- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تركيا: تأرجُح أخرق بين الولايات المتحدة وروسيا
يوفر التطلع الى سجل تركيا الحافل في الاستجابة للأزمات الدبلوماسية، نظرة ثاقبة حول موقفها المحتمل تجاه الغزو الروسي لأوكرانيا.
مع اشتداد التصعيد بين الولايات المتحدة وروسيا بعد الغزو الشامل الذي نفّذته روسيا في أوكرانيا وما تَبِعَه من عقوبات أمريكية وأوروبية قاسية، أشار المحللون إلى سيناريوهَين محتملَين لمسار العمل الذي قد تتّبعه تركيا. ويصوّر أحدهما روسيا كعدو مشترك "يمكن أن يحوّل [تركيا] إلى الحليف المفترَض". فرغم كل شيء، طالما كان التهديد الروسي محفّزًا قويًا لإضفاء الطابع الغربي على تركيا.
ونظرًا إلى العلاقات التي بدأت تزدهر بين تركيا وروسيا، تعتبر وجهة النظر الأخرى أن الاحتمال الأكبر هو أن تظلّ تركيا على الحياد في ما يخص هذا النزاع المحدد. فمقابل شكوكها المتنامية بشأن علاقاتها مع الولايات المتحدة و"الاتحاد الأوروبي"، تطورت العلاقات المباشرة بين تركيا وروسيا بانتظام في خلال العقد الماضي رغم كل النزاعات الجيوسياسية بينهما. وما يزيد الوضع سوءًا هو أن نزعة أنقرة التوسعية القومية والمضادة للغرب التي تحاكي الحنين إلى الإمبريالية تساعد القوميين الأتراك في التعاطف مع روسيا.
رغم أن كلا التصورَين يستحقان التقدير، يبدو أن الحل الوسط يشكل منطقيًا التقييم الأفضل للطريقة المحتملة التي قد تعتمدها تركيا وأردوغان في التحكم بالعلاقات خلال فترة النزاع. فلا تستطيع أعمال روسيا في أوكرانيا أن تعود إلى الوراء بشكلٍ سحري بروح الحرب الباردة بين واشنطن وأنقرة. إلا أن أداء أردوغان في الأزمات الإقليمية السابقة يدلّ على أنه لا يُجيد البقاء على الحياد والتعامل مع الطرفين. وبدلًا من ذلك، تميل أنقرة إلى اتخاذ قرارات جذرية ومنعطفات حادة في الأوقات الحرجة – ولو كانت لديها قدرات ومصالح مادية في اتباع سياسة أكثر توازنًا. وفي هذا الصدد، لا يُستَبعدُ تمامًا أن تتخذ تركيا موقفًا أكثر تشددًا تجاه روسيا، لا سيما إذا استمر التصعيد بين روسيا والولايات المتحدة. ومع ذلك، يصعب أن يعيد ذلك إنعاش التحالف التركي-الأمريكي على المدى الطويل.
نفاد الصبر التركي
إن قواعد اللعبة التي اعتادت أنقرة اتباعها في بداية كل أزمة إقليمية تقريبًا في خلال العقد الماضي هي تقديم نفسها كجهة حيادية أو وسيط عادل بين الطرفين. لكن مع تصعيد الأزمة وتشكُّل الكتل، لم يسبق لصانعي القرار الأتراك أن حافظوا على ضبط موقفهم إلا في حالات نادرة.
وتُشكّل مناورات أردوغان في خلال تظاهرات الربيع العربي خير مثالٍ يدل على نفاد صبر الأتراك وانتهازيتهم. فرغم اتباع سياسة متوازنة في الثورة التونسية، جازف أردوغان كثيرًا حين دعا الزعيم المصري حسني مبارك إلى التنحي. وكان أردوغان الزعيم الأول الذي يوجه هذا النداء، مع أن هذا القرار أتى بعد أن أظهرت إدارة أوباما دعمها للمتظاهرين.
في ليبيا، حيث كانت تركيا تتمتع بعلاقات سياسية أفضل ومصالح اقتصادية أكبر، اتخذ أردوغان منعطفًا أكثر حدة. فكان في البداية يعارض تنفيذ كل من العملية العسكرية والعقوبات الاقتصادية ضد النظام الليبي حتى البرهة الأخيرة، حين صرّح قائلًا: "ما الذي يريده حلف الـ"ناتو" من ليبيا؟". ورغم ذلك، مع إطلاق العمليات الجوية ضد القوات الليبية في عام 2011، تراجعَ أردوغان عن معارضته وانحاز إلى حلفائه في "الناتو"، فأصبح في النهاية من أهم الجهات الفاعلة في النزاع.
على النحو نفسه، حاولت تركيا في البداية أن تؤدي دور الوسيط في الأزمة السورية. فكانت حكومة "حزب العدالة والتنمية" قد حققت تعاونًا غير مسبوق مع النظام السوري في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. وعلى أساس هذه الصداقة القوية، حاولت أنقرة إقناع بشار الأسد بإجراء إصلاحات سياسية فور بدء الاحتجاجات. لكن في غضون بضعة أشهر، كانت تركيا تُسلّح المعارضة السورية وتحوّلت إلى العدو اللدود للأسد. ومن الممكن اعتبار أن أردوغان توقّع تكرار السيناريو الليبي في حال تدهور حالة حقوق الإنسان في سوريا.
في الأزمة القطرية التي حدثت عام 2017، كررت تركيا النموذج الذي تتحول فيه إلى طرف مشارك بعد محاولة التوسط. ففي بداية الأزمة، أيّدت أنقرة دور الوساطة بين قطر والبلدان العربية الأربعة – أي السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر. ووفقًا لمولود جاويش أوغلو الذي كان وزير الخارجية آنذاك، "قد تعاني البلدان من بعض المشاكل بينها، لكن لا بد من أن يسود الحوار في كافة الظروف". ومع ذلك، بعد بضعة أيام، وصف أردوغان الحصار على قطر بأنه غير إنساني وغير إسلامي. ولم توفّر تركيا فحسب الدعم السياسي واللوجستي للقيادة القطرية حين كانت بأمس الحاجة إليه، بل انحازت أيضًا بشكلٍ علني ضد البلدان العربية الأربعة. لكن نظرًا إلى الحجم الكبير للعلاقات الاقتصادية التركية مع السعودية والإمارات، ربما بدا أن الحفاظ على موقف حيادي هو الأنسب لتحقيق مصالحها على المدى الطويل.
تُظهر كل هذه الأمثلة كيف يمكن أن تتخذ القيادة التركية – التي يمثّلها أردوغان – منعطفات حادة في المسائل المهمة المتعلقة بالسياسة الخارجية، لا سيما إذا شعرت هذه القيادة أن أنقرة تُفوّت إحدى الفرص. وقد تكون هذه المواقف مرتبطة بالنظام الاستبدادي في تركيا وشخصية أردوغان، بما أنه ليس دبلوماسيًا يتمتع بالصبر اللازم لانتهاج استراتيجيات طويلة المدى. بل هو بالأحرى شخص استغلالي ذو طبعٍ حاد ينتهز الفرص. وبعباراتٍ أخرى، لا يستمتع أردوغان بالجلوس على الحياد لمدة طويلة.
هل هذا زواج مصلحة؟
فيما بدأت روسيا هجومها الشرس على أوكرانيا، مال موقف تركيا إلى مواقف البلدان الأخرى في حلف "الناتو"، مع بقائها حذرة في محاولة لعدم إثارة حفيظة موسكو. فقد طلب أردوغان من البلدان الغربية في 25 شباط/فبراير اتخاذ تدابير حاسمة، وعدم الاكتفاء بالأقوال أو النصائح. وفي اليوم نفسه، ناقش وزير الدفاع خلوصي آكار مسألة المساعدات "الإنسانية" مع نظيره الأوكراني، وقامت أنقرة منذ ذلك الحين بإرسال مساعدات إلى أوكرانيا عبر بولندا. حتى أن تركيا قررت تقييد عبور السفن الحربية الروسية من المضائق. ويجعل كل ذلك تركيا أكثر ميلًا إلى التعاون مع حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. إلا أن الولايات المتحدة وأوروبا يجب أن تنظرا إلى هذه الجهود كزواج مصلحة وليس بمثابة تحول حقيقي في العلاقات الأمريكية-التركية.
بين الولايات المتحدة وروسيا، يطرح العدو الأقرب مزيدًا من الخطر على أحلام تركيا التوسعية في منطقتها. فانحازت تركيا وروسيا إلى كتلتين مختلفتين في كافة المسائل الإقليمية تقريبًا، فيما كانت شمال سوريا المنطقة الوحيدة التي نجحت فيها أنقرة وموسكو في العمل بشكلٍ تعاوني. ومع ذلك، حتى هذا التعاون المحدود بقي حيًا بشق الأنفاس، وعلى حساب طائرة روسية وعشرات الخسائر التركية أو ربما المئات منها.
شكت أنقرة كذلك من الولايات المتحدة بشأن سياسات هذه الأخيرة في شمال شرق سوريا. لكن ما أزعج الأتراك هي شراكة الولايات المتحدة مع الأكراد وليس الانخراط العسكري الأمريكي بحدّ ذاته. وفي الواقع، منحت التدخلات العسكرية الأمريكية في المنطقة فرصةً لأنقرة حتى تؤدي دور "الشريك الإقليمي الأساسي" وتجمع لاحقًا انتصارات سياسية واقتصادية وعسكرية. لذلك، كان أردوغان لا يزال غاضبًا في عام 2016 بسبب فشل البرلمان التركي عام 2003 في تمرير قانون يسمح للولايات المتحدة بفتح جبهة شمالية ضد نظام صدّام.
إذا أُجري تقييم منطقي لمخاطر تركيا وتهديداتها ومصالحها إلى جانب ذهنيتها القومية والمعادية للغرب، يُقدَّر أن أنقرة ستتبع سياسة الحياد الحذر إزاء الحرب في أوكرانيا. غير أن الحوادث السابقة تُظهر أن القيادة التركية لا تُحسن الحفاظ على سياسة كهذه، رغم مكانة روسيا الفريدةفي التفاهم الاستراتيجي التركي. فلا تشكّل موسكو خصمًا عاديًا مثل سوريا أو ليبيا أو السعودية أو حتى إيران.
مع ذلك، ستكون جدية الأزمة الأمريكية-الروسية والتصميم الأمريكي الواضح على التحرّك أمرين حاسمين بالقدر نفسه بالنسبة للخطوات اللاحقة التي ستتخذها أنقرة. وبعباراتٍ أخرى، يجب ألا نستبعد قيام تركيا بخطوات أكثر تشددًا إزاء روسيا، لا سيما إذا قررت الولايات المتحدة اتخاذ تدابير ملموسة أكثر، لكن يجب أيضًا ألا نتوقع من هذا التعاون المحتمل أن ينقذ العلاقات الأمريكية-التركية.
من ناحية الطموحات التوسعية والصفات العدوانية والمشاعر المعادية للغرب والطبع الاستبدادي، لا يختلف أردوغان كثيرًا عن بوتين كقائد – ولو كانت قدراته العسكرية أضعف. فهو يتوق على غرار بوتين إلى إعادة رسم حدود أراضيه وإنشاء منطقة نفوذ واسعة.
نظرًا إلى طبيعة أردوغان، قد يؤدي استمرار الأزمة في أوكرانيا بدون حل أو تحقيق انتصار باهظ الثمن إلى تشجيعه حتى على اتخاذ خطوات أكثر جرأة على مقربة من تركيا للاستفادة من تشتت روسيا. وفي هذا الصدد، ليس من المفاجئ جدًا أن العلاقة بين الولايات المتحدة وتركيا فقدت أسسها والتفاهم المبني على القيمة. ويمكن أن تتطابق مواقف واشنطن وأنقرة في بعض المسائل – وحتى في أهمها – إلا أن عدم انسجام الرؤى والمصالح بين الطرفين، ناهيك عن الافتقار إلى الثقة المتبادلة، يحولان دون تحقيق تقارب فعلي.