- تحليل السياسات
- منتدى فكرة
تسريبات المالكي: ثقافة الظل للسياسة في العراق
تسلط التسريبات الصوتية للمالكي الضوء على الهشاشة المتأصلة للسياسيين العراقيين، كما تُقدم نظرة ثاقبة على السياسات القائمة في العراق.
كشفت التسجيلات الصوتية المسربة لرئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي– وهي تسريبات لا يكفّ عن إنكارها– المستور من المحادثات الخاصة السرية التي تدور في أوساط النخبة الحاكمة في البلاد. ووفق المدوّن العراقي المقيم في الولايات المتحدة الذي نشر التسريبات علي فاضل، فهي لا تفتح نافذة على حدث غير مألوف. ونظرًا إلى ما نعرفه عن السياسة العراقية، ليست هذه التسريبات سوى غيض من فيض، وبإمكاننا التعامل معها على أنها جانب برز حديثًا لظاهرة الظل. وقد وعد علي بأن الآتي أعظم.
للتسريبات عدة جوانب: المنافسة بين الشيعة، والسياسة المتأثرة بالشخصية، والارتباط بدول أخرى [إيران]، وخطط الانقلاب، وغيرها. لكن ظروف وإطار التسجيلات الصوتية يعكسان أيضًا التحديات التي تواجهها السياسة في العراق. ولفهم ذهنية النخبة الحاكمة في العراق وعالمها الداخلي، لا بدّ من التركيز على هذه المحادثات والاجتماعات، على الرغم من أسلوبها غير الواقعي. فمحتواها يعكس بطرق عدة روحية الدائرة السياسية الداخلية بشكل أفضل من الخطاب العام إلى جانب رغبة الفرد المعني المستترة إنما الحقيقية.
ويوصف أسلوب الاجتماع المذكور في التسريبات بالـ"كعدة" باللهجة العراقية العامية، وهي تعني اجتماع غير رسمي وشبه خاص. وهي بالفعل اجتماعات شائعة للغاية في المجتمع العراقي، ولا سيما في أوساط رجال السياسة. كما أنها تختلف عن السياسة المتداولة في المجال العام بعدة طرق. فلقاءات السياسيين العراقيين الحصرية ليست اجتماعات خاصة بحد ذاتها. وعلى الرغم من أنها قد تحصل في مكان خاص، على غرار منزل أحد المشاركين، من المحتمل أن يكون من بين المدعوين أفراد من خارج الأسرة كالحراس الشخصيين وأعضاء مقربين من الحزب أو أنصار الفصيل، ومؤيدين وغيرهم. وبالتالي هذه الاجتماعات ليست خاصة لكنها ليست عامة بالكامل، بل يمكن وصفها على أنها مساحات مختلطة للأداء السياسي يجتمع فيها رجال السياسة والمقربون منهم لممارسة فن القول والفعل (السلطة).
وقد يتراوح الغرض من هذه اللقاءات وصيغتها بين التخطيط (أو التآمر) في مجال السياسة والعمل والترفيه. لكن سمتها الرئيسية تبقى نفسها، أي أن الهدف الرئيسي للاجتماع هو إرضاء غرور الشخص الذي يكون محورها (عادةً ما يكون رجلًا). فطريقة توجّه الحاضرين إليه وتحدثهم معه، المغلفة بالإعجاب والثناء، تزيد من أهمية هذه الشخصية وتعكس رغبتها في معاملتها بهذه الطريقة. وتحمي هذه الفقاعة الاجتماعية المصنّعة أيضًا القادة السياسيين من المساءلة والانتقاد، بحيث تظهرهم بمظهر الحكام وليس موظفين في القطاع العام. ولهذه الصورة جذور راسخة تصون التقليد القديم بتملّك منصب قيادي وليس العمل في خدمته.
وفي إطار هذه البيئة المصنّعة، تختلف النقاشات الدائرة عن الخطابات السياسية الرسمية والمدروسة. وتبقى الطبيعة الانعزالية والمقيدة للخطاب السياسي (الفارغ) المعدّ للاستهلاك العام أحد أسباب الصراحة التي تطغى على محادثات المجالس الصغيرة. وبالطبع لا يمكن لأي شخصية سياسية التحدث بصراحة مع الشعب. لكن استياء غالبية الشعب من السياسيين، ولا سيما خلال العقد الماضي، صعّب عليهم للغاية الاستمتاع بالمشاركة في أي نشاط عام. ويمكن النظر إلى العلاقات الإنسانية بين المشاركين في "الكعدة" على أنها نوع من أنواع "التشكيل" ألا وهو "شبكات ديناميكية من الأشخاص المرتبطين ببعضهم عبر تبعيات متبادلة في الزمان والمكان" أو كما عرّفه نوربرت إيلايس الذي اخترع العبارة "إنه بنية من الأفراد المتآلفين والمرتبطين ببعضهم، إنه شبكة من التبعيات التي يشكلها الأفراد".
وناهيك عن أن هذه الشخصيات السياسية تشكل جزءًا من ترسيخ تقليد السلطة في المنطقة، إلا أن أحد أسباب انخراطها في أنشطة مماثلة هو أنها شخصيات عادية. فمعظم الشخصيات السياسية العراقية لا تملك الخبرة أو المعرفة أو الثقة السياسية. وداخل المشهد السياسي العراقي، قد تعكس عبارة "سياسيو الصدفة" الواقع السائد بأفضل صورة.
فعلى سبيل المثال، وكما ذكر زلماي خليل زاد السفير الأمريكي السابق إلى العراق، "لم يكن نوري المالكي معروفًا في الساحة السياسية العراقية إلى أن "دخل في صباح أحد الأيام جيف بيلز إلى مكتبه حاملًا مجموعة من السير المهنية وسأله "ما رأيك بنوري المالكي"؟
بعد ذلك، قاما بترتيب اجتماع في مجلس النواب وحرصا على تولي المالكي السلطة. بعبارة أخرى، لم يكن المالكي شخصية معروفة أو مؤثرة بأي شكل من الأشكال، لكنه أصبح خيارًا ممكنًا عندما كانت إيران والولايات المتحدة تبحثان عن شخصية وسطية، وهي لعبة غالبًا ما كانت نتائجها عكسية.
وتسلّط طبيعة هذه الاجتماعات والمحادثات الضوء على هشاشة السياسيين العراقيين المتأصلة، التي تدفع بهم إلى السعي إلى ترسيخ سلطتهم من خلال قمع أي انتقادات أو آراء معاكسة، وإقامة حواجز بينهم وبين الشعب. فعالمهم يتّسم بالاقتتال الداخلي؛ كما يحصل بين المالكي ومقتدى الصدر. وفي هذا العالم، تتحول نظريات المؤامرة إلى مبررات لرؤى عالمية راسخة، وتتلخص خصائص الخطاب السياسي بالهشاشة والتفاعلية والنرجسية.
وتُعتبر أساليب تجلي هذه الحاجات غير واقعية بعدة طرق. فالحفاظ على دائرة قادرة على المساعدة في تلبية هذه الحاجات يقوم على تدفق المال وتوزيعه بشكل جماعي. ويمكن رصد ذلك في محادثات المالكي في التسجيلات المسربة حيث يطلب الضيوف الدعم المالي لتشكيل جماعات مسلحة في كل محافظة من محافظات العراق.
وتكشف هذه الاعترافات أيضًا عدم رغبة النخب الحالية بالتخلي عن السلطة للأخرين، فتطوقها للسلطة هو السبب الرئيسي لاعتمادها على صلة القرابة وشبكات الأقارب والعشائر– التي تجمعها المحاباة الناتجة عن ترسيخ السلطة، وجميعها مرتبطة ببعضها البعض بنفس رباط المحسوبية التي يتم ترسيخها بهدف تعزيز السلطة. وتجسد مقولة المالكي الشهيرة "لن نتخلى عن السلطة" هذه الفكرة، ففي أثناء تجمع محدود في عام 2013، هتف أحد الأشخاص للمالكي وقال لن نتخلى لهم عن السلطة، الآن جاء المالكي ليدلي بتصريحه الشهير قائلاُ، "هل هناك من يستطيع أن يأخذها [السلطة] منا حتى نعطيها له؟ "، وهو شعور قد تم اختزاله وإحيائه في الوعي السياسي الجماعي للعراقيين. فالانتقال إلى سياسة القرابة شائع في العراق ويترك آثارًا سلبية على مستقبل البلاد الديمقراطي. ويبدو أن كافة هذه السمات والرغبات تتماشى مع الاتجاه السائد حاليًا لعصر الرجال الأقوياء المعادين للديمقراطية.
وفي إطار المشهد العام، يمكن للتسجيلات المسربة شرح سبب هيمنة سياسة السلالة على المؤسسات الحكومية الرئيسية في العراق. فهذه المؤسسات الحصرية تعيق مسار التطور، حيث أن اجتماعات الدائرة الصغيرة هي مؤسسة تخدم وتحمي شخصية محددة بدلًا من البلاد ومصالحها. ومن المهم أن يفهم العراقيون والمراقبون الخارجيون على السواء طبيعة هذه الدوائر وتأثيرها على القرارات السياسية، بما أنه لا بدّ من تبديد هذا النفوذ لإصلاح السياسة في العراق. وعمومًا، تُعتبر هذه الاجتماعات دليلًا على أن الثقافة والتقاليد قد تبقى عائقًا أمام الحداثة بكافة أشكالها.