- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
سياسيون أمريكيون في تماهٍ مع القطعية الإسلامية
ليس في هذا العنوان كشف عن مؤامرة مستورة تتسلل من خلالها القطعية الإسلامية إلى الحياة السياسية في الولايات المتحدة، بل اعتبار وحسب للنتائج غير المرتقبة لمواقف كان من الأجدر التأني في اتخاذها. إذ ثمة خطاب يتكرر في الولايات المتحدة لدى جموع من السياسيين، من ميول وأوساط مختلفة، أن الإسلام ليس ديناً وحسب، بل هو أيضاً نظام سياسي. ومن باب الاستفاضة في هذا المقال، يأتي التشديد على أن الإسلام لا يستحق بالتالي أن يعفى من النقد الذي يطال كافة العقائد السياسية، وليس من التعدي على الحرية الدينية لأحد أن تنصبّ الجهود لتطويق تنامي الإسلام في البلاد، إذ هو يسعى لفرض نفسه عليها.
ولا شك أن هذا الطرح، بصيغه المختلفة، يلاقي رواجاً على المستوى الشعبي الأمريكي العام، رغم أنه في واقع الأمر يخلط ما بين مفهوم الإسلام ومفهوم الإسلامية. فالمفهوم الأول، أي الإسلام، يشمل التجربة الدينية والثقافية على مدى الزمان والمكان لجماعات ومجتمعات وأفراد شتى. فهو تعددي حكماً، وهو قائم على الاستيعاب المتحصّل والمتجدّد لهذه الأطراف المختلفة للفترة الحاسمة التي عاشها رسول الإسلام في جزيرة العرب في القرن السابع الميلادي. أما الإسلامية (والبعض اقترح استعمال الإسلاموية منعاً للالتباس، غير أن هذا المصطلح لم يلاقِ رواجاً كما أنه في بعض الأحيان تنابذي)، فهي من مظاهر الإسلام وإحدى أشكال التعبير عنه. وهي حديثة العهد، ارتآها عدد من المسلمين يتفوت وفق اعتبارات جمة، وهي قائمة بالفعل على اعتبار الإسلام نظاماً سياسياً، مع ما يستتبع هذا الاعتبار من مقتضيات تختلف بين التصور والآخر. فالإسلامية كذلك تعددية، بين طروحات ما يمكن تصنيفه المرجعية الإسلامية - حيث الرصيد الإسلامي هو المادة التأسيسية الموجهة للحياة السياسية، كما للحياة الروحية والأخلاق - إلى ما يمكن اعتباره من التوجهات القطعية - حيث الرفض لأي تبديل لإطار إسلامي ملزِم، رغم غياب الاتفاق على إطار واحد بين المسلمين، وتأكيد على تمامه وكفايته.
فمن الواضح لأي متابع موضوعي للساحة الفكرية الإسلامية أن لا إجماع لا في العقيدة ولا في الممارسة ولا في الاعتبارات السياسية. أي أنه لا معيارية إسلامية. ثمة مواقف صارمة دون شك حول وجود المعيارية وشكلها وصيغتها، ولكنها تندرج دوماً في إطار السعي إلى الاستقطاب لا إلى توصيف الواقع، وهي في معظمها قائمة على قناعة صادقة بصوابية الطرح، وإن عمدت في بعض الأحيان إلى البيانيات المؤثرة الهادفة إلى الحشد والتحفيز. فمعظم الوسط الإسلامي (من الإسلامية) يشغله أفراد وجماعات صادقون في سعيهم إلى تحقيق العدل والتوافق على أساس التوجيهات المعنوية والروحية لخلفيتهم الدينية - مهما بدا ذلك معتلاً أو غير قابل للتحقيق من وجهة نظر من لا يشاطرهم قناعتهم العقائدية من المسلمين وغير المسلمين. وفي بعض الأوساط المتشددة للإسلاميين تكمن قراءات للولاء والبراء لا بالمعنى الروحي، بل بمعنى الفصل والعزل والتباعد. وفي أقصى هذه الأوساط، تصدر الدعوة للعداء والبغض للآخر. وهذا الآخر هو أولاً سائر المسلمين من الذين لا يرون ما يراه أصحاب الطرح، ومن بعدهم غير المسلمين. وأكثر هذه الطروحات شدّة هي ما تعتنقه الجماعات القطعية الناشطة لتحقيق الملحمة في إطار فهمها للمرويات حول اقتراب الساعة. وهذه الجماعات في سعي دؤوب للتجنيد.
أما المجنَّدون الذين تسعى الجماعات القطعية إلى استقطابهم فليسوا بالضرورة من المسلمين المتدينين الراسخين في دينهم. بل تتضافر عوامل الجذب والدفع، من الشعور بالتهميش إلى الأهوائيات الغرائزية. لا شك طبعاً أن الخلفية الدينية والثقافية المسلمة تشكل خلفية للسعي إلى الاستقطاب. وعلى من هو من غير المسلمين إذ ينقاد إلى ما تشهره هذه الجماعات القطعية أن يبدّل دينه. غير أن دخوله ليس إلى الإسلام عامة، بل مباشرة إلى شعائر القتل والموت المسبوكة بصيغة إسلامية.
وتنظيم الدولة الإسلامية، كما الحركات الجهادية عامة، والتوجهات الإسلامية السياسية، فيما هي حميعاً من ظواهر الإسلام الحديث، فإنها قد استقت معظم مكوناتها البنيوية والمعنوية من التجربة التي شهدها العالم في القرن العشرين، من الشمولية والعنف والالتزام السياسي. وفي حين أنه لا يجوز أن يفرض على الفرد المسلم أن يتبرأ من هذه الظواهر، فإنه على عاتق من يشهر الوصاية على الموروث الإسلامي، من رجال الدين أو العلم (من المسلمين وغيرهم) أن يقدم المادة المعرفية التي من شأنها التقليل من جنوح البعض للاستجابة للدعوات القطعية، بما تقدمه من وعد زائف بالتمكين.
وبعض هذه المادة المعرفية هو توفير المعطيات والمعلومات التي توضّح أن زعم بعض الإسلاميين أن ما هم عليه هو وحده الإسلام الحق حديث نفس ورأي وهوى، وليس اليقين المطلق. وعندما ينطق الساسة في الولايات المتحدة بقولهم القاطع بأن الإسلام على خلاف غيره من الأديان هو نظام سياسي بوجه إيماني، فإنهم من حيث لا يدرون يؤيدون رأياً خلافياً لا إجماع عليه. وكلامهم يوظّف في إصدارات ومجلات تسعى جاهدة لإرساء الرأي بأن الإسلامية القطعية هي الإسلام الحقيقي.
وقد تكون حكومة الرئيس باراك أوباما، ومعها العديد من التقدميين، قد أفرطت بالصواب السياسي الذي يمنعها من إدراج إرهاب تنظيم الدولة وغيرها في خانة المظاهر الإسلامية. فالدولة الإسلامية هي ظاهرة تنتمي إلى الإسلام دون شك، وإن وقعت بعيداً جداً في قولها وفعلها عن المتداول الإسلامي المعهود. وهي ظاهرة تنتمي كذلك إلى الإسلامية، وإن كانت عند أطرافها. ولكن، حين يتبارى بعض السياسيين في الولايات المتحدة في استعمال عبارات «الإسلام القطعي» و «الإرهاب الإسلامي»، فهم ينطلقون على الغالب من مسلمّة صامتة حول حروب الدين أو صراع الحضارات، وما استعمال النعوت التخصيصية عند الطعن بالإسلام إلا من باب أدب الخطاب. ولهؤلاء الساسة، دون شك، الحق باعتناق القناعات التي يستسيغونها، مهما كانت اختزالية وتسطيحية ومعتلة. ولكنها ليست قناعات مجانية.
فالدولة الإسلامية التي أعلنت نفسها خلافة قد نفت ورحّلت وألزمت المسيحيين في العراق وسوريا بعقود الذمة. وفيما يبدو أن بعض السياسيين في الولايات المتحدة ينظر في إمكانية تطبيق إجراءات بحق المسلمين لا تختلف من حيث الجوهر عن تلك التي اقترفتها الدولة الإسلامية بحق المسيحيين، وفيما يتفوهون بقراءات للدين والثقافة في العالم الإسلامي لا تقرب التجربة الإسلامية بشيء، فإنهم والخبراء الذين يقدمون لهم المادة التي تبنى عليها هذه القراءات، يستحقون كامل الشكر والتقدير من الجهة الوحيدة في العالم الإسلامي التي تشاطرهم الرأي، أي الإسلاميين القطعيين.
وكما أبانت استطلاعات الرأي العام والمتابعات الثقافية الموضعية، فإن الإسلاميين القطعيين لم يتمكنوا من الاستحواذ على الثقافة الإسلامية في أشكالها السائدة، لا في عموم العالم، ولا في خصوص الولايات المتحدة. أما اليوم، وقد انضم إلى حملتهم جمع من السياسيين الأمريكيين، يؤيدونهم في أفكارهم ويعملون على ترويجها، فإنهم قد يتمكنون من تحقيق التقدم. والمسألة ليست طبعاً مؤامرة مكتومة، ولكن نتائجها في فرز المحيط الثقافي في الولايات المتحدة وفي عزل المسلمين الأمريكيين سيّان.