
- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 4021
تجنّب المواجهة بين "إسرائيل" و"سوريا" (الجزء الثاني): فرصة لفتح مفاوضات جديدة

يمكن أن يفتح الحوار المباشر بين "إسرائيل" والحكومة الانتقالية في "سوريا" الباب أمام إطار جديد للعلاقات الثنائية، يشمل إنهاء حالة العداء المستمرة، والاعتراف بالعلاقة الخاصة بين "إسرائيل" و"الدروز"، والاتفاق على مجالات للتنسيق في جنوب "سوريا"، إلى جانب التعاون في مواجهة محاولات عودة "إيران" و"حزب الله" إلى "سوريا" و"لبنان ".
سقوط نظام "بشار الأسد" غيّر شكل العلاقات بين "سوريا" و"إسرائيل" بشكل جذري. فواقع جديد بدأ يتشكّل على الأرض، وبدأت تظهر ملامح خطاب علني مختلف بين الطرفين. ورغم أن الوضع لا يزال مليئاً بالمخاطر، إلا أنه أوجد فرصة واعدة – لكن لم يتم استغلالها بعد – لفتح حوار مباشر والوصول إلى تفاهمات جوهرية بين "دمشق" و"القدس"، خصوصاً في ما يخص جنوب "سوريا ".
واقع جديد على الأرض
كما ورد في (الجزء الأول)، فإن الأنشطة العسكرية التي قامت بها "إسرائيل" في "سوريا" خلال عهد "الأسد" كانت في الغالب تقتصر على الغارات الجوية وعمليات الكوماندوس المحدودة التي استهدفت شحنات الأسلحة "الإيرانية"، والمنشآت العسكرية "الإيرانية"، والقواعد الناشئة لـ"حزب الله" على طول الحدود. غير أن هذا النهج تغيّر بشكل كامل وسريع بمجرد أن دخلت قوات "أحمد الشرع" إلى العاصمة "دمشق" دون أي مقاومة.
باشرت القوات الجوية "الإسرائيلية" حملة واسعة لا تزال مستمرة بشكل متقطع حتى اليوم، استهدفت من خلالها معظم مستودعات أسلحة النظام السابق، وأنظمة الدفاع الجوي، والرادارات، والدبابات، وناقلات الجنود، والمدفعية، ومواقع الأسلحة الكيميائية، ومخازن الصواريخ، وغيرها من الأصول المنتشرة في أنحاء البلاد. والنتيجة: لم يعد هناك جيش "سوري" بالمعنى التقليدي.
تغيّرات كبرى حدثت أيضاً في المحافظات الثلاث جنوب "دمشق" – "درعا"، "القنيطرة"، و"السويداء" – والتي تبلغ مساحتها نحو 16، 500 كيلومتر مربع ويقطنها حوالي مليوني شخص. بعد سقوط "الأسد"، سيطرت الفرقة 210 في "جيش الدفاع الإسرائيلي" على منطقة الفصل التي أُقرت في اتفاق فصل القوات لعام 1974، والتي يتراوح عرضها بين مئات الأمتار وعشرة كيلومترات. كانت قوات الأمم المتحدة لمراقبة الفصل ("UNDOF") تسيّر الدوريات هناك وتفرض القيود على حجم القوات، لكن "إسرائيل" تعتبر أن هذا الترتيب لم يعد قائماً بعدما انسحبت الفرقتان 61 و90 التابعتان للنظام من مواقعها، ما خلق فراغاً أمنياً خطيراً قد تستغله الجماعات المتطرفة لتنفيذ هجمات عبر الحدود.
لذلك، تقدّمت القوات "الإسرائيلية" إلى ما بعد منطقة الفصل وأنشأت منطقة أمنية بحكم الأمر الواقع تمتد لمسافة 15 كيلومتراً داخل الأراضي "السورية"، وصولاً إلى سلسلة التلال البركانية التي كانت تُعد مواقع استراتيجية للجيش "السوري" سابقاً. وبهذا، أصبحت "إسرائيل" تسيطر فعلياً على 460 كيلومتراً مربعاً خارج خط الفصل. وكما ورد سابقاً، تعهد رئيس الوزراء "بنيامين نتنياهو" بتوسيع هذه المنطقة المنزوعة السلاح لتصل حتى الطريق السريع بين "دمشق" و"السويداء"، أي على بُعد 65 كيلومتراً من أقرب نقطة لتمركز القوات "الإسرائيلية" حالياً.
إضافة إلى ذلك، أعلنت "إسرائيل" أنها ملتزمة بحماية المجتمع "الدرزي" في "سوريا"، وأطلقت برنامج مساعدات لنحو 50 ألف "درزي" يعيشون في القرى المنتشرة على سفوح "جبل الشيخ"، وكذلك لنحو نصف مليون "درزي" في منطقة "جبل العرب" ("السويداء"). وتم السماح لبعض "الدروز" "السوريين" بالعمل في "إسرائيل"، في خطوة مشابهة لما يحدث مع "الأردنيين" الذين يعملون في مدينة "إيلات"، أو "اللبنانيين" الجنوبيين الذين عملوا في "إسرائيل" خلال العقود الماضية.
حتى الآن، تعاملت حكومة "الشرع" الجديدة مع هذه التغييرات "الإسرائيلية" بهدوء ملحوظ. فالرئيس ووزراؤه يتجنبون التعليق علناً على ما يحدث، وحتى عندما وصف وزير الدفاع "الإسرائيلي" الجديد، "إسرائيل كاتس"، "الشرع" بأنه "إسلامي جهادي متطرف"، لم يردّ إلا بشكل محدود جداً وبعبارات دبلوماسية. كما ذكّره "كاتس" بأن "الجيش الإسرائيلي" بات يرى نوافذ قصره على أطراف "دمشق"، على بُعد 23 كيلومتراً فقط من المواقع "الإسرائيلية" الجديدة على "جبل الشيخ" – وكأن "الشرع" لا يعرف ذلك مسبقاً. ومع ذلك، كانت ردود فعله قليلة وهادئة، وأكّد في كل مرة أنه لا يرغب في التصعيد مع "إسرائيل ".
انفصال أو ضم الدروز ليس خياراً واقعياً
مع تغيّر الوضع على الحدود، برزت دعوات من بعض "الإسرائيليين" إلى تشجيع "الدروز" على الانفصال عن "سوريا". هذه الفكرة طُرحت سابقاً خلال حكومات "حزب العمل" في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وأعاد طرحها مؤخراً سياسيون من التيار اليميني، ممن يتخيّلون إنشاء ممر يربط "السويداء" بمنطقة الحكم الذاتي الكردي في شمال شرق "سوريا ".
لكن إعادة إحياء "الدويلة الدرزية" التي وُجدت خلال فترة الانتداب "الفرنسي" بين عامي 1921 و1936 لم تعد خياراً مطروحاً اليوم. أحد الأسباب هو أن "الأكراد"، بدعم "أمريكي"، أبرموا اتفاقاً مبدئياً مع "الشرع" لدمج قواتهم ضمن الجيش "السوري" الجديد. الأهم من ذلك أن المعطيات على الأرض، بما فيها آراء المسؤولين المحليين والمراقبة اليومية، تشير إلى أن معظم "الدروز" يفضلون البقاء ضمن الدولة "السورية"، لكن ضمن علاقة جديدة تقوم على تقليص السلطة المركزية، وتحديد حجم الوجود العسكري والأمني في مناطقهم.
أما خيار الانضمام إلى "إسرائيل"، فهو لا يحظى بدعم يُذكر سوى في بعض القرى القريبة من الحدود. الغالبية ترغب بعلاقات أكثر انفتاحاً مع "إسرائيل"، بالتوازي مع تفاهمات جديدة مع حكومة "الشرع" تضمن استمرار الوضع شبه المستقل الذي تحقق في "السويداء" خلال الحرب.
لكن هذا التوازن في العلاقات – مع "إسرائيل" من جهة ومع "دمشق" من جهة أخرى – يُثير انقساماً داخل الطائفة "الدرزية". فشيخ عقل الطائفة، "حكمت الهجري"، والمجلس العسكري "الدرزي" المشكّل حديثاً بقيادة عدد من الجنرالات السابقين، يبديان شكوكاً عميقة تجاه حكومة "الشرع"، ويرفضان تقديم أي تنازلات حقيقية، ويدعوان إلى تقوية العلاقة مع "إسرائيل". بالمقابل، يدعم رجال دين آخرون من ذوي الرتب الأدنى، مثل "حمود الحناوي" و"يوسف جربوع"، إلى جانب ميليشيات محلية مثل "رجال الكرامة" و"رجال الجبل"، خيار التسوية مع "دمشق". وقد نظّم الطرفان تظاهرات وحملات عبر وسائل التواصل الاجتماعي للدفاع عن وجهة نظرهم، ولا يُستبعد اندلاع مواجهات بينهما، خاصة إذا قررت حكومة "الشرع" التدخل في هذا النقاش الداخلي.
توصيات
في ظل هذا الوضع المعقد، من الضروري أن تبدأ "إسرائيل" والحكومة الانتقالية بقيادة "الشرع" حواراً مباشراً بأسرع وقت للتوصل إلى تفاهمات حول قضايا أساسية، بعضها مزمن وبعضها جديد. وهناك بالفعل مواقع محايدة متاحة لعقد هذه اللقاءات، مثل معسكري "فوار" و"زيوني" التابعين للأمم المتحدة.
من الواضح أن "الشرع" لا يريد الدخول في مواجهة مع "إسرائيل" في المستقبل القريب، وربما لسنوات قادمة. وفي المقابل، لدى "إسرائيل" مصلحة واضحة في استقرار جبهتها الشمالية. ولتحقيق هذا الهدف المشترك، يمكن التركيز على الخطوات التالية:
- تبادل الالتزامات بشأن الملف "الدرزي": تلتزم "إسرائيل" بعدم تشجيع "الدروز" أو غيرهم من سكان الجنوب على الانفصال عن "سوريا"، بينما تقبل حكومة "الشرع" بخصوصية العلاقة التي تربط "الدروز" بـ"إسرائيل"، بما يعادل نوعاً من التطبيع. ويمكن لمحافظة "السويداء" وقرى "جبل الشيخ" التوصل إلى اتفاق مع "دمشق" يُعيد دمجهم في مؤسسات الدولة، مع الإبقاء على المهام الأمنية بيد قوات محلية تحت إشراف وزارة الدفاع "السورية ".
- استبدال اتفاق فصل القوات لعام 1974 باتفاق جديد: يتضمن قيوداً موسعة على عدد القوات ونوعية الأسلحة، ويضع آلية تنسيق ورقابة مشتركة. ويمكن أن يُشرف طرف ثالث على هذه الرقابة، إما من خلال تعديل تفويض "الأمم المتحدة" أو عبر تشكيل هيئة جديدة بقيادة ممثل "أمريكي ".
- تنسيق الأنشطة في المناطق "السنية" الحدودية: "إسرائيل" تربطها علاقات ببعض القرى "السنية" في "درعا" و"القنيطرة" منذ أكثر من عقد. وفي المقابل، يسعى "الشرع" إلى تشكيل الفرقة 40 من عناصر محلية تشمل مقاتلين سابقين ومنشقين عن الجيش، بقيادة العقيد "بنيان أحمد الحريري". استمرار وجود دوريات "إسرائيلية" واتصالات مع العشائر قد يتعارض مع جهود الحكومة لإعادة فرض سيطرتها.
- التعاون لمنع عودة "الحرس الثوري الإيراني" و"حزب الله": اللذين يسعيان إلى إعادة التموضع داخل "سوريا ".
- تبادل المعلومات الاستخباراتية لتفكيك الخلايا "الفلسطينية" المسلحة في سوريا: مثل "حماس" و"الجهاد الإسلامي" و"الجبهة الشعبية"، خصوصاً في مخيمات اللاجئين. حكومة "الشرع" بدأت بالتحرك في هذا الملف، لكنه لا يزال يتطلب المزيد من العمل.
- معالجة أزمة الوقود والغاز الحادة في "سوريا": يمكن إعادة تفعيل خطة مبعوث إدارة "بايدن" السابق، "آموس هوكشتاين"، التي تقترح ضخ الغاز "الإسرائيلي" إلى "سوريا" عبر خط الغاز العربي المار بـ"الأردن". وقد يشمل هذا لاحقاً "لبنان". رغم أن هذه مسألة منفصلة تتطلب نقاشاً خاصاً. يمكن للدول "الخليجية" و"الغربية" أن تتولى تغطية تكاليف هذا المشروع كوسيلة لتعزيز فرص تحقيق السلام في المستقبل. ومع ذلك، لا توجد ميزة كبيرة في السماح لطرف مثل "قطر" بأخذ الفضل في إنجاح هذه الخطة، خاصة وأن "الدوحة" قد تحاول إخفاء أن مصدر الغاز هو "إسرائيل".
- تسوية نزاع مزارع "شبعا"/"جبل دوف": إذا أعلن "الشرع" أن هذه الأراضي كانت خاضعة للسيادة "السورية" قبل عام 1967، فسيُسقط بذلك حجة "حزب الله"، ويمهد الطريق أمام استئناف مفاوضات ترسيم الحدود بين "إسرائيل" و"لبنان ".
- دراسة إمكانية تخفيف العقوبات"الأمريكية" على "سوريا" بمساعدة "إسرائيل": ما قد يساهم في توفير التمويل اللازم لإعادة الإعمار وعودة ملايين اللاجئين.
رغم أن الوقت قد لا يكون مناسباً الآن لطرح فكرة انضمام "سوريا" (وربما "لبنان") إلى "اتفاقيات أبراهام" وتطبيع العلاقات رسمياً مع "إسرائيل"، إلا أن الحوار المباشر يمكن أن يؤدي إلى إطار جديد للعلاقات، يشمل إنهاء حالة العداء، والاعتراف بالعلاقة الخاصة مع "الدروز"، والتنسيق جنوب البلاد.
"الولايات المتحدة" سبق أن قادت وساطة بين "لبنان" و"إسرائيل" رغم استمرار وجود قوات "إسرائيلية" في الميدان، وهناك حجة قوية لأن تلعب الدور نفسه مع "سوريا ".
تمت ترجمة المقال في 22 نيسان/ أبريل.