- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تصاعد العنف: "حماس" تحاول إعادة تشكيل المشهد السياسي في الضفة الغربية
من غير المرجح أن تخاطر حركة حماس بالدخول في حرب شاملة ضد إسرائيل من غزة كما فعلت في عام 2021، وذلك رغم الفرصة المتاحة لديها لتوسيع نفوذها بشكل فعال في الضفة الغربية.
في تصريح متلفز حديث، ألمح مروان عيسى، نائب القائد العام لـ"كتائب القسام"، الجناح العسكري لحركة "حماس"، إلى تصعيد محتمل من قطاع غزة ردًا على الإجراءات الإسرائيلية في الضفة الغربية. فقد أعلن عيسى أن إعطاء الأولوية لمقاومة الضفة الغربية والقدس لا يعني أن "غزة ستبقى صامتة"، وحذر من أن يؤدي تغيير الوضع الراهن في المسجد الأقصى إلى حدوث "زلزال" يضرب المنطقة بأسرها.
يكشف هذا التصريح الجريء الذى أصدر في بداية شهر رمضان المبارك، عن إمكانية تجدد التهديد من قطاع غزة، ما يذكرنا بنزاع أيار/مايو 2021 حين شنت "حماس" هجمات صاروخية مفاجئة على القدس وتل أبيب ردًا على أعمال إسرائيل في القدس الشرقية والمسجد الأقصى آنذاك، ما أدى إلى اندلاع حرب استمرت 11 يومًا.
لكن الوضع الحالي يبدو فريدًا نوعًا ما مع تطور عنف "حماس" وتكتيكاتها في الضفة الغربية. ويبدو أن "حماس"، في صراعها المستمر مع إسرائيل، تفضل بشكل متزايد نهجًا دقيقًا ولكن فعالًا، بحيث تصعد العنف في الضفة الغربية تدريجيًا لتحدي إسرائيل وتقويض السلطة الفلسطينية. ويبدو هذا التكتيك جذابًا أكثر بكثير من شن حرب شاملة عبر جبهة غزة، بما أن التكاليف قد تفوق الفوائد المحتملة.
الديناميات الحالية
خلال السنوات الست عشرة الماضية، كان نفوذ "حماس" في الضفة الغربية غير مستقر في أحسن الأحوال بعد أن تسببت سيطرة الجماعة الإسلامية على قطاع غزة عام 2007 بنزاع فلسطيني داخلي. ومنذ العام 2007، مارست السلطة الفلسطينية ضغوطًا كبيرة على وجود "حماس" في الضفة الغربية، فقمعت الناشطين، وجففت الموارد المالية، وأغلقت الجمعيات الخيرية، والأهم من ذلك أنها أبطلت سيطرة "حماس" على المساجد. وفي أوائل العام 2022، أطلقت موجة من الهجمات الفلسطينية القاتلة شرارة حملة عسكرية إسرائيلية أطلقت عليها تسمية "كسر الموجة"، بدأت في 31 آذار/مارس 2022. ومن خلال الحملة، نفذت إسرائيل غارات شبه يومية لاعتقال مسلحين فلسطينيين ومصادرة الأسلحة.
لكن مع بدء هذه التطورات، شهدت الضفة الغربية بروز جماعات مسلحة جديدة وتصعيدًا في عنف المستوطنين. فالتصعيد الأخير في الصراع المسلح والجمود الحالي في الحوار السياسي الفلسطيني الإسرائيلي يوفران الآن لـ"حماس" فرصة لإعادة تنظيم صفوفها داخل الضفة الغربية. بينما تشهد السلطة الفلسطينية تراجعًا في سيطرتها على مناطق من الضفة الغربية، بما في ذلك نابلس وجنين، كما لم يؤدِ المشهد الداخلي الفوضوي في إسرائيل إلا إلى زيادة التوترات. بالإضافة إلى ذلك، فإن حكومة نتنياهو اليمينية المتطرفة، التي تتميز بدعمها غير المسبوق للمستوطنين، تؤزم الوضع المتوتر أصلًا. ونتيجة لذلك، أصبحت الضفة الغربية ساحة معركة للاشتباكات المتكررة وسقوط ضحايا فلسطينيين كل أسبوع تقريبًا.
في ظل توتر الوضع الأمني، اكتشفت "حماس" فرصة ذهبية لإحياء أنشطتها العسكرية الموجهة ضد إسرائيل والمستوطنين، كما انخرطت في صراع على السلطة مع السلطة الفلسطينية لإضعاف سلطة رام الله أكثر. وصف رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، إسماعيل هنية، في خطاب ألقاه مؤخرًا، الضفة الغربية بأنها "ساحة معركة استراتيجية"، بينما أشار إلى أن مرحلة جديدة من النزاع مع إسرائيل تلوح في الأفق، على الرغم من التنسيق الأمني الذي تقوم به السلطة الفلسطينية.
ساحة معركة جديدة
يعتمد هدف “حماس"، المتمثل باستعادة نفوذها السابق في الضفة الغربية، على ثلاثة عوامل حاسمة. أولًا، إذا استمرت الإجراءات الاستيطانية الإسرائيلية العدوانية في الضفة الغربية، سيتحول المنظور الفلسطيني تدريجيًا نحو الانتفاضات العامة والمسلحة. تنسجم هذه البيئة مع استراتيجيات المقاومة والشرعية الشعبية التي تتبعها "حماس"، والمتجذرة بعمق في مبادئ محاربة الاحتلال الإسرائيلي والسعي لتحرير فلسطين.
يبدو أصلًا أن فلسطينيي الضفة الغربية يصبحون على ثقة أكثر بأن المقاومة المسلحة هي السبيل الوحيد لتحدي توسع المستوطنات، لا سيما مع استمرار الجمود في حقبة ما بعد اتفاقات أوسلو.
يشير استطلاع رأي حديث أصدره المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في كانون الأول/ديسمبر 2022 إلى تزايد الاستياء من نهج السلطة الفلسطينية، إلى جانب زيادة الدعوات إلى الانتفاضات المسلحة. فضلًا عن ذلك، أظهر الاستطلاع أن الدعم لحل الدولتين الذي كان شائعًا في يوم من الأيام قد تضاءل مع استمرار التوسع الاستيطاني وتراجع الحلول السياسية. يمثل ذلك تحولًا تاريخيًا في الرأي العام لم نشهده منذ نهاية الانتفاضة الثانية عام 2005، ما يوفر أرضًا خصبة لـ"حماس" لتوسيع نفوذها وأنشطتها داخل الضفة الغربية.
ثانيًا، تتزايد أنشطة "حماس" في الضفة الغربية. في حين أن وجودها لم يكن هو الشرارة وراء المواجهات المسلحة الأخيرة في المنطقة، استغلت "حماس" بمهارة الوضع الحالي لتوسيع نفوذها. وخير مثال على ذلك هو دعمها الإعلامي والمالي لمجموعة "عرين الأسود"، وهي جماعة مسلحة ظهرت في نابلس في أواخر العام 2022 واكتسبت شعبية فلسطينية واسعة النطاق. بالإضافة إلى قيام أعضاء "حماس" بتأسيس أنفسهم في هذه التنظيمات المشكلة حديثًا، شهد نشاط جناحها العسكري "كتائب القسام" زيادة ملحوظة، خصوصًا في منطقة جنين. ومن المثير للاهتمام أن "كتائب القسام" بدأت تظهر علنًا إلى جانب فصائل مسلحة أخرى أكثر نفوذًا في شمال الضفة الغربية، مثل "كتائب الأقصى" التابعة لـ"فتح" وأعضاء حركة "الجهاد الإسلامي الفلسطينية".
نتيجة لذلك، لعبت "حماس" مؤخرًا أيضًا دورًا فعالًا في التأثير على مجرى الأحداث في جميع أنحاء الضفة الغربية. ومن الأمثلة اللافتة على ذلك شن أحد المسلحين من "حماس" هجومًا عبر إطلاق النار في اليوم ذاته من قمة العقبة، وهو مؤتمر متعدد الأطراف يهدف إلى تهدئة التوترات الأمنية المتصاعدة وتصاعد العنف المسلح في الضفة الغربية. أسفر الهجوم عن مقتل مستوطنين إسرائيليين، وأدى في نهاية المطاف إلى حالة غليان لدى المستوطنين في حوارة، تخللتها اشتباكات مع فلسطينيين وهجمات بإضرام النيران ألحقت أضرارًا كبيرة بممتلكات الفلسطينيين. وبدلًا من تخفيف حدة النزاع في قمة العقبة، لم تؤدِ أفعال "حماس" إلا إلى تفاقم الصراعات الداخلية.
أخيرًا، يعتمد نمو "حماس" في الضفة الغربية بشكل كبير على وجود حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة تؤيد المستوطنات وترفض أي شراكة سياسية مع نظام رام الله. ولا شك في أن هذه المواقف الحكومية تقوض وتهين السلطة الفلسطينية الضعيفة أصلًا، التي ليس لديها بعد خليفة للرئيس محمود عباس البالغ من العمر 87 عامًا وتواجه تراجعًا في الموارد المالية. ومع انحسار السيطرة الأمنية للسلطة الفلسطينية في مناطق مثل شمال الضفة الغربية وتنامي المشاعر الشعبية المعادية للإدارة الإسرائيلية، لدى "حماس" فرصة لاستثمار المزيد من الموارد في الضفة الغربية بدلًا من المراهنة على حرب مع إسرائيل انطلاقًا من غزة.
لا حرب ولا هدوء
على الرغم من أن "حماس" ستسعى جاهدة للحفاظ على موطئ قدم لها في غزة، من خلال تعزيز قدراتها العسكرية والاستعداد لصدام آخر كبير مع إسرائيل، من غير المرجح أن تكون هذه المعركة وشيكة. فقد يؤدي بدء النزاع إلى تعريض أهداف "حماس" في الضفة الغربية للخطر، الأمر الذي تريد بالتأكيد تجنبه نظرًا للفرص السياسية والاجتماعية المتاحة أمامها.
قد تؤدي مواجهة إسرائيل إلى وقف إطلاق نار متوتر، حيث تجد "حماس" نفسها تقدم تنازلات سياسية غير مرغوب بها في الضفة الغربية، ما يعود بالنفع في النهاية على السلطة الفلسطينية وإسرائيل. يمكن أن تبطل هذه النتائج التقدم الطفيف الذي أحرزته "حماس" في الضفة الغربية والسيطرة النسبية في قطاع غزة. منذ حرب أيار/مايو 2021، قدمت قطر مساعدة مالية كبيرة لغزة، حتى أن إسرائيل سمحت لنحو 20000 فلسطيني بالعمل على أراضيها، وهو ما يمثل زيادة كبيرة مقارنة بـ 7000 آلاف عامل الذين سمح لهم بالعمل، ما وفر لهؤلاء الأفراد دخلًا أعلى مما هو متاح لمعظم سكان غزة. ترى حماس أيضًا أن هناك فرصة لتعزيز اقتصاد قطاع غزة من خلال تطوير أحد حقول الغاز الطبيعي قبالة ساحل غزة. كما تجرى حاليا مباحثات غير مباشرة بقيادة مصر وتشمل إسرائيل والسلطة الفلسطينية وحماس بهدف التوصل إلى حل وسط بين جميع الأطراف بشأن هذا المشروع. ويُعد هذا التدفق النقدي ضروريًا لـ"حماس" للحفاظ على الاستقرار الداخلي في غزة، لا سيما مع بلوغ معدل البطالة 50٪.
إلى جانب المصالح الداخلية لـ"حماس" في قطاع غزة، لا تتوافق الظروف الحالية في غزة وإسرائيل والضفة الغربية ببساطة مع الظروف التي أدت إلى حرب أيار/مايو 2021. حيث استفز قرار السلطة الفلسطينية تأجيل الانتخابات التشريعية في نيسان/إبريل 2021 "حماس" و دفعها إلى المواجهة انذاك، علمًا أن هذه الأخيرة اعتبرت هذا القرار محاولة متعمدة لتقويض سيطرتها. بنتيجة الحرب التي استمرت 11 يومًا ومع انتشار العنف الآن على نطاق واسع في الضفة الغربية، ترى "حماس" أزمة شرعية تلوح في أفق السلطة الفلسطينية ولا تشعر بأن خياراتها محدودة كما حصل سابقًا.
ومع ذلك، فإن الهدوء التام في قطاع غزة ليس ممكنًا بالكامل بالنسبة لـ"حماس". ففي حين أن تجنب النزاع المباشر مع إسرائيل يصب في مصلحتها، قد يشهد قطاع غزة اضطرابات ردًا على التطورات في الضفة الغربية. في هذا السيناريو، قد تسمح "حماس" لفصائل أصغر بإطلاق صواريخ على الأراضي الإسرائيلية القريبة من الحدود كردّ تكتيكي. في غضون ذلك، يبدو أن "حماس" مستعدة لتقبّل عواقب الانتقام الإسرائيلي من خلال الضربات الجوية على منشآتها العسكرية عندما يتم إطلاق صواريخ باتجاه إسرائيل. كما أن إمكانية حدوث مظاهرات على طول حدود غزة ليست مستبعدة كذلك، لا سيما نظرًا للأحداث الأخيرة. ففي 24 شباط/فبراير، اندلعت مواجهات تخللتها أعمال شغب بالقرب من الحدود ردًا على مقتل 11 فلسطينيًا خلال عملية عسكرية في مدينة نابلس.
يتضح أن تكلفة الحفاظ على خط رفيع بين الهدوء والعنف هي أقل بالنسبة لـ"حماس" من تكلفة الانخراط في حرب شاملة. ويسمح لها هذا التكتيك بادعاء المقاومة، مع التحكم أيضًا بالسلوك غير المتوقع لجماعات مثل "الجهاد الإسلامي". ويمكن أن يكون تكتيك "اللاحرب واللاتهدئة" هذا طريقة فعالة نسبيًا لـ"حماس" لتحقق أهدافها المباشرة في كل من الضفة الغربية وقطاع غزة.
في النهاية، يبدو أن البيئة الأمنية المتطورة في الضفة الغربية قادرة على تغيير الديناميكيات السياسية إلى حد كبير. فترى "حماس" في الضفة الغربية ساحة معركة حاسمة ضد إسرائيل وحلبة منافسة جيوسياسية مع السلطة الفلسطينية الهشة. في الوقت عينه، لا تتردد في خلق حالة من عدم الاستقرار مع إسرائيل في قطاع غزة طالما أنها لا تتطور إلى نزاع مفتوح. ولكن إذا برزت ظروف معينة، مثل ضرورة الدفاع عن إنجازاتها في غزة أو تطورات استثنائية في الضفة الغربية، فقد تصبح المواجهة المفتوحة مع إسرائيل حتمية فيما تسعى "حماس" جاهدة للتمسك بأهدافها الاستراتيجية.