميات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، خاصة مع المواقف المتذبذبة لإدارة دونالد ترامب إزاء المغرب وقضاياها خاصة قضية الصحراء التي جعلت الرباط تأخذ حذرها بشكل غير معهود من السياسة الأمريكية. كما أدى فشل واشنطن في تعيين سفير أمريكي جديد في الرباط، وتعيين جون بولتون، وهو أحد "الصقور" الذي يرى المغرب أن سياسته لا تتوافق مع رؤيتها في ما يتعلق ببعض القضايا الإقليمية، أدى إلى المزيد من التوتر في العلاقات بين البلدين.
ونتيجة لذلك، لم يعد المغرب مقتنعا بعدم رغبة الولايات المتحدة في التعامل بحيادية مع قضية الصحراء، ما يدفع الدبلوماسية المغربية للعب بورقة الشريك الروسي الذي يملك بدوره بعضا من مفاتيح ومخرجات الصراع المفتعل حول الصحراء. وبالمقابل، يحاول الطرف الروسي الدفع بعجلة العلاقات الاقتصادية بين البلدين، بداية من صفقات السلاح الروسية، فضلا عن تنويع الصادرات والواردات من وإلى الأسواق الروسية.
لا شك أن لدى موسكو العديد من الدوافع والمحركات الداعمة التي تحركها صوب شمال إفريقيا، والتي تمثل جزء من استراتيجيتها الكبرى للمنافسة على مناطق نفوذ وأسواق اقتصادية جديدة. فالإدارة الروسية تتخوف من التهميش والإقصاء من قبل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وذلك جراء سياساتها في منطقة البلقان وقضية أوكرانيا واحتلالها جزيرة القرم، وأيضا دورها الحاسم في الأزمة السورية، وهذا ما يدفع موسكو للبحث عن شركاء وتحالفات جديدة مع الدول الإفريقية، على الأقل لكسب أصواتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة وتمديد سياسة التقارب الناجحة مع العالم العربي. ويبدو أن هذا الجدل البراغماتي يعززه أيضا حنين روسيا إلى دورها المفقود في منطقة شمال إفريقيا والاعتراف بالسياسات الفعالة للقوى الأخرى.
ومن الجدير بالذكر هنا أن روسيا لا تستطيع التنافس مع الصين في مجال توفير السلع والمنتجات لدول شمال إفريقيا، لكنها بالمقابل تستطيع تزويدها بالأسلحة مقابل الحصول على صفقات وعقود التنقيب عن النفط والمعادن وبناء المفاعلات النووية المدنية في المغرب والجزائر وقبل ذلك في مصر. وترغب موسكو أيضا في مأسسة استراتيجية اقتصادية تمكنها من فتح أسواق جديدة لبيع المنتجات الروسية خاصة الأسلحة وتوفير الاستثمارات للقطاع الخاص الروسي.
كما أن الرسائل التي تحاول روسيا تعميمها عسكريا ودبلوماسيا، تتجاوز مجرد التعبير عن العودة كقوة مؤثرة لمنطقة شمال إفريقيا، لتصل إلى الكشف عن نوايا موسكو الصريحة لمنافسة الاتحاد الأوربي من خلال إطلاق الوعود باستثمارات مغرية، إنجاز مشاريع الطاقة، وإبرام عقود وصفقات الأسلحة التي ارتفعت في الفترة الأخيرة، وبناء المفاعلات النووية وتنويع الصادرات والواردات نحو هذه الدول وإنشاء قواعد عسكرية روسية تراقب منطقة جنوب المتوسط.
وبالرغم من تسارع وتيرة الدور الروسي في شمال إفريقيا وفي القارة الإفريقية عموما، ليس من الراجح التسليم أن روسيا استرجعت دور القوة الكبرى في القارة السمراء، بل ربما يقتصر دورها حاليا على منافسة الدول الغربية لإيجاد موقع جيوسياسي فاعل، كما أن السياسة الخارجية الروسية مازالت تضع على الهامش منطقة شمال إفريقيا مقارنة مع الحرص على نفوذها في دول أوربا الشرقية سابقا واَسيا الوسطى.
ومع ذلك، تواجه روسيا بعض العراقيل التي تحول دون تحقيق طموحاتها الاستراتيجية في شمال إفريقيا، فعلى الرغم من الجهود التي تبذلها روسيا للتأثير على صنع السياسة الخارجية على نطاق عالمي، إلا أن الغرب ما زال يعتبرها مجرد لاعب إقليمي ولا يصل إلى مستوى القوة الكبرى. وبما أن سياستها الحالية في شمال إفريقيا تعتمد على استغلال حالة عدم اليقين التي تشوب التحالفات القائمة بين دول شمال إفريقيا والقوى الغربية في أعقاب الربيع العربي، فإن إعادة تركيز الولايات المتحدة على شمال إفريقيا يمكن أن يؤدى إلى عرقلة الجهود الروسية في هذا الصدد. وبالتالي، لا يزال من السابق لأوانه التنبؤ بتداعيات الوجود الروسي المتزايد في شمال أفريقيا، ومن المرجح أن يتطور الوضع في عام 2019.