"في 7 شباط/فبراير، استضاف معهد واشنطن عرض مسبق لفيلم "تركيا: شريك في أزمة"، وهي حلقة من الموسم الأخير لـ المسلسل التلفزيوني "القرارات الكبرى" ("غريت ديسيجنز"). وتحدث اثنان من منتجي العرض، هما ديفيد هايدلبرغر وماكدارا كينغ، إلى الحضور بعد العرض، إلى جانب ليزيل هينتز، أستاذة مساعدة في "كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكنز"، وسونر چاغاپتاي، زميل "باير فاميلي" في المعهد. وفيما يلي موجز المقرر لملاحظاتهم".
ديفيد هايدلبرغر وماكدارا كينغ
استخدمت حلقة "غريت ديسيجنز" دليلاً مقتضباً واقعياً لشرح سبب تحول جمهورية تركيا الحديثة إلى شكلها الحالي. فبدءاً بإرث مصطفى كمال أتاتورك الذي اتسم بانقلاب، يتعقب البرنامج صعود «حزب العدالة والتنمية» إلى السلطة السياسية في عام 2002، والعلاقة بين الحزب وأتباع "حركة غولن"، والحكم الاستبدادي المتنامي الذي مارسه الرئيس رجب طيب أردوغان منذ عام 2007.
ويُعتبر نموذج برنامج "غريت ديسيجنز" الشامل الذي يركّز على السياسة الخارجية مثالياً لتغطية شؤون تركيا لأن التطورات التي شهدتها البلاد مؤخراً معقدة للغاية بحيث يتعذّر شرحها بشكل مناسب في نشرة أخبار موجزة. فقد كان من المفيد بشكل خاص رؤية كيفية تفاعل الأتراك مع الانقلاب الفاشل عام 2016، ومقارنة ذلك بعمل وسائل الإعلام الأمريكية الذي هو أقل من المعدل المثالي في تغطية مدى دموية محاولة الاستيلاء على الحكم.
ولرأب هذا الصدع على صعيد التغطية الإعلامية، سافر طاقم عمل الحلقة إلى تركيا وأجرى مقابلات مكثفة مع حوالي 100 شخص؛ كما حضر الذكرى السنوية الأولى للانقلاب التي أحيتها أنقرة. ولسوء الحظ، لم يتمكن أعضاء الفريق من إجراء مقابلة مع ممثلين عن المتهم بالتخطيط للانقلاب فتح الله غولن، على الرغم من أن المسؤولين الحكوميين الأتراك كانوا يتوقون إلى التعبير عن وجهة نظرهم بشأن هذه المسألة.
ليزيل هينتز
في الذكرى الأولى للانقلاب، اجتمع مواطنون أتراك أمام مبنى البرلمان عند تقاطع جادتي إينونو وأتاتورك، اللتين سُميّتا على إسم زعيمين سابقين لم يكونا ليسرّان بحشد من الناس يهتف شعارات إسلامية. "فالإسلام العثماني" كهوية وطنية آخذ في الازدياد في تركيا، ويقوم على كون المواطنين مسلمين أتقياء وعلى تصرّف بلادهم كزعيمة للعالم الإسلامي. وهذه هوية تختلف كلّ الاختلاف عن تلك التي دعمها أتاتورك وإينونو.
وقد استغل أردوغان فترة ما بعد الانقلاب لزج عناصر المجتمع المدني الذين عارضوه في السجن. ومن وجهة نظر تركيا، تُعتبر «وحدات حماية الشعب» الكردية السورية تهديداً أمنياً واضحاً يرتبط بـ «حزب العمال الكردستاني»، لكن حالياً يتمّ اعتقال مواطنين عاديين - من صحفيين وأطباء ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وغيرهم - فقط لأنهم انتقدوا الحملة التي شنها أردوغان ضد «وحدات حماية الشعب» في سوريا.
أما السلطة القضائية فقد شهدت هي الأخرى أيضاً حملة تطهير واسعة منذ الانقلاب، لأنها كانت إحدى المؤسسات التي نجحت "حركة غولن" في اختراقها. ونظراً إلى أن أتباع الحركة كانوا القوة الفكرية الرئيسية المحركة لـ «حزب العدالة والتنمية»، فقد أصبح العديد من مؤيدي الحزب غير المؤهلين تأهيلاً كافياً يشغلون العديد من المناصب الهامة. ونتيجةً لذلك، تضاءلت كفاءة القضاء ولم يعد كياناً مستقلاً؛ فأردوغان يتولى زمام الأمور. كما تمّت تنحية العديد من رؤساء البلديات الأتراك خلال حملة القمع التي أعقبت الانقلاب.
من ناحية أخرى، واجهت علاقات تركيا مع ألمانيا وهولندا صعوبات كبيرة، حيث طالبتهما أنقرة مراراً وتكراراً بتسليم أفراد يُشتبه بانتمائهم إلى "حركة غولن". وفي الولايات المتحدة، قامت هذه الحركة بعمل مذهل في بناء الشبكات من خلال تصوير نفسها على أنها حركة اجتماعية مدنية مسكونية ناجحة. وهذا يجعل من الصعب على الكثير من الأمريكيين قبول واقع أن أتباع "حركة غولن" كانوا شركاء في محاكمات إرغينيكون في تركيا، التي سعت إلى إضعاف القوات العسكرية وغيرها من الفصائل العلمانية المتحمّسة.
كما مارست أنقرة ضغوطاً على واشنطن في عدد من الأمور، مثل إنهاء محاكمة رضا ضراب ومسؤولين تنفيذيين من "بنك هالك" بتهم التهرب من العقوبات الإيرانية، ووقف التعاون مع «وحدات حماية الشعب» في سوريا، وتسليم غولن، والحفاظ على التعاون العسكري الثنائي. فأردوغان يريد ضمان فوزه وحلفائه في الانتخابات البلدية والنيابية والرئاسية المقبلة في تركيا، لذلك غالباً ما يستخدم الولايات المتحدة كهدف قومي لتصويب سهامه من أجل تعزيز شعبيته. وتتمثل المعضلة أمام واشنطن في كيفية تجنب الخطوات التي تلحق الضرر بالشعب التركي من دون تأجيج خطاب أردوغان القومي.
أما بالنسبة لروسيا، فلن تقيم تركيا تحالفاً طويل الأمد مع موسكو. فأنقرة على خلاف مع الكرملين حول العديد من القضايا.
سونر چاغاپتاي
إن واقع تحدُّث الجماعات الهامشية في الولايات المتحدة وتركيا حتى عن خروج أنقرة من حلف "الناتو" أمر يثير القلق. وعلى الرغم من أن مسار تركيا هو الابتعاد عن الولايات المتحدة، إلّا أنّ صداقتهما القائمة منذ 60 عاماً يجب أن تساعد على الإبقاء على هذه العلاقة وإحيائها.
وقد أحسنت حلقة "غريت ديسيجنز" في إظهار أن تركيا أصبحت أكثر استبداداً مما كانت عليه قبل محاولة الانقلاب. ومن هذا المنطلق، يبدو أردوغان كطاهي كباب - حيث كان يقطع على مر السنين شرائح رفيعة للغاية من ديمقراطية تركيا، بشكل تدريجي وبدقة عالية لدرجة أن معظم الناس لم يلاحظوا أنه كان يقوّض وجودها ذاته. لكنه وضع جانباً كل مظاهر النهج المتدرج منذ الانقلاب. وبإدراكه أن أتباع "حركة غولن" وغيرهم من الأعداء اللدودين له يقفون في المرصاد، أصبح مستبداً في مساعيه لإلغاء الديمقراطية، بحيث لم يعد مهتماً بما يفكّر فيه العالم الخارجي.
كما أحسن الفيلم الوثائقي في تفسير صعود أردوغان إلى السلطة من الهوامش السياسية. فقد كانت الحركة الإسلامية المعارضة تُعتبر في السابق قوة هامشية في السياسة التركية، ولكن بفضله فازت في الانتخابات وسيطرت على مركز الخطاب السياسي. وانهارت أحزاب اليمين-الوسط التي هيمنت على تركيا بين 1950 و2002 بالتزامن مع صعود «حزب العدالة والتنمية» برئاسة أردوغان. يُذكر أن الإسلاميون السياسيون ورثوا عقداً من سوء الإدارة الاقتصادية والفساد في تسعينيات القرن الماضي، توّجته الأزمة الاقتصادية في عام 2001 التي هي الأسوأ في التاريخ التركي الحديث.
وفضلاً عن معالجة المشاكل الاقتصادية السيئة، نجح «حزب العدالة والتنمية» لأنه أصبح معتدلاً بعض الشئ. فمنذ السبعينيات ولغاية التسعينيات، كان أردوغان عضواً في الفصائل الإسلامية المتعاقبة التي حلّتها المحاكم لمخالفتها الدستور العلماني للبلاد. وبغية تجنّب حظر آخر، رفض الحزب رسمياً الإسلام السياسي، وأصبح موالياً للغرب ورأسمالياً. وقد ساعد ذلك الإسلاميين على السيطرة على اليمين-الوسط والترويج لنفسهم كقوة سياسية سائدة.
أما أوروبا فقد لعبت أيضاً دوراً في صعود «حزب العدالة والتنمية»، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر. صحيح أن الاتحاد الأوروبي كان محقاً في مطالبته بعدم تدخل الجيش التركي في السياسة، لكنه أساء الاعتقاد بأن الحزب - وهو حركة ذات أسلاف متجذرين غير ليبراليين في الإسلام السياسي - سيعزز الديمقراطية الليبرالية. كان الأجدر بالاتحاد الأوروبي إبقاء عرض الانضمام إلى الاتحاد مطروحاً بدلاً من التراجع بعد أن أخرج أردوغان الجيش من السياسة؛ وربما كانت هذه الخطوة لتسمح للأوروبيين بأن يصبحوا المحكمين الكبار الجدد للديمقراطية في تركيا.
وكان من شأن تظاهرات "منتزه غيزي" في اسطنبول عام 2013 أن تكون بمثابة جرس إنذار لكل من أوروبا وواشنطن بشأن مسار تركيا غير الليبرالي، نظراً إلى أن أردوغان كان يعامل المتظاهرين السلميين بوحشية - وهم أولئك المحتجين الذين أرادوا إعادة فتح الطريق نحو الاتحاد الأوروبي. وشكّل الانقلاب بعد 3 سنوات مسعى حقيقاً ولو شائباً لعكس ذلك المسار. فالعديد من المواطنين الذين يظهرون حباً غير مشروط لأردوغان خرجوا خلال عملية إراقة الدماء لمساعدته على استعادة السلطة، مضحين بحياتهم في خضم ذلك. ومن ثمّ، تمكّن من جعل تركيا حتى أقل ديمقراطية - على الرغم من أن البلاد كانت ستكون أسوأ بكثير لو نجح الانقلاب.
وفيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فإن أردوغان لا ينضوي تحت جناح روسيا، على الرغم من الخوف المحلي الواسع النطاق من نوايا موسكو. كما أن قصة صعود الإمبراطورية الروسية هي أيضاً قصة انهيار الإمبراطورية العثمانية - فروسيا هي عدو تاريخي لتركيا شنّت العديد من حروب ضد الأتراك وهزمتهم في كل مرة. ومن أجل تجنّب درء التهديدات، من المرجّح أن يواصل أردوغان الاعتماد على القوة العاتية للولايات المتحدة، علماً بأنه سعى سابقاً إلى جعل تركيا لاعباً أساسياً في الشرق الأوسط من خلال أساليب القوة العاتية والقوة الناعمة. وعلى الرغم من تعثّره في كل مرة، قد يستمر في سعيه إلى إكساب تركيا صفة "القوة العظمى".
أعد هذا الملخص إغيكان آلان فاي.