- تحليل السياسات
- المرصد السياسي 3834
تنظيم "الدولة الإسلامية" يضرب تركيا بعد سنوات من التخطيط
يؤمل أن يكون الهجوم الأخير مجرد استثناء في سجل أنقرة القوي في إحباط المؤامرات الإرهابية داخل البلاد، ولكن يجب على صانعي السياسات أن يظلوا يقظين نظراً لأن تنظيم "الدولة الإسلامية" أثبت قدرته على الإفلات من الجهود الرامية للقضاء عليه.
في 28 كانون الثاني/يناير، هاجم مسلحان من تنظيم "الدولة الإسلامية" "كنيسة سانتا ماريا" الرومانية الكاثوليكية في اسطنبول، مما أدى إلى مقتل شخص وإصابة آخر. وكانت هذه أول عملية ينجح التنظيم في تنفيذها في تركيا منذ الأول من كانون الثاني/يناير 2017، عندما قُتل ثلاثةٌ وتسعون شخصاً وأُصيب تسعةٌ وسبعون آخرون بجراح في إطلاق نار في ملهى "رينا" الليلي. وكان يمكن أن تكون حصيلة ضحايا الهجوم على الكنيسة أكبر بكثير لو لم تتعطل أسلحة الجناة، مما حال دون وقوع مأساة أكبر.
لقد فصلت فترةٌ طويلة نسبياً بين هجومَي "الدولة الإسلامية" المذكورين، لكن هذا لا يعني أن التنظيم ظل مكتوف الأيدي خلال تلك الفترة. فقد حاولت شبكات العمليات الخارجية التابعة للتنظيم في سوريا وأفغانستان أن تشن هجماتٍ على تركيا خلال السنوات السبع الماضية، ولكنها فشلت. كما تمكنت السلطات التركية من إحباط العديد من المؤامرات الداخلية. وبالفعل، يكشف حجم هذه المخططات عن قدرة أنقرة على إحباط مساعي التنظيم الرامية إلى تقويض الأمن في تركيا.
نشاط تنظيم "الدولة الإسلامية"، مقابل الإنفاذ التركي
بين آذار/مارس 2014 وكانون الثاني/يناير 2017، نفّذ تنظيم "الدولة الإسلامية" عشرين هجوماً داخل تركيا أودى بحياة 308 أشخاص وأصاب 1167 آخرين. ورداً على ذلك، تصدت السلطات المحلية بحزم على نشاط التنظيم طوال سنوات، حيث نفّذت ما لا يقل عن 7726 عمليةً أمنيةً ضد تنظيم "الدولة الإسلامية" بين عامي 2014 و2023. كما قامت بترحيل أكثر من 9 آلاف أجنبي من 102 دولة منذ عام 2011، بتهمة الارتباط بتنظيم "الدولة الإسلامية" والإقامة في تركيا بشكل غير قانوني.
إلا أن جهود الإنفاذ هذه واجهت تحدياتٍ كبيرة بين عامي 2012 و2015، مع تدفق آلاف المقاتلين الأجانب من سوريا وإليها، وعجزت أنقرة عن وقف تسلل الجهاديين عبر حدودها. ومع ذلك، فحالما بنت تركيا جداراً حدودياً ضخماً وحصلت على معلومات استخباراتية حول هؤلاء الأفراد من حكومات أخرى، فعندئذ تمكنت من التعامل مع هذا التدفق بفعاليةٍ أكبر. وبين عامي 2016 و2023، احتجزت السلطات التركية 19945 شخصاً واعتقلت 5507 آخرين.
ويبرز الفرق جلياً بين الاحتجازات والاعتقالات، حيث تستند عمليات الاحتجاز إلى البيانات الاستخباراتية، لكنها قد لا ترقى إلى المستوى القانوني المطلوب للمحاكمة وفقاً للنظام التركي، مما يؤدي إلى الإفراج عن المشتبه بهم بعد فترةٍ وجيزة. أما الاعتقالات فتتم عندما تُعتَبر الأدلة كافيةً للملاحقة القضائية، ويُحاكَم الأفراد المعنيون في النهاية. وقد تبدو عمليات الاحتجاز وكأنها إجراء طفيف في بعض الأحيان، إلا أنها تسمح للسلطات بجمع البيانات البيومترية وبناء فهمٍ أفضل للشبكات الجهادية، مما يعزز بدوره التحقيقات الاستخباراتية المستقبلية. ومن دون اللجوء إلى هذا التكتيك، من غير المؤكد ما إذا كان بإمكان تركيا منع هذا العدد الكبير من الهجمات الإرهابية خلال السنوات السبع الماضية.
ظهور "ولاية تركيا"
رغم أن مقاتلي تنظيم "الدولة الإسلامية" يخططون للهجمات وينفذونها في تركيا منذ عام 2014، إلّا أن التنظيم لم يعلن عن وجود "ولاية تركيا" التابعة له إلا في شهر نيسان/أبريل 2019. وجاء هذا الإعلان في مقطع فيديو ظهر فيه قائد "الدولة الإسلامية" آنذاك أبو بكر البغدادي وهو يستلم تقارير من "ولايات" التنظيم المختلفة حول العالم. ومن بين الملفات التي تسلّمها كان ملف وارد من "ولاية تركيا" التي لم تكن معروفة سابقاً.
لم ترد تقارير تُذكر عن هذا الفرع من التنظيم غير الظهور المذكور في شريط الفيديو، إلى أن أَعلن مسؤوليته عن الهجوم الأخير. ففي الموجات السابقة من الهجمات التي نفّذها تنظيم "الدولة الإسلامية" في تركيا، كان ينسب المسؤولية إلى "تركيا" بشكلٍ عام من دون ذكر وجود ولاية محددة له، تماماً كما يفعل في سياق الاعتداءات المنفذة في الدول الغربية التي ليس له "ولايات" فيها. ولا يُعرف عن وجود سوى مقطع فيديو واحد آخر عن "ولاية تركيا" يعود إلى تموز/يوليو 2019، حيث صدر الفيديو كجزء من سلسلة تظهر قادة مختلف الولايات وهم يجددون بيعتهم للبغدادي بعد أن خسر التنظيم آخر أراضيه في سوريا. وفي مقطع "ولاية تركيا"، ظهر عنصر يُدعى أبو قتادة التركي محاطاً بشخصين آخرين من التنظيم، في مشهد مزين ببنادق كلاشنكوف وقاذفات صواريخ وقنابل يدوية وعلم "الدولة الإسلامية". وتضمن خطابه تهديداً مباشراً للرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال فيه: "لا تظن أن سيوف جنود الخلافة بعيدة عنك وعمّن في معسكرك". ولكن ذلك كان آخر ظهور علني معروف للفرع قبل هجوم هذا الأسبوع.
ومن الملفت أن أنقرة أعلنت في 10 أيار/مايو 2023 عن اعتقال زعيم "ولاية تركيا" شهاب فاريس، متهمةً إياه بالتورط في مؤامرات داخلية متعددة. وأشار الإعلان إلى أن الفرع كان يعمل في السر، ولو أنه لم ينفذ أي أنشطة دعائية. وهكذا نجحت الولاية المذكورة بالاختراق بشنها هجومٍ ناجحٍ بعد إحباطاتٍ متكررة على يد السلطات التركية. ويبقى السؤال ما إذا كان هذا الحدث مجرد استثناء أم مؤشراً على نمطٍ قادم (انظر القسم التالي).
وحمل البيان الذي أعلن فيه التنظيم مسؤوليته عن الهجوم الأخير إشاراتٍ مفيدة أيضاً. فقد ذكر أن المسلحين استهدفوا الكنيسة رداً على رسالة صوتية ألقاها المتحدث الرسمي باسم تنظيم "الدولة الإسلامية" أبو حذيفة الأنصاري في 4 كانون الثاني/يناير دعا فيها إلى شن هجمات ضد اليهود والمسيحيين في جميع أنحاء العالم بأي وسيلةٍ ممكنة و"دون التمييز بين الكافرين المدنيين والعسكريين".
صلة محتملة بـ "ولاية خراسان"؟
بعد أن تم القبض على منفذَي الهجوم على الكنيسة في إسطنبول، كشفت أنقرة أنهما من أصولٍ طاجيكية وروسية، مما أثار تساؤلات حول احتمال ارتباطهما بتنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان"، وهي شبكة العمليات الخارجية الرئيسية للتنظيم حالياً ومقرها في أفغانستان. ورغم عدم إعلان وزارة الداخلية عن أيّ صلة مؤكدة بهذه الولاية حتى الآن، إلا أن السلطات التركية أحبطت عدة مخططات مرتبطة بتنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان" خلال العام الماضي، وكانت غالبية الأجانب الذين تم القبض عليهم في تلك المداهمات من الجنسية الطاجيكية (ثلاثون محتجزاً، وواحد وعشرون معتقلاً) أو الروسية (ستة محتجزين وثلاثة معتقلين). وعلى وجه الخصوص، تم تفكيك مؤامرة مرتبطة بتنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان" كانت تستهدف كنائس ومعابد يهودية في تركيا في أواخر كانون الأول/ديسمبر الماضي، مما يشير إلى احتمال أن يكون هجوم هذا الأسبوع جزءاً من مخططٍ أوسع نطاقاً لشبكةٍ إرهابيةٍ أكبر.
علاوةً على ذلك، ليست تركيا الدولة الوحيدة التي تتهم عناصر من الجنسية الطاجيكية بالتورط في الأنشطة الأخيرة لتنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان":
- في نيسان/أبريل 2020، ألقت السلطات الألمانية القبض على خليةٍ هجومية يقودها أحد عناصر تنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان" من الجنسية الطاجيكية.
- في تشرين الأول/أكتوبر 2022، دعمت عناصر من الجنسية الطاجيكية هجوماً لتنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان" على ضريح شاه جراغ في مدينة شيراز الإيرانية.
- في كانون الثاني/يناير 2023، أحبطت إيران مؤامرةً إرهابيةً أخرى تورط فيها عنصران طاجيكيان تابعان لتنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان".
- في شباط/فبراير 2023، ألقت السلطات التركية القبض على عبدالمصير غولبوييف (المعروف أيضاً باسم محمود الطاجيكي)، الرئيس الطاجيكي المزعوم لقسم بلاد ما وراء النهر التابع لتنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان".
- في حزيران/يونيو 2023، ألقت السلطات التركية القبض على المواطن الطاجيكي شامل حكمتوف (المعروف أيضاً باسم أبو مسكين) بتهمة تجنيد أشخاص للقتال في صفوف تنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان" في أفغانستان.
- في آب/أغسطس 2023، شارك عناصر طاجيكيون في هجوم آخر على ضريح شاه جراغ في إيران تبنّاه تنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان".
- في كانون الأول/ديسمبر 2023، أحبطت النمسا وألمانيا عمليةً خططت لها شبكة تابعة لتنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان" لاستهداف كنائسٍ، وضمت الخلية عنصرين طاجيكيين على الأقل.
- في كانون الثاني/يناير 2024، شارك مهاجم طاجيكي في تفجير نفّذه تنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان" في مدينة كرمان الإيرانية.
وبعيداً عن الروابط العملياتية المحتملة، فإن الذراع الدعائي لتنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان"، مؤسسة "العزائم" الإعلامية ومجلتها متعددة اللغات "خراسان غاغ" ("صوت خراسان")، يستهدفان تركيا منذ سنوات. وتعود جذور الكثير من العدائية التي أبداها تنظيم "الدولة الإسلامية - ولاية خراسان" في التعاون الدبلوماسي الأخير بين أنقرة وحركة "طالبان". وقد هاجم تنظيم "الدولة الإسلامية" أيضاً تركيا في السابق بسبب دستور البلاد العلماني، والديمقراطية، والعلاقات الغربية، والتعاون مع "البشمركة" الكردية في شمال العراق، من بين "خيانات" أخرى مفترضة للقضية الجهادية.
المرحلة القادمة
لا شك في أن تنظيم "الدولة الإسلامية" سيواصل التخطيط لعملياتٍ داخل تركيا في المستقبل المنظور. ومع ذلك، إذا تمكنت السلطات من مواصلة تفكيك هذه المؤامرات، فإن الهجوم على الكنيسة هذا الأسبوع - على الرغم من مأساويته - قد يتم تذكّره باعتباره استثناءً ضمن حملةٍ تركيةٍ ناجحةٍ ضد التنظيم. ويبدو أن أنقرة تسيطر بإحكامٍ على هذا التهديد، حتى لو كان نطاق الاحتجازات والاعتقالات التي تنفذها واسعٌ إلى حدٍ ما - وهو على الأرجح تأثير متبقي من الحشد غير المسبوق للمقاتلين المحليين والأجانب في العراق وسوريا في العقد الماضي.
ومع ذلك، لا يزال بإمكان الولايات المتحدة أن تقدم المساعدة في هذا الصدد من خلال توفيرها أي معلومات استخباراتية خارجية مهمة. كما عليها النظر في الضغط على الدول الأجنبية لإعادة مواطنيها المتهمين بجرائم مرتبطة بتنظيم "الدولة الإسلامية" ليمتثلوا أمام القضاء في بلادهم بدلاً من البقاء في مراكز الاحتجاز التركية. وفي حين أن هذه الخطوات ستحمل فوائد عديدة لجميع الأطراف، إلا أنها لا تبدو قضية طارئةٌ بالنسبة لأنقرة أيضاً. فعلى عكس "قوات سوريا الديمقراطية" - التي تتعرض مرافق الاحتجاز التابعة لها في شمال شرق سوريا لتهديد مستمر من هجوم تنظيم "الدولة الإسلامية" وسط تساؤلات متزايدة حول المستقبل السياسي للمنطقة - فإن تركيا دولة قوية وقادرة على التعامل مع معظم التحديات المرتبطة بمكافحة الإرهاب بصرف النظر عن وجود أمريكا في المنطقة أو انسحابها منها. وفي الوقت نفسه، يجب أن يكون الهجوم على الكنيسة بمثابة تذكيرٍ قوي لواشنطن، لأن تنظيم "الدولة الإسلامية" سيواصل حربه ضد الغرب بصرف النظر عن رغبة هذا الأخير في الانتهاء من حربه على التنظيم.
هارون ي. زيلين هو "زميل ليفي" في معهد واشنطن ومنشئ "خريطة النشاط التفاعلية لتنظيم «الدولة الإسلامية» في جميع أنحاء العالم".