- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
سلسلة توترات: اعتبارات تُقارن علاقة إسرائيل مع الأردن وتركيا
تتشابك المصالح الإستراتيجية للمملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل بدرجة كبيرة ومتعددة الأبعاد. فقد كان البلدان بشكل لا يحسدان عليه بمثابة أهداف أولية للعرب والإسلاميين وغيرهم من المتطرفين منذ قيامهما في 1946 و1948. لكن التحديات المشتركة بينهما لم تحُل دون التضارب الفعلي والمتكرر للمصالح الذي غالبًا ما كان ينتهي بصراع مسلّح. وفي حالتهما على الأقل، لم يُطبّق دومًا القول المأثور "عدو عدوي هو صديقي".
غير أنه في نهاية المطاف، فاز التقاء مصالح البلدين على القوات الطاردة التي تمزّق الدولتين المجاورتين. وقد أسفر إبرام معاهدة السلام في 1994 توطيدًا واضحًا، ولو متقطعًا، للعلاقات على كافة الأصعدة بين المملكة الأردنية الهاشمية وإسرائيل. ففي المجال الاقتصادي، شملت التطورات الأبرز اتفاقات لتصدير الغاز الطبيعي الإسرائيلي الأرخص ثمًنا إلى الأردن، وترتيبات لتصدير المنتجات الزراعية الأردنية عبر إسرائيل إلى أوروبا وروسيا، والاستحداث المشترك لمنطقة تجارة حرة على أرض حدودية كانت في ما مضى حقل ألغام، وبناء معبر حدودي جديد قرب البحر الميت لتسهيل حركة السياحة والعمال بعد سابقة العقبة-إيلات، إضافةً إلى قناة البحر الأحمر الطموحة التي تطلبت دراسة مشتركة مكثّفة حول الأثر البيئي وإدارة الموارد وكذلك التكامل المؤسسي بين البلدين.
ويكتسي التنسيق الأمني أهمية مماثلة، الذي رغم كونه خفيًا عمومًا، يبقى من بين الأقوى في المنطقة. وقد أصبح هذا التنسيق يكتسي طابعًا مؤسسيًا في كلا البلدين ويغطي التهديدات الخارجية والداخلية على السواء، القصيرة الأمد منها والإستراتيجية. ويشمل هذا التنسيق مكافحة الإرهاب، وأمن الحدود، واحتواء حماس، والتعاون على طول الحدود السورية المشتركة، وأكثر من ذلك.
مع ذلك، تواصل مسائل شائكة، لا سيما الأزمة الإسرائيلية-الفلسطينية، توتير العلاقة بشكل خطير. وواقع أن هذه المشكلة تُعتبر أيضًا عامل التوتر الأساسي الذي يهيمن على العلاقات التركية-الإسرائيلية يدعو إلى المقارنة بين العلاقات الأردنية والتركية إزاء إسرائيل.
أصدقاء وأعداء
على الرغم من الفروق المتعلقة بالمساحة والهوية والموقع الجيوسياسي بين الأردن وتركيا، هناك الكثير من الخصائص التي يمكن التعويل عليها من أجل تقييم علاقتهما مع إسرائيل. فلطالما كانت هاتان الدولتان ذات الأغلبية السنّية المسلمة من أعضاء التجمعات الإقليمية الموالية للغرب والتي تشمل إسرائيل، هذا وتجمعهما حدود مشتركة مع سوريا ومصلحة كبيرة في نتيجة الحرب هناك. فالوجود الإيراني (أي الشيعي) في سوريا، بشكله المباشر وعبر وكلاء، يُقلق أنقرة وعمّان على السواء اللتين تريان في إسرائيل كابحًا طبيعيًا لطموحات إيران في المنطقة.
من الواضح أنه في هذه المرحلة وفي المستقبل المنظور، سترسم الخصومة الإقليمية الإسرائيلية-الإيرانية بشكل كبير معالم الديناميكية الأساسية لسياسة الشرق الأوسط. وعلى الدول الأخرى في المنطقة، بغض النظر عن حجمها، أن تحدّد بدقة موقعها بين هاتين القوتين العسكريتين. كما يتضح لهذه الدول أنه لأسباب إيديولوجية وديمغرافية وجيوستراتيجية، إن إيران هي الأخطر بين الاثنين. وبالتالي، تُعتبر إقامة علاقات في مجال الدفاع والأمن مع إسرائيل ضرورة يمكن تفهمها بالنسبة لدول كالأردن وتركيا. وقد أُبقيت مثل هذه العلاقات سرية عمومًا بسبب حساسيات شعبية إسلامية، رغم أنها جوهرية وأساسية للسبب نفسه.
وتؤجج التطورات التي تشهدها العلاقات الإسرائيلية-الفلسطينية بين الحين والآخر هذه الحساسيات الشعبية المذكورة أعلاه. هذا وشكّلت إدارة العلاقات الجوهرية مع إسرائيل وعدم إظهارها للعلن في الوقت نفسه طريقة عمل كل من الأردن وتركيا خلال العقدين الماضيين من الزمن. غير أن تركيا أظهرت أنه بإمكانها تطبيق توازن أفضل.
وفى هذا الصدد، يمكن القول أن المواقف السياسية المتباينة بين تركيا وإسرائيل تسبق عهد أردوغان. فاعتبارًا من 1975، صوّتت تركيا لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المثير للجدل الذي يعتبر أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية. ودعمت موقف العرب في كل قرار صدر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تقريبًا بشأن الصراع العربي-الإسرائيلي ورعت كذلك القرار الذي منح "السلطة الفلسطينية" العضوية الكاملة في منظمة "اليونسكو". لكن يبدو أن هذا الموقف الدبلوماسي الثابت المعادي لإسرائيل قد اعتُمد بالتزامن مع تصميم واعٍ بعدم التعرّض للجوانب الجوهرية من العلاقة بين البلدين.
النموذج التركي
تتطلب المصالح الطويلة الأمد بين الأردن وإسرائيل أن تطوّر المملكة الهاشمية نموذجًا يرعى علاقتها مع إسرائيل، بما يسمح لها بتخطي خلافاتهما السياسية (أو أقلّه إبقائها سياسية) من دون التأثير على التعاون في المجالات التجارية والمدنية، أو إبطاء وتيرة التقدّم في مشاريع المياه والطاقة المشتركة. ومن شأن نموذج مماثل أن يتمتع بآلية لإدارة النزاع تمكّن الأردن من فصل الأزمة السياسية الحتمية والعابرة عن العناصر الاقتصادية والإستراتيجية في العلاقة.
لكن ليست هذه هي الحال اليوم: فقد أدّت الأزمات السياسية الأخيرة الناتجة عن حوادث أمنية شملت أردنيين إلى استدعاء السفراء وتعليق إصدار التأشيرات ووقف الحركة التجارية إضافة إلى وقف التنسيق الأمني بين المملكة وإسرائيل. وقد يترتب على مثل هذا الانقطاع ضرر كبير وخطير على اقتصاد الأردن ترافقه تداعيات اجتماعية وسياسية ملموسة. في حين سيكون الضرر اللاحق بالاقتصاد الإسرائيلي أقل ويمكن تحمّله إلى حدّ كبير.
في المقابل، وفي أوج المشاحنة الإسرائيلية-التركية بشأن "مافي مرمرة"، لم تنحسر حركة التجارة والسياحة بين البلدين بشكل كبير. فبين 2010 و2014، وهي فترة شهدت اتهامات علنية وقاسية واتهامات مضادة بين أنقرة والقدس، تخطت العائدات التجارية بينهما 5 مليارات دولار على الرغم من تقليص التمثيل الدبلوماسي المتبادل إلى حدّه الأدنى. واليوم، وبعد ترميم العلاقات الدبلوماسية بالكامل، يحرص البلدان على بناء علاقات تعود بالفائدة المتبادلة عليهما: حيث تأمل إسرائيل الاستفادة من صادرات الغاز الطبيعي إلى تركيا كمنفذ إلى السوق الأوروبي وترى تركيا من جهتها فائدة إستراتيجية في تنويع مصادرها من الطاقة.
ما يمكن أن يتعلمه الأردن ويدرسه حول العلاقات مع إسرائيل
ويمثّل هذا التوتر القائم بين الموقف العلني للحكومة التركية إزاء إسرائيل والروابط الملموسة المزدهرة بالدولة اليهودية نموذجًا يمكن تطبيقه بالنسبة للأردن الذي يبدو بشكل غريب أنه غير قادر على الفصل بين الاثنين. ويمكن للمرء إرجاع السبب إلى أن علاقة الأردن الرسمية مع إسرائيل حديثة العهد (منذ 1994) مقارنةً بالعلاقة التركية-الإسرائيلية (منذ قيام دولة إسرائيل في 1948). وعليه، كان أمام الأتراك وقت أطول بكثير لتطوير علاقات مدنية وتجارية مع الإسرائيليين. أضف إلى ذلك واقع أن الأردن خاض حربين ضد إسرائيل، وخسر أرضًا لصالحها في واحدة من الحربين، وهو البلد الذي تبنى عددًا كبيرًا من أولاد اللاجئين من هاتين الحربين. كما أن علاقة الأردن السلمية مع إسرائيل ليست حديثة العهد فحسب، بل أعقبها تاريخ مشحون بالنزاعات والحقد العام الموروث من جيل إلى آخر.
واستندًا إلى إرادة الطبقة السياسية في الأردن، قد تثبت هذه النقطة الأخيرة أنها العنصر الأكثر ليونة والأصعب الذي يحول دون تطوير علاقات إسرائيلية-أردنية أصحّ. فمن جهة، ترددت الحكومة الأردنية إلى حدّ كبير في تثقيف الشعب الأردني حول الأهمية الإستراتيجية لعلاقة بلاده مع أقوى دولة مجاورة. ويبدو أن كلًا من الاستخبارات الملكية والبيروقراطية قد تخلت عن النقاش المتعلق بالعلاقة المحورية مع إسرائيل لصالح القوات المعادية لإسرائيل في الأردن. ويتجلى هذا التنازل في العداء العلني الذي يظهر تجاه إسرائيل في وسائل الإعلام المحلية والبرلمان وغيرهما من المحافل العامة. حتى أنه في بعض الأحيان شعر المسؤولون الحكوميون أنفسهم أنهم مضطرون إلى الانضمام إلى موجة الإدانات الرمزية للأفعال الإسرائيلية.
وبالنسبة للمراقبين المقربين من المملكة، إنه وضع غريب نظرًا إلى الدعم الشعبي الكبير الذي يتمتع به النظام الملكي في البلاد. باختصار، يمكن للقيادة الأردنية الاستفادة من رأسمالها السياسي الشعبي الهائل من أجل تقليص الفجوة بين مصلحة البلاد الواضحة في إطار علاقة طبيعية ومزدهرة مع إسرائيل من جهة والشعور الشعبي العدواني إزاءها من جهة أخرى.
وتتراوح التكهنات حول سبب عدم نجاح هذا المسعى بين الجمود الثقافي والحياء البيروقراطي إلى الاستشارة السيئة. غير أنه لا يمكن إلغاء الرابط بين مواقف الحكومة الأردنية ومواطنيها إزاء إسرائيل بشكل كبير. ففي مرحلة ما، يتعين على قادة الأردن القيام بمسعى حازم وممنهج، يبدأ بالمنهج الدراسي في المدارس، من أجل توضيح لما يصبّ تعزيز السلام وتطبيعه مع إسرائيل في مصلحة الأردنيين. إن السلطة والمنطق والدليل على هذه الحجة، جميعها عوامل وافرة. وحدها الإرادة لتحقيقها هي العامل المفقود.