انقر على الرسومات لعرض/تحميل إصدارات عالية الدقة
لم تنته بعد الحرب في سوريا، ولكن يتعين على كافة الجهات الفاعلة المهتمة أن تبدأ الآن بالتفكير في إعادة إعمار البلاد لتحظى مثل هذه الجهود بفرصة للنجاح. وھذا ھو الحال علی الرغم من الشکوك حول وضع مناطق تخفيف حدة التصعید، الواقعة تحت سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية» و «قوات سوريا الديمقراطية»، وعوامل أخرى. ويقيناً، ستواجه الحكومة السورية ما بعد الحرب تحدياتٍ تتجاوز بكثير المشكلة الجليّة المتمثلّة في جمع الموارد المالية وتوزيعها.
الأسباب الكامنة وراء الحرب
يعود أحد أسباب الثورة السورية التي اندلعت عام 2011 إلى الحقائق الاقتصادية والجغرافية الهيكلية التي أدت إلى تفاقم المشاكل السياسية والطائفية. وبالفعل، إذا تأمّلنا سوريا عشية الانتفاضة وجدنا اختلالاً في التوازن بين المركز والأطراف المحيطة به، حيث كانت المدن الكبرى محاطة بمناطق مزّقها الفقر. ومنذ أن نالت سوريا استقلالها عام 1946، شهدت البلاد نمواً سكانياً سريعاً، تضاعف كل عشرين عاماً، وخلق اكتظاظاً سكانياً أثقل كاهل الدولة في المناطق التي لم توفر فيها الزراعة ما يكفي من الوظائف، وحيث لم تتمكن الاقتصادات الحضرية القريبة من استيعاب تدفق العمالة. وفي العقد الأول من القرن الحالي، تسارعت حالات النزوح في المناطق الريفية عندما توافد السكان اليائسون إلى ضواحي غير رسمية، مما أدى إلى مزيد من العبء على الأوضاع الاقتصادية لهذه الضواحي الضعيفة بالفعل.
ولعل ما أطلق شرارة هذا النزوح الريفي هو عدم استعداد الحكومة السورية وفشلها في التعامل بشكل فعال مع الجفاف الذي أصاب البلاد في الفترة بين عامي 2006 و 2011. والأهم من ذلك كلّه أن الأزمة الزراعية في سوريا قد حلّت بالبلاد وسط الجهود الرامية إلى تعزيز تحرير الاقتصاد الوطني والتخلي المقابل عن سياسة التخطيط الإقليمي. ولا شك في أن النظام الذي انبثق عن عهد حافظ الأسد، والذي انتهى بوفاته في عام 2000، كان بالياً واحتاج إلى إصلاح. ولكن في ظل حكم بشار، نجل حافظ الأسد وخليفته، لم يتمكن القطاع الخاص بمنتهى البساطة من توظيف مئات الآلاف من العمال الجدد الذين يدخلون سوق العمل كل عام. وفي العقد الأول من القرن الحالي، عانت المناطق الريفية والبلدات الصغيرة بشكل خاص، حيث تَركَّز النمو الاقتصادي في المدن الكبرى - حلب وحمص وحماة واللاذقية، والأهم من هذه كلها، دمشق.
الدمار الذي خلفته الحرب يركز على المدن الكبرى
وفقاً لتقرير "البنك الدولي" الصادر في تموز/يوليو 2017، بعنوان "خسائر الحرب: [التبعات الاقتصادية والاجتماعية للصراع في سوريا]"، دُمرت أكثر من 20 في المائة من المنازل في تلك البلاد (870,000 من أصل4,120,000 وحدة) أو أصيبت بأضرار بالغة، كما أن نسبة المدارس، والمستشفيات، والطرق، ومرافق إنتاج النفط والغاز المدمرة أو المتضررة هي أعلى من ذلك. ويُقدّر التقرير أن إزالة 15 مليون طن من الحطام في حلب وحمص وحدهما سوف يستغرق سنوات. ومع ذلك، فإن التدمير غير متساو في جميع أنحاء البلاد، حيث تجنّبت محافظات اللاذقية وطرطوس والسويداء أضراراً واسعة النطاق، في حين تأثرت حلب ودرعا تأثراً شديداً. ونتيجة للقتال المركّز في المناطق الحضرية، أصبحت 23 في المائة من حمص و 31 في المائة من حلب و 41 في المائة من دير الزور في حالة خراب. وحيث أن دراسة "البنك الدولي" التي استُشيرت هنا قد سبقت معركة الرقة، فإنها تُظهر مستوى من الدمار يخفف من الواقع الحالي. فقد تم محو داريا في ريف دمشق من الخريطة، كما عانت المناطق الصناعية في دمشق وحلب بشكل خاص. وفي الحالات التي لم تدمّر فيها المواد، فقد سُرقت وأعيد بيعها في الخارج، معظمها في تركيا.
وقد ثبت أنه من السهل إعادة توفير الطاقة الكهربائية، ولكن لا يزال الإنتاج يطرح مشكلة. وسرعان ما قامت بلديات حمص وحلب بإصلاح شبكات الكهرباء الخاصة بها، إلّا أن الإنتاج انخفض من 43 جيجاوات في عام 2010 إلى 16 جيجاوات في عام 2015. وبعد أن استعيدت أخيراً حقول الغاز والنفط من تنظيم «الدولة الإسلامية»، الذي لا يسيطر على معظمها، يتعيّن على الدولة استئناف الإنتاج وإصلاح محطات توليد الطاقة الحرارية. ويشمل ذلك البنية التحتية للغاز في الشاعر بالقرب من تدمر، الذي هو المصدر الرئيسي لإنتاج الكهرباء، الذي دمره تنظيم «الدولة الإسلامية» في أيار/مايو 2016. وإجمالاً، ستحتاج الحكومة السورية إلى مساعدة خارجية كبيرة للتغلب على هذه التحديات.
إن الحاجة الطارئة للنظام هي استعادة شرق سوريا، بالإضافة إلى حقل "عُمر" النفطي الواقع بين دير الزور وأبو كمال، والذي يسهم في 50 في المائة من إنتاج النفط السوري، مما يسهّل السيطرة على موارده من الطاقة. وكان استقلال سوريا في مجال الطاقة أحد نقاط قوتها قبل الحرب، بفضل الطاقة الرخيصة التي عززت التنمية الصناعية والزراعة القائمة على الري. بالإضافة إلى ذلك، وعلى الرغم من أن استرداد الجيش السوري لمناجم الفوسفات في تدمر في ربيع 2017 لم يحظ إلا بالقليل من الانتباه، إلا أنه سيكون محورياً لإحياء قطاع زراعي يعتمد على الأسمدة الفوسفاتية الرخيصة.
تصحيح أوجه عدم المساواة قبل الحرب
ينطوي التحدي المتمثل في إعادة إعمار البلاد على أكثر من مجرد استبدال البنية التحتية. وكما جاء في تقرير "البنك الدولي"، فقد تسبب الصراع في "إضعاف الرابط الاقتصادي بشدة، وفي تقليص الحوافز لمواصلة الأنشطة الإنتاجية، وفي هدم الشبكات الاقتصادية والاجتماعية وسلاسل الإمداد. وتُظهر أساليب المحاكاة أن الخسائر التراكمية لـ "الناتج المحلي الإجمالي" الناتجة عن هذه الاضطرابات في المنظومة الاقتصادية تتجاوز تلك المترتبة عن تدمير رأس المال بعامل قدره 20 في السنوات الست الأولى من الصراع".
وعلى الرغم من أن عملية إعادة الإعمار تتيح فرصةً لتصحيح أوجه الإجحاف لفترة ما قبل الحرب، فإن أي عملية من هذا القبيل ستكون طويلة ومكلّفة ومتجذرة في مبدأ اللامركزية. إلا أن سكان المناطق التي همشها مفهوم الليبرالية الاقتصادية على مدى السنوات العشرين الأخيرة سيكونون بأمس الحاجة إلى هذه التعديلات. ويشكّل شمال شرق سوريا، الذي يضم وادي الفرات والجزيرة، خير مثال في هذا الصدد. وقبل الحرب، كان سكان هذه المناطق يطالبون بالعمل في الوظائف الإدارية والحصول على الخدمات العامة، كما هو الحال في الاقتصاد الاشتراكي في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم. ومن ثم، فمن مفارقات الحرب أنه في حين أن معظم سكان الجزيرة لم يدعموا نظام بشار الأسد أو [برنامجه] لتحرير الاقتصاد، إلّا أنّهم يتوقون الآن إلى عصر بعثي ذهبي مفترض، لم تتوافر فيه بتاتاً مقومات النجاح الاقتصادي بادئ ذي بدء. وعلى وجه الخصوص، فإن السياسة الإنمائية الإقليمية التي وضعها حافظ الأسد، والتي تستند على توسيع نطاق الزراعة القائمة على الري في المناطق الجافة، قد بلغت حدها في نهاية القرن العشرين. ولذلك سيكون من الصعب جداً تلبية مطالب المزارعين في شمال شرقي البلاد.
وتوضح مثل هذه الديناميات لماذا يجب على الدولة السورية المستقبلية أن تعزز الاستثمار الخاص في المناطق المحيطة بها. وسيتطلب هذا التحوّل إنهاء نظام تستلزم فيه أدنى خطوة الحصول على إذن من دمشق. كما أنه يتطلب، حالما يتم حل مشكلة الحوكمة، تطوير البنية التحتية للاتصالات والطاقة في المناطق النائية. وعلى الرغم من امتلاك سوريا تقليدياً لشبكة اتصالات حضرية متوازنة نوعاً ما، تقودها فئة برجوازية حضرية ريادية في مجال الأعمال من شأنها أن تنشّط الاقتصادات الإقليمية المختلفة، إلّا أن المدن مثل حمص وحلب، التي كانت تميل إلى موازنة دمشق، قد عانت إلى حد كبير خلال الحرب. وبالتالي، لا بد من إيلائها الأولوية في إعادة الإعمار، خشية أن تتضخم دمشق وتصبح بمثابة وحش حضري يشبه مدينة القاهرة بينما تتقلّص المدن الأخرى.
وفي العقود الأخيرة، وانعكاساً للتوجهات التي نوقشت أعلاه، رزحت المناطق الريفية والبلدات الصغيرة تحت وطأة الإهمال، حيث يعاني سكانها من التفاوت المتزايد، بالمقارنة مع سكان المدن، في الحصول على الخدمات العامة وفرص العمل. وستتطلّب معالجة هذا الوضع الخطير، بدايةً، استراتيجيةً أفضل للتواصل تهدف إلى إدماج المناطق الريفية في الاقتصاد الحضري الجديد. ويعني ذلك أيضاً أن سكان الأرياف سيفضّلون البقاء في مجتمعاتهم المحلية - والذهاب إلى العمل - عوضاً عن العيش في ظروف متدهورة في الضواحي غير الرسمية. ولذلك، لا بد من إيلاء الأولوية لعكس اتجاهات النزوح ما قبل الحرب، نظراً للقدرة المحدودة للمدن السورية على استيعاب الوافدين الجدد. وقد يؤدي عدم الاعتراف بهذه المخاطر إلى العنف والإحباط بين السكان الجدد.
معالجة ندرة المياه
لم تنجو سوريا رسمياً من مشكلة "ندرة المياه" في عام 2010، سوى من خلال المخزون الذي استمدّته من نهر الفرات، ومن الحوض الساحلي بشكلٍ هامشي. غير أن معظم أنحاء البلاد كانت في الواقع تعاني من ندرة المياه. وفي الهلال الخصيب، من درعا إلى القامشلي إلى حلب، انخفضت مستويات المياه الجوفية بشكل كبير. ويعتبر نقل المياه من حوض إلى آخر حلّاً مكلفاً للغاية - وغير مستدام.
وعند إعادة النظر في النموذج الزراعي لسوريا، يجب على البلاد أن تسعى إلى تحديث أساليب الري لديها. وعلى وجه التحديد، يجب تحديث هذه الأساليب حول وادي الفرات لتأمين استمرارها وبقائها. وبالمثل، يجب أن يطال الإصلاح معايير تخصيص المياه وتوزيعها ليبقى إنتاج القطن مربحاً في الجزيرة. ويتعين أيضاً تغيير التوزيع المحلي. وإذا كان سعر المياه منخفضاً فذلك يشجع على الهدر، حيث كان الناس يقومون سابقاً بتنظيف سياراتهم يومياً في وسط مدينة دمشق، عندما كانت المياه وفيرة وكانت شركة المياه العامة ولا تزال غير كفوءة إلى حد كبير. وفي غضون ذلك، لا يتدفق الماء في معظم الضواحي سوى بضع ساعات في الأسبوع. ومع ذلك، ستعلو أصوات رافضة للإصلاح المائي.
وإذا لم تفلح الدولة في استعادة قدرتها على الحصول على المياه والكهرباء بشكل فعال وموثوق، فسينمو سوق خاص، كما حدث في لبنان. فبعد مرور ثلاثة عقود تقريباً على انتهاء الحرب الأهلية، لا يزال على اللبنانيين الاشتراك في مولدات باهظة الثمن تابعة لكل منطقة وشراء المياه بأسعار باهظة من خزانات الشاحنات. وللأسف، حالما يحصل مثل أولئك المزودين من القطاع الخاص على حماية السياسيين من أصحاب النفوذ في البلاد، تصبح عملية إعادة بناء الخدمات العامة الكفوءة أكثر صعوبة.
المخاطر المستقبلية
على الرغم من هذه التوصيات، من المرجح أن تتخذ عملية إعادة إعمار سوريا منحىً غير منظم، يوماً بعد يوم، وتعاني من عدم كفاية الموارد المالية المناسبة ومن القوى التي تسعى إلى إحياء الحقائق ذاتها التي كانت قائمة قبل الحرب وأدت إلى زعزعة استقرار الدولة. وسيتعيّن على الحكومة السورية الضعيفة التعامل مع سماسرة السلطة المحليين الذين أبصروا النور خلال الصراع. ويمكن أن يساهم كل ذلك في تعزيز سيناريو مشابه للانهيار الحضري والبيئي والاجتماعي الذي يواجهه جيل كامل من اللبنانيين بعد حربهم الأهلية. ولتفادي مثل هذه النتيجة، سيتعين على جميع الجهات الفاعلة - المحلية والدولية - إبداء روح تعاونية ونزيهة نادراً ما لوحظت على مدى السنوات الست الماضية.
فابريس بالونش، هو أستاذ مشارك ومدير الأبحاث في "جامعة ليون 2"، وزميل زائر في معهد واشنطن.