- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تكالب الأزمات على مصر: ليبيا وإثيوبيا وشمال سيناء
ربما تكون تلك هي المرة الأولى في التاريخ المصري الحديث التي تفتح فيها على الدولة ثلاث جبهات في لحظة واحدة وهي الحرب في ليبيا والتهديد التركي، وأزمة سد النهضة التي تمثل أزمة وجود للمصريين، وتفاقم العمليات الإرهابية في سيناء. ومن حظ النظام المصري العثر أن يتزامن ذلك الموقف المعقد مع أزمة اقتصادية تمر بها البلاد تفاقمت بفعل الوباء، ويزيد الأمر سوءا وجود شق في جبهته الداخلية من فصيل سياسي لا يخفي تحيزه لعواصم أخرى تناصب السيسي العداء، وهو ما وضعه أمام خيارات صعبة تتعلق بكيفية إدارة الوضع.
سرت: "خط أحمر" في ليبيا
بعد سلسلة الهزائم التي منى بها الجنرال خليفة حفتر (المدعوم من قبل مصر والإمارات)، واقتراب قوات حكومة الوفاق (المدعومة من قبل تركيا) من الاستحواذ على مدينة "سرت"، أعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي "مبادرة القاهرة" بهدف إنهاء الصراع.
تضمنت المبادرة إعلانا دستوريا، وتفكيك الميليشيات، ووقف لإطلاق النار بين الطرفين، وهي المبادرة التي قوبلت بالرفض من قبل حكومة الوفاق التي أصرت على تقدمها صوب سرت، مما دفع السيسي إلى التهديد بنقل الصدام لمربع المواجهة المباشرة معلنا بوضوح أن محور سرت والجفرة "خط أحمر"، في إشارة لإمكانية التدخل العسكري المصري في ليبيا.
وعلى الرغم من انخراط الجانبين في اتفاق هش لإطلاق النار الآن، تظل مسألة سرت نقطة خلاف رئيسية مثيرة لقلق عميق بالنسبة للقاهرة إلى جانب العديد من الأطراف الأخرى المعنية. فسيطرة حكومة الوفاق عليها يعني إحكام القبضة التركية على منطقة الهلال النفطي، وقاعدة الجفرة الجوية، ومن ثم "ابتلاع" الشرق الليبي بأسره. وهو ما يشكل تهديدا للأمن القومي المصري في حدوده الغربية الممتدة بطول 1200 كيلومتر، في ظل عداء واضح ومعلن مع أردوغان الداعم الأول للإسلاميين في الإقليم. وهو دافع متناغم الى حد كبير من الدوافع الإماراتية التي تحارب المشروع الإخواني الإسلامي في المنطقة، لذلك يدعم الفريقين معسكر "الشرق الليبي" الممثل في الجنرال خليفة حفتر، وعقيلة صالح رئيس البرلمان.
وقد وجدت روسيا في خليفة حفتر شريكا مناسبا يسهل دخولها إلى سوق الطاقة الليبية، فضلا عن السماح لها باستخدام موانئ البحر المتوسط في طبرق ودرنة، وهو ما يساهم في تثبيت الوجود الروسي في البحر المتوسط خصوصا بعد سيطرتها على ميناء طرطوس في سوريا. وتطمح روسيا من تحركاتها في ليبيا أيضا الى اتخاذ قاعدة الجفرة قاعدة دائمة لتواجدها، فضلا عن سعيها لتأسيس قاعدة بحرية في سرت بهدف تعزيز نفوذها في شمال إفريقيا.
وترجمت المساعي الروسية في ليبيا الى تحرك على الأرض بدا من 2017 حين قامت موسكو بعلاج جرحى من جيش حفتر، ثم أرسلت مئات من المرتزقة التابعين لمجموعة "فاغنر" العسكرية الروسية للقتال هناك، وهو ما كشف عنه تقرير أممي، ردت عليه موسكو قائلة إنه لا توجد لها علاقة رسمية بتلك الشركة دون أن تنفي وجود القوات فعلا. هذا وقد صرح الحساب الرسمي للقيادة الأفريقية في الجيش الأمريكي عبر تويتر أن مقاتلات روسيا حلقت من روسيا الى سوريا حيث تمت إعادة طلائها "لتمويه أصلها الروسي" ثم توجهت إلى ليبيا.
أما الموقف الفرنسي والإيطالي فيتأرجح بين الفريقين بنسب متفاوتة، فرنسا والتي تحركها دوافعها الاقتصادية بالأساس حيث تمتلك شركتها العملاقة "توتال" 75% من حقوق التنقيب عن النفط في حقل الجرف، فضلا عن حصص كبيرة بحقول الواحة، والشرارة وقاع مرزوق. تميل فرنسا قليلا صوب معسكر حفتر دون أن تقطع الحبل مع معسكر السراج. أما إيطاليا فهي تميل أكثر صوب معسكر السراج وإن كانت ترى أن التدخل العسكري لتركيا عبر ميليشياتها يُضعف من حضورها التاريخي في ليبيا، فضلا عن كونه يطيل من أمد الصراع بما يضر بشدة بمصالحها الاقتصادية المتمثلة في شركة "اجني "للبترول، ويفتح الباب لتدفقات هجرة المرتزقة إلى إيطاليا بما يهدد أمنها القومي.
وفي خلفية المشهد توجد الولايات المتحدة التي لا تولي الملف الليبي أهمية قصوى في سياستها الخارجية، ويقتصر اهتمامها بها على القضاء على الإرهاب من ناحية، وهو ما تم بالفعل بشكل كبير بعد إخفاق داعش في تكوين إمارة إسلامية في سرت، ومن ناحية أخرى فمحرك واشنطن الأساسي في ليبيا هو منع استحواذ روسيا على ليبيا مثلما استحوذت على سورية. وقد عبر عن ذلك بوضوح قائد القيادة الأفريقية في الجيش الأمريكي، الجنرال ستيفن تاوساند قائلا: إذا سُمح لروسيا بتشكيل النتيجة النهائية للصراع الليبي فإن ذلك لن يعجب أمريكا. وقد أصدر البيت الأبيض بيانا في الرابع من أغسطس أشار فيه بوضوح لرفض وجود قوات عسكرية أجنبية على الأراضي الليبية، داعيا لتمكين المؤسسة الوطنية الليبية للنفط من استئناف عملها الحيوي، ثم البحث بعد ذلك حلول سياسية عادلة. هذا المطلب تحقق بالفعل عبر بيانين منفصلين صدرا من رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج، ورئيس مجلس النواب شرقي ليبيا عقيلة صالح. يعلنان فيه وقف النار واستئناف العمل على ضخ النفط، على أن تجرى مفاوضات على جعل سرت والجفرة منطقتين منزوعة السلاح، وطرح فكرة إقامة انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة.
لكن سرعان ما اشتعلت المظاهرات في العاصمة "طرابلس" منددة بتدهور الأوضاع الاقتصادية، وهو ما نجم عنه العودة مره أخرى لدائرة التوتر والاتهامات المتبادلة بين الشرق والغرب الليبي.
وفي مشهد بهذا التعقيد يصعب التكهن بما سيحدث، وهل ستندلع حرب في ليبيا أم لا، الفرص متساوية والخيارات جميعها مطروحة، وهنا يصبح السؤال الأهم للقاهرة: بعيدا عن التكلفة المالية والتي قد تسهم الإمارات بالجزء الأكبر فيها، هل الجيش المصري والدولة المصرية بشكل عام مستعدة للدخول في حرب مباشرة في ليبيا؟
الإجابة غير مؤكده، لكن المؤكد أن موقف الرئيس السيسي حرج، فمن جانب لا يملك ترف ترك حدوده الغربية في يد خصومه، ومن جانب آخر التورط في حرب بليبيا يحمل شبح تكرار تجربة حرب اليمن المريرة في 1962 وما عانته مصر فيها من خسائر فادحة. وهو ما يجعل الرجل يفكر ألف مرة قبل الإقدام على قرار الحرب، لكن حتى مع تجنب الحرب تظل المصالح المصرية في ليبيا حاضره والتي تتعارض في نقاط متفاوتة مع مصالح لاعبين أخرين هناك، من بينهم، من بينهم أولئك الذين يعتبرون من أقوى داعمي السيسي وحلفائه.
أزمة سد النهضة
وإذا كانت الأزمة في ليبيا تمثل تهديدا للأمن القومي المصري، فإن أزمة سد النهضة بين مصر وإثيوبيا تمثل أزمة وجود حقيقي للمصريين. إثيوبيا من جانبها ترى أن من حقها بناء سد على أراضيها والاستفادة منه في أغراض التنمية، ومصر ترى أن ذلك حق لإثيوبيا بالطبع شريطة ألا يؤدي ذلك الى تقليل حصة مصر من المياه. وحتى الآن لم تتوافق الدولتين على نقاط كثيرة في سد النهضة، لكن النقطة الجوهرية الأبرز هي تلك المتعلقة بموعد ملء السد وبـ كمية المياه التي سيمررّها. إثيوبيا من جانبها تعلن بوضوح عن إقدام أحاديّ على ملء السد في عملية يُتوقع لها أن تستغرق نحو سبع سنوات، وهو ما ترفضه القاهرة تماما.
وقد مرت المفاوضات المصرية - الإثيوبية بمحطات عدة بدأت بمفاوضات مباشرة، ثم وساطات عبر عواصم مختلفة، ثم مفاوضات تحت رعاية أمريكية، وأخيرا عودة للتفاوض تحت المظلة الإفريقية. ومع ذلك، أصبح الوضع شديد التعقيد خاصة بعد فشل الولايات المتحدة والبنك الدولي في إقناع إثيوبيا بتوقيع اتفاق مع مصر في فبراير الماضي، حيث طالبت إثيوبيا بأن يتم التفاوض برعاية الاتحاد الأفريقي بدلا من مجلس الأمن الذي تعتزم مصر الاحتكام إليه، وهو الطلب الذي يراه البعض لا يعدو كونه محاولة للتسويف وحيلة لكسب الوقت.
وقد فشلت كل تلك المراحل في الوصول لحل مرضي لطرفي الأزمة حتى الآن، وما زال الخلاف قائما على نقاط كثيرة أبرزها متعلق بسنوات ملء خزان السد وبـ كمية المياه التي سيمررّها للسودان. ففي حين أعلنت إثيوبيا مؤخرا عن إقدام أحاديّ على ملء السد في عملية يُتوقع لها أن تستغرق نحو سبع سنوات، ترفض القاهرة ذلك تماما، مشيرة إلى أن تبعات هذا القرار سوف تكون تقلص حصة المياه في النهر وهو ما سيؤدي الى تدمير حرفي للبلاد. وتكتسب أزمة سد النهضة بعدا شخصيا ضاغطا على الرئيس المصري بشكل مباشر حيث يحمله معارضوه المسؤولية كاملة إزاء ذلك الموقف المعقد الذي وصلت إليه مصر في أزمة سد النهضة نتيجة قراره بالتوقيع على إعلان المبادئ في 2015 مؤكدين أن ذلك الإعلان هو الذي سمح لإثيوبيا بالمضيّ قُدما في انتهاكاتها.
المؤكد أنه حال الفشل المستمر للمفاوضات واستنفاذ كروت الضغط السياسي لن يكون أمام القاهرة سوى الاحتكام لمجلس الأمن، باعتبار أن قرار كهذا سيعرض استقرار الإقليم بأسره للخطر، ويظل الخيار العسكري الذي يطالب به الكثيرون في مصر خيارا صعبا يحمل تبعات شديدة الخطورة والتعقيد، إلا أنه يظل مطروحا ولا يمكن استبعاده نهائيا من أجندة السيسي.
تهديد الإرهاب الداخلي والمعارضة
يمثل الإرهاب المتفاقم في سيناء أحد التحديات الرئيسة التي يواجهها السيسي، حيث أدت العليات الإرهابية في سيناء إلى انهيار صناعة السياحة وتدهور الوضع الاقتصادي والأمني. وتعتبر شمال سيناء مصدر النزيف الأساسي للجيش المصري ماديا وبشريا، حيث لا تتوقف العمليات الإرهابية التي تستهدف جنوده وضباطه. وعلى الرغم من أن هذه العمليات أصبحت أقل تواترًا مؤخرًا، واستطاع الجيش السيطرة بشكل كبير، إلا أن شمال سيناء تظل منطقة ملتهبة بطبيعتها. تنحسر شدته قليلاً فقط لتشتعل مرة أخرى. في الوقت الحالي، مع قرع طبول الحرب على طول الجبهة الليبية، اندلع الإرهاب مرة أخرى في سيناء، وهي إشارة تحذير واضحة للسيسي أنه قبل أن يفكر في التعبئة في الغرب، يجب أن يتذكر أن الشرق ليس آمنًا.
في الوقت الذي يواجه السيسي كل تلك الأزمات دفعة واحدة (الحرب في ليبيا - أزمة سد النهضة - الإرهاب في سيناء) يوجد تهديد في جبهته الداخلية لا يمكن إغفاله ممثلا في معارضي السيسي الأبرز "جماعة الإخوان المسلمين"، والذين أجبرتهم الضربات الأمنية على إيقاف نشاطهم، لكن يظل تواجدهم الأبرز على صفحات التواصل الاجتماعي، والذي يظهر في تأييدهم المعلن للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وسخريتهم الدائمة من الموقف المصري في ملف سد النهضة على قنواتهم الإعلامية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
هذا الوجود ليس له تأثير مباشر على الطريقة التي تتكشف بها الأحداث ويتم التعامل بها مع القضايا، لأنه يقع في النهاية خارج دوائر السلطة وصنع القرار. ومع ذلك، تظل جماعة الإخوان المسلمين قادرة على التأثير على الرأي العام، خاصة بين مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي. ويساهم في تعظيم ذلك الدور السيبيري لمعارضي السيسي الأبرز، تردي الوضع الاقتصادي في مصر اليوم وشكوى الطبقات الوسطى والدنيا الدائمة من تداعيات القرارات الاقتصادية الصعبة التي اتخذها النظام على حياتهم، بدأ من قرار تعويم الجنيه وما نجم عنه من تضاعف في الأسعار، مرورا برفع جزء كبير من الدعم والذي أضر منه قطاعات عدة في المجتمع، وانتهاء بقرار وقف البناء وفرض غرامات وإزالة على المباني المخالفة والتي استقر قاطنيها فيها لعقود.
خيارات السيسي
إزاء ذلك الموقف المعقد داخليا وخارجيا يصبح أمام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مسارين: المسار الأول: أن يأخذ خطوة للخلف ويعمل على تهدئة جبهته الداخلية، بإخراج بعض المعارضين من السجون، وفتح مساحات للحريات أكثر، وإيقاف برنامجه الاقتصادي لحين تجاوز أزماته الخارجية. أما المسار الثاني فهو أن يقرر الهروب للأمام، فيحكم قبضته الأمنية أكثر، ويستمر في برنامجه الاقتصادي غير عابئ بالأصوات المناوئة له، في نفس الوقت الذي يخوض فيه معاركه الخارجية.
والأرجح أن السيسي سيأخذ المسار الثاني ويقرر المضي قدما في طريقه، دون تقديم أي تنازلات لـ معارضيه، سواء على الصعيد السياسي أو في مجال الحريات، كما أنه لن يوقف برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي انتهجه، بالعكس سيتحرك أكثر صوب ما يراه تصحيح لمسارات قديمة خاطئة، وعلاج جذري لمشاكل تاريخية.
ومنطق السيسي هو أنه بمجرد البدء في تقديم التنازلات سيبدأ خصومك في الشعور بقوتهم ويطمعون فيك أكثر ساعين لمزيد من المكاسب، وينتهي الوضع بموقف أشبه بثورة يناير 2011 التي كادت تدمر الدولة المصرية على حد تعبيره. ويعتمد السيسي في قراره هذا على إحكام قبضة أجهزته الأمنية على الأمور، وهو منطق أمني بالأساس إلا أن له وجاهته، مشكلته الوحيدة أن ذلك الخيار يعني قرار بخوض جميع المعارك مره واحده، وهي مقامره شديده الخطورة، تصنع أسطورة أو تقود لنهاية نظام.