- تحليل السياسات
- صفحات رأي ومقالات
تخطي التحدي الأمني بين الإسرائيليين والفلسطينيين ممكن إنما يتطلب تفكيراً غير تقليدي
مرَّ أكثر من عشرين عاماً منذ أن أطلقت إسرائيل والفلسطينيين عملية أوسلو سعياً إلى تحقيق حلٍّ دائم قائم على دولتين، وفاضت التقارير التي كُتبت في محاولةٍ لفهم سبب فشل هذه العملية. إلا أن الحقيقة الواضحة بالنسبة لي هي أنه هناك ثغرات فعلية بين الطرفين حول كافة القضايا الجوهرية، فلا تصدّقوا أولئك الذين يقولون لكم بأن الطرفين "أوشكا على التقارب" ذات مرة.
وحول القضايا الجوهرية، عادة ما اتسمت قضية الأمن والأراضي كـ 'قضية عملية' يسهل حلّها أكثر من "القضايا السردية". وفي الواقع، بما أن هذه المواضيع الأخيرة، مثل القدس، واللاجئين والاعتراف المتبادل تتطرق إلى الهوية الأساسية والجوهرية لكلا الطرفين، فقد أصبح من الصعب للغاية التوافق حولها. ومع ذلك، لايزال الطرفان بحاجة إلى التوصل إلى اتفاق حول 'القضايا العملية'، التي تنطوي أيضاً على مقدار هائل من الاعتبارات النفسية والتصورات الخاصة.
وتَعتبْر إسرائيل أن المسألة الأمنية ذات أهمية قصوى لأن البلاد تعاني من ضعف كبير على الرغم من قوتها العسكرية، بسبب افتقارها إلى العمق الاستراتيجي ومواردها المحدودة وموقعها في بيئة معادية. وما يزيد من حساسية الموضوع الأمني هو فكرة الانسحاب الكامل من الضفة الغربية لأن خطوط عام 1967 التي يعتبرها الفلسطينيون خط الأساس لأي اتفاق لا تترك لإسرائيل على طول سهلها الساحلي سوى مسار ضيق بشكل خطير، يبلغ عرضه أقل من 15 كلم في أضيق مواقعه، وتشرف عليه تلال الضفة الغربية. إلا أن هذه المساحة الضيقة تضم المدن الإسرائيلية الكبرى ونحو 80 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد و70 في المائة من سكانها فضلاً عن بنيتها التحتية الرئيسية ومطارها الدولي الوحيد.
ومن وجهة نظر إسرائيل، فإن مفهوم التهديد يتوخى التهديدات التي يمكن عن تنشأ عن قيام دولة فلسطينية في المستقبل (مثل سيطرة الإسلاميين)، والتحديات الإقليمية، والتهديدات المشتركة الناشئة عن هذين الشقّين. وتقلق إسرائيل إلى حد كبير من التغيرات الهائلة التي قد تطرأ على المشهد الاستراتيجي في المنطقة، لا سيما وأنها سبق وأن حدثت أكثر من مرة وخصوصاً في السنوات الأخيرة. فليس هناك أي محلل قد تنبّأ بدقة اندلاع "الربيع العربي" عام 2011 أو ظهور تنظيم «الدولة الإسلامية»، ومن المؤكد أن أحداً لا يعرف ما سيكون عليه الوضع بعد عشرين عاماً. وصحيحٌ أن أياً من هذه السيناريوهات لا يبرر عدم السعي إلى التوصل الى اتفاق - بل على العكس - هو يشكل سبباً كافياً للتمعّن في الترتيبات الأمنية.
ولهذا السبب تبحث إسرائيل عن ترتيبات وقائية تعوّض لها عن التنازلات التي يتطلبها حل الدولتين وتتيح لها حماية أمنها القومي الدقيق إذا ما ساءت الأمور. إلا أن هذا الموقف يتضارب بطبيعته مع الرغبة الفلسطينية بالسيادة والاستقلال والكرامة.
وللتصدي لتصورات التهديد كما تراها إسرائيل، قامت البلاد بتطوير مفهوم أمني شامل لحل الدولتين وعمدت إلى طرحه مراراً وتكراراً، ويقوم على ثلاث ركائز متكاملة: أولاً، تسعى إسرائيل إلى [التوصل إلى] تعديلات إقليمية لحدود عام 1967 وذلك لرسم حدود أكثر أماناً وسهلة للدفاع عنها، وبالدرجة الأولى عبر ضمّ الكتل الاستيطانية الكبرى (كجزء من تبادل الأراضي) إلى خطوط عام 1967 لتعزيز عمق البلاد بشكل متواضع.
ثانياً، ترغب إسرائيل في إنشاء "عمق استراتيجي مشروط" من خلال مجموعة من الترتيبات الأمنية غير الإقليمية، أبرزها نزع السلاح عن الدولة الفلسطينية.
ثالثاً، تسعى إسرائيل إلى إقامة نظام أمني خاص على ضفّتَي نهر الأردن، يشمل نشر جنودها على نطاق محدود بل فعال لفترة زمنية متفق عليها. ومن شأن هذا النظام أن يقوم بالتحقق من نزع السلاح، ويكون بمثابة عامل رادع، ويعمل كخيط التفعيل ضد التهديدات العسكرية، ويوفّر الإنذار المبكر، ويتعامل مع التهديدات الإرهابية اليومية. وقد كان رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين هو مَن أعلن أن وادي الأردن يشكل الحدود الأمنية الشرقية لإسرائيل - ولكن ليس بالضرورة الحدود السياسية للبلاد، وذلك بسبب افتقار إسرائيل إلى العمق الاستراتيجي. ويستند هذا الموقف إلى المخاوف الإسرائيلية العميقة المتعلقة باستقرار الأردن على المدى الطويل (الذي هو مصلحة استراتيجية إسرائيلية كبرى)، ووجود دول معادية، أو تهديدات ترعاها بعض الدول أو تهديدات جهادية إلى جهة الشرق.
وخلال مفاوضات السلام، قدّم الأمريكيون عدة اقتراحات تكنولوجية وعملياتية مهمة حول نظام الحدود، التي من شأنها أن تجعل من الصعب عبور الأشخاص دون التعرف عليهم وإيقافهم. ومع ذلك، لم تكن إسرائيل أقل تركيزاً على البعد الاستراتيجي. فحتى النظام الحدودي الذي يعمل بشكل مثالي لا يمكنه التصدي لسيناريو تصبح فيه الدولة الفلسطينية تحت سيطرة «حماس» أو يفقد فيه الأردن استقراره على أيدي الجهاديين. وقد أعلنت إسرائيل بوضوح أنها لن تجازف بأمنها القومي إذا ما تحقق إحدى هذه السيناريوهات وتحوّل إلى حالات طوارئ فعلية تُهمِّش النظام الحدودي. وفي مثل هذه الحالة، قد تضطر إلى إرسال جنودها إلى الأراضي الفلسطينية من أجل استباق أي تهديدات ناشئة أو الرد عليها.
وفي تاريخ المفاوضات الإسرائيلية - الفلسطينية لم يعرف أياً من هذه القضايا حلاً كاملاً، على الرغم من التوافق على مبادئ تعديل الحدود ونزع السلاح. ويبقى واقعٌ واحد وراء الثغرات، من بين أمور أخرى، وهو أنه بينما تنظر إسرائيل إلى أمنها في السياق الإقليمي الواسع، ينظر الفلسطينيون إلى البعد الأمني من منظار ثنائي بحت.
وهذا لا يعني أنه لا توجد حلول. فتخطي التحدي الأمني أمراً ممكناً، إلا أنه يتطلب تفكيراً غير تقليدي، ومشاركة مصرية وأردنية أعمق في الترتيبات الأمنية في غزة والضفة الغربية على التوالي، وربما هيكل أمني إقليمي أوسع.
العميد (المتقاعد) مايكل هيرتسوغ، هو ضابط احتياط في "جيش الجفاع الإسرائيلي"، وزميل زائر في "بايكوم" وزميل "ميلتون فاين" الدولي في معهد واشنطن. وقد شارك تقريباً في جميع المفاوضات التي جرت بين إسرائيل والفلسطينيين منذ عام 1993.
"هافينغتون بوست"